جنون الولع

الثلاثاء 2021/06/01
لوحة: محمد الأمين عثمان

مما روى عن محمد عبده أنه حضر وصلة غنائية سوبرانو برفقة صديقه اللدود المفكر العربي الشهير برفضه للفكر الديني  شبلي شميّل؛ الذي كان يقول بمذهب الطبيعة الذي كان رائجا جدا مع نهاية القرن الـ19، وأنه في لحظة إبداعية ما تفوقت فيها حنجرة المغنية صاح محمد عبده “الله الله!”… ثم التفت إلى صديقه ممازحا “وأنت كيف ستهتف: الطبيعة الطبيعة!؟”.

قرأت هذه الطرفة منذ ثلاثين سنة أو أكثر وراقتني كثيرا لما فيها من حواش جميلة شعرت دائما بحاجتنا إليها: الصداقة المتحررة من حرج المذهب، شيخ الإسلام الذي يحضر حفلا غنائيا في الأوبرا رفقة صديق يوصف بالملحد من أجمل ما يذكر له مرثية الشيخ حينما مات… الخ.

لكن أعود إليها اليوم في هذا المقام لكي أراجع ثقافة الطرب في ثقافتنا وما آل إليه الوضع منذ جيل أو جيل ونيف.

من الضروري الوقوف عند فكرة التصالح المنهجي والوجداني مع حالة الطرب عند شخص عالي الرمزية في الفكر الديني مثل محمد عبده.

يروقني كثيرا التأمل المنهجي الشمولي (أو ما نسمّيه عادة بالتفلسف) على الطريقة التي وصفها نيتشه وهو يقول إنه يتمثل كل فلسفة على أساس كونها السيرة الذاتية لعقل ما. أو كما سيقول لاحقا جيل دولوز “أحب العمل على مواد الفكر الخام؛ بمعنى ألا تبحث فيما يسمّى عادة المباحث الفلسفية بل فيما جرت العادة الفلسفية على تركه واعتباره موضوعات لا ترقى إلى مصاف المباحث الفلسفية”.

سيقول ميشال أونفري بعد هذين بمدة، وبكمّ محترم من التأمل “أحب الفلسفة التي تستعمل ضمير المتكلم؛ التي تناقض أحيانا أجزاء منها والتي تنطق عن جسم يحاول أن يتعرف على العالم لا عن عقل يتعقل العالم بطريقته هو لا بالطريقة التي يأتي بها العالم”.

وفي هذا الأفق  التأمل يأتيني معنى الطرب. الطرب الذي يحيل في القواميس على:

مَن خف واهتز من فرحٍ وسرورٍ أو من غمٍّ وحزنٍ (كم غريب استعمال العرب للكلمة الواحدة للدلالة على المتناقضين شكلا والمتجاورين عصبيا، كما سيتضح لاحقا).

طرب معناها أيضا: ارتاح ونشط واهتز، وكذا : تغنى لإيقاع ما.

طرّب: مده ورجعه وحسنه، ويقال طرّب عن الطريق مال.(ولا طرب في مخيلتنا التي لا تأبه كثيرا بما حوته القواميس العتيقة دون ميل أو تمايل)… وفي كل ذلك ما تذكره القواميس أيضا من “أثار النفس وحركها”….

القواميس بيوت هادئة للذاكرة المشوشة. لذا فالمعاني التي تربض في القواميس معان نثق فيها مع رغبة في الحفر أبعد.

هنالك شعور دائم بأن القاموس حارس كسول يقف على أسوار اللغة. ولكنه يلتقط ما يسكن عواصم الحس والاستعمال غاضا الطرف عن الحواشي. والمشكلة مع المادة اللغوية التي نحن بصددها هي أنها ترتبط بحواشي المشاعر. كيف تلتقط آلة التصوير التي تستخدمها القواميس شيئا متحركا مثل الطرب.

هل الطرب هو خلاصة حسابية جبرية لأوصاف من ذهب بهم الطرب في كل مذهب؟

ربما.

كنا صغارا في البيت العالي الضيق في مساحته والواسع في أفق الطرب في مدينة طفولتي الأولى الميلية. وكان شقيقي الأصغر محمد يستمع إلى مغن كان منتشرا جدا أيامها: الشاب نصرو… في عائلة متعودة على موسيقى أكثر صرامة وأشد نقاوة وأقل انفلاتا من سنن الذوق “المثقف الراقي”: الشرقي الطربي العريق، الغربي ذو الكلمات الشعرية الجميلة؛ أشياء تتراوح بين أم كلثوم وجاك بريل؛ وكلاهما بقصي تلقائيا الشاب نصرو وموسيقى الراي “الهابطة الواطية الساقطة” بكلماتها السوقية البسيطة… الخ . كان محمد مراهقا صعب المراس وكان ينظر إليه في الحالة العادية بعين الريبة، مما يؤهله لعين عديمة الرحمة من قبل كبيري العائلة: والدي المتهيب عموما من الذهاب بعيدا مع الموسيقى، وشقيقي الأكبر عبدالقادر عالي الثقافة رفيع الذوق… الخ.

منذ نصف قرن أحاول أن افكك ما يختفي داخل (الخ …) وتبدو لي مساحة غير قابلة للسيطرة وللدخول تحت طائلة الوصف. تماما مثل الطرب.

اهتزاز من فرح أو حزن… خفة التمايل مع الموسيقى وثقل الوقوع تحت الغمّ… كلاهما تلفهما داخل القاموس العربي؛ مغمض القلب رغم انفتاح العين، كلمة واحدة هي “الطرب”.

كان محمد يستمع متلويا لبعض أغاني نصرو حينما باغته عبدالقادر في تلك الحال فنهره بطريقة الأخ الأكبر الكلاسيكية: يا لها من طريقة غريبة للتفاعل مع الشاب نصرو!

الحاصل في الدماغ المثقف الفرانكوغربي لشقيقي هو أن هذا الصنف من التفاعل محصور بأشياء دون أشياء أخرى. أو ربما تقتضي الثقافة إقصاء بعض الموسيقى من شرف التمايل والخضوع لسلطة النغم التي تتحكم في الجسم (وفي الفلسفة؛ حسب الإحداثيات السابق ذكرها نقلا عن ميشال أونفري..).

في البيت نفسه كنت أنا أتراوح بين الخامسة عشرة.. وهي المرحلة التي تكسبك بعض الاستقلال الشعوري والفكري بحكم توسعة مباغتة في قاموسك تسمح لك بأخذ حبل الكلام من أيدي الكبار في المجالس العائلية، وإن كان الأمر لا يتم دائما بتوفيق كبير؛ فكثيرا ما تشعر أن ما قلته ليس هو ما أردت قوله، أو تشعر بأن الأثر الذي أردته ليس هو الذي حصلت عليه، فتتوعد العالم لكي تكون أذكى في المرات المقبلة، وبين العشرين أين تكتشف أريحية جديرة بالحماس الذي في “الطرب” هي أريحية استعمال ضمير المتكلم “أنا غر موافق”، “أعتقد..”، “في رأيي…”، “من حقي، شخصيا.. الخ”.

في البيت نفسه كنت أتراوح بين هاتين المرحلتين من العمر مستمعا إلى الموسيقى الشرقية الراقية بطرب عميق في الغرفة وسط الظلام… كنا في بيت الطبقة المتوسطة النموذجي في الجزائر: بيت بثلاث غرف (70 م2)… وكان الحصول على خصوصية تحديا صعبا. غرفة النوم التي لا يشغلها الوالدان تشغلها البنتان، ثم البنت الوحيدة (بعد الزواج المبكر للكبرى)… وغرفة الوالدين لا يجوز دخولها إلا لأجل الدراسة. فإذا دخل معك جهاز الستيريو فذلك أمر مشبوه جدا يعلق عليه الوالد/رب العائلة الذي يذكّر بمعنى الرب أكثر مما يذكّر بمعنى العائلة في أغلب الأحيان. الأم تسميه الغول. وكنت محتاجا بسبب العطل الموجود في القاموس في مادة “غول” إلى السينما لكي أفهم معنى الغول. والواقع أن الغول الذي تصف أمّي أبي به أكثر استقرارا في ذاكرة الكاتب الذي كنت أحلم بأن أكونه من الأغوال السخيفة التي كانت السينما القديمة تقترحها عليّ…

في ذلك البيت كان يحدث أن أنعزل في غرفة أبي في الأوقات التي أعلم أنه لا يكون فيها، أطفئ الضوء وأغرق مع فيروز وموشحاتها، القصائد الطوال للعمالقة: قصائد كانت تستدرجك بطولها المبالغ فيه صوب حالة الاستغراق التام شيئا فشيئا حتى إذا دخل عليك أحدهم لحاجة ما قاطعا حالتك اعتقد أنك تتناول مخدرات أو تقوم ببعض طقوس الظلام المريبة والتي من غير المعقول أن يقبلها أب من ابنه الذي يعوّل عليه كي يكون طيارا أو – على الأقل – مهندسا بارزا. والغالب الأكيد هو أن ابنه الذي هو أنا سيكون طبيبا.

كنت أكره جميع صور الطب. ورائحة الدم. وذبيحة العيد، والمئزر الأبيض، الطبيب الوحيد الذي أحببته كان بطلا لمسلسل من برامج الحركة. أحببته لأنه كان يجيد الكاراتيه الذي كان فاكهة شبابنا غير المحرمة.

قرأت كتابا كان في البيت العائلي، ولا أدري من اشترى كتابا مثله: “في مديح الظلال”  لكاتب أستلذ إلى غاية اليوم بحفظ اسمه كما فعلت منذ ثلاثين سنة “جون إيشيرو تانيزاكي”…. واااو… اسم يشعرك بلذة التثقف العميق.

ل

لم أفهم شيئا في الكتاب. كنت دون العشرين، وكان الكتاب أعلى مستوى من مداركي ساعتها. فهمت فقط بأن كل الحضارات قد مالت إلى الولع بالضوء وتقديس مفاهيمه ومجازاته، ما عدا اليابان التي انتصرت دوما للظلال، وأنه كان يرثي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين للتغريب الشديد للثقافة اليابانية التي اختار أبناؤها شيئا فشيئا التضحية بما يميزها: الابتعاد عن الضوء والبريق واللمعان والفضح والتظاهر والكشف المفرط لفائدة الظلال، والخفاء والحياء والاحتشام والتستر والطبيعية والتلقائية…

كان في الكتاب بعد فلسفي استيطيقي لم أفهم في “جدِّه” شيئا. وكان عليّ انتظار سنوات طويلة لإعادة الاطلاع على الكتاب والتلذذ به وبكمية الولع الكبيرة التي ضمنها الكاتب فيه بالثقافة اليابانية الكلاسيكية التي يقول إنها قد صنعته، وصنعت مجد الشرق كله، وإنها مهددة بالضياع الوشيك.

بعدها بسنوات، أعجبت كثيرا بعنوان رواية كولن ويلسن “طقوس في الظلام”، ثم قرأتها فوجدت فيها شيئين أحبهما، وشيئا غريبا ظل يثيرني ما فيه من نداء للمجهول، وكان فيها فوق كل تلك الأشياء الثلاثة ولع يشبه الطرب بالأشياء الغريبة. أما الأمر الثالث فهو القتل؛ لأنها رواية حول قاتل متسلسل يختفي ولو خياليا ومن باب الظن في شخصية مثقف راق جدا هو صديق الكاتب بطل الرواية، أما الأمران الأولان فهما: الصداقة والكتابة. (للأمانة تعبير “نداء المجهول” هو عنوان رواية تحلّق خارج كل سرب لمحمود تيمور… شيء رائع وغير رائج تماما للأسف الشديد).

ملاحظة أبي كانت نمطية: التفت إلى دروسك، ودعك من الموسيقى ستضيعك. وكان أحيانا يغير ستضيعك أو مرادفها في اللهجات الجزائرية: “تودّْركْ”، أو يقول ستجنّنك.

لا حرج. سأكتشف أن الضياع قد يكون رائعا بقلم كولن ويلسن دائما “ضياع في سوهو”، وفي اليابان أيضا كان أول ما قرأت لهاروكي موراكامي هو روايته “أغنية المستحيل” وهي حول الضياع أيضا؛ أو تضييع الأحبة سواء بفعل الموت أو أفعال الحياة (وفيها كمّ هائل من أحاديث الحب وقصصه، وخلف ذلك كما في كل كتب موراكامي ضياع للمرء وسط أشياء غير واضحة جيدا ربما هي علامات العالم المعاصر..).

سأكتشف أيضا بأن الجنون ليس سيئا إلى هذا الحد، وإذا كان كتاب كولن ويلسن “القتلة بيننا: المجانين ودوافعهم” لم يرقني رغم كثرة انتظاري لأجل الحصول عليه فإن المجانين الذين يصفهم كل من جبران خليل جبران “المجنون” وهيرمان هيسه “ذئب البراري” وشتيفان شفايغ “الكتبيّ ميندل” كلهم يغرون بمعارضة أبي تماما…

ستمر سنوات طويلة عريضة قبل أن أدخل القاموس الأجنبي للتخلص من “خالوطة” سكنت دماغي مطولا فيما يتعلق بكلمة “Passion” التي تحيل أحيانا على الولع والشغف وأحيانا على شيء متعلق بآلام المسيح كنت أواجهها من حين إلى آخر في الموسيقى أو التصوير “la passion du christ”.

سيتضح أن هنالك معنيين اثنين يتجاوران بلا أي انقطاع: عذابات المسيح من جهة. ومعاني الولع والحماس والجاذبية في الجهة المقابلة.

كيف يمكن للكلمة الواحدة أن يحدث لها هذا الشرخ الكبير والقواميس واقفة تتفرج مكتفية بنقل الأخبار على طريقة النساء المولعات بقول كل شيء حول كل شخص بلا أي وازع أخلاقي.

هل يمكن تصور أخلاق معينة خاصة بالقواميس؟

“القاموس هو الكائن الوحيد الصادق دائما” كما سيقول صديقي خالد اليعبودي؛ رفيق دربي المعجمية والخيال العلمي… هذان الميدانان الحيان جدا رغم ظاهر السكون الذي يخيم على المعاجم وعلى المدن المستقبلية التي تبدو دائما مغلقة بشكل مريب. كأنها مدن لا تحتمل الشغف. ربما تكون مدنا هي سليلة “باسيون” على طريقة المسيح.

أقف على حواف القواميس مفكرا في هذه الجملة البديعة “عالم القرون الوسطى نابض بالحياة أكثر من عالمنا هذا بكثير في تصوري” … جملة مشبعة بالولع بالتاريخ، قالها أمبرتو إيكو في ضيافة بيرنار بيفو (حصة bouillon de culture).

الولع قد يختفي تماما من الفضاء العمومي عندنا لأسباب ثقافية. فحينما تصبح الثقافة الأبوية معادية للتعبير عن الشغف يصبح صعبا توريث هذه الخصال للأجيال الآتية على طريق النبض والجنون. أجيال عليها أن توافق مزاج الجدود المصابين بتكلّس التاريخ العربي الإسلامي والتحجر القهري للاستعمار. كثيرا ما استوقفني الفرق بين المغني الفرنسي أو الإنجليزي وبين المغني الجزائري النموذجي؛ جاك بريل كان يغني فيتعرق ويبكي ويزبد ويزمجر ويتلاعب بصوته كأنه على بلاطو تصوير فلم لا على خشبة غناء… كذلك مغنو الروكنرول الذين تربيت بين ظهرانيهم على الصراخ والعويل والتلوي مع القيثارة المكهربة المستعدة للتأثر… فإذا انتقلت إلى مغني الشعبي والأندلسي عندنا جاءك مغنون في خصام مع المعاني التي يؤدونها… أكبر عازف للبيانو في الأوركسترات الوطنية (الإذاعة والتلفزيون) هو المرحوم مصطفى إسكندراني؛ عازف لا مثيل له، يمكنه أن يجعل البيانو ينطق بالصينية أو بالأوردو إن شاء، ولكن وجهه أصم أبكم أعمى… لسنوات طويلة كرهت ذلك التجهم الذي كان يبدو لي غير ملائم لصورة المغني النموذجي في ذهني الشاب الباحث عن تصاريف لأفعال الولع … سيخرج أخي محمد منتصرا لأن مغني الراي “الهابط الواطئ المنحط” يضعون في غنائهم كما كبيرا من الإحساس ربما يعوز كثيرا من الرسميين (وقد تكون فيروز ممثلة جيدة للغناء الخالي من مصادقة الوجه على ما تقوله الأغنية…. السبب؟ يسوع وربه أعلم..).

موسيقى الراي في أبهى حللها سيمثلها “الشاب خالد”. أحد المجانين الرائعين. تلقائي الضحك. بسيط في تطلعاته الفكرية ولكنه مقنع جدا إذا ما غنى. مواويله البدوية التي لحقها التحديث تقول كمّا من الحقيقة قلما عرفه سواه.

اكتشفت لذة الغرق مع الشاب خالد متأخرا جدا. تظافر في ذلك شخصان غير متوقعين تماما: شقيقي عبدالقادر المفرنس الذي يكره الراي، وعمّي مختار المعرب البعثي أستاذ الفلسفة الذي سبق له أن كان محافظ الحزب الواحد الأحد الذي لا شريك له، حزب بالٍ كان يعتبر “الراي” ثورة على النظام الحاكم. وكانت تهمته أيامها: موسيقى تفسد الذوق وتضيّع عقول الشباب.

كان الشيوخ – كما سيتضح لاحقا- قد أضاعوا كل شيء منذ 1962 إلى غاية الثمانينات؛ سنوات موسيقى “الراي”، وظهور الرأي المخالف ومساجين الرأي، والنقاش السياسي العميق حول رأي الجميع في المستقبل. أيامها كنت أنا أمارس الضياع في الميلية وليس في سوهو، كنت أمارس الجنون بأصناف عديدة محاولا التشبه بشخصيات المجانين الذي في الكتب وفي الأفلام: أليكسيس زوربا، عشاق السينما، مجنون ليلى.

الحب.

ياااااه على الحب. كنت أتعجب لكل ذلك الكم من أغاني الحب التي لدى العرب والتي لا أرى لها في محيطي أيّ أثر… عمي السعيد كان الوحيد الذي يشبه مجانين العشاق. حبه لدليلة جدير بالقصص والروايات والأفلام… مجنونات كثيرات حكم عليهن المجتمع بالجنون لأنهن خالفن أعرافه. كانت لدليلة طريقة رائعة في الاستماع إلى الموسيقى، كانت تغمض عينيها وتتمايل.

جماعة التخت العربي أيضا كانوا كذلك. رجالا ونساء، بألبسة رسمية تدل على الاحترام والمقام العالي، رجال بشنب معقوف يتمايلون بشكل كوميدي وهم يستمعون إلى أدوار ومواويل وطقطوقات.

هل هذا هو الضياع يا أنت؟

لا.

هذا تأثر من صنف بسيط جدا.

وجه ميك جيغر (مغني فرقة رولينغ ستونز) أو وجه فريدي ميركيوري (مغني فرقة كوينز) أكثر دلالة على الضياع من التأثر. هما اقرب إلى روح القاموس العربي الخجول.

على شاشة السينما كنت أرى العشاق الكبار: دكتور جيفاكو راقني كثيرا، مشرقي متحرر من عقدة التعبير عن الحب. كان التلفزيون الجزائري بتلاعب بمشاعرنا في جعلنا نرى القبل على الشاشة حينا، ومنعنا من ذلك أحيانا أخرى. كل ذلك كان على هامش شيء كانوا يسمّونه الصحوة. بيعت لنا الصحوة الإسلامية على أنها نوع من النهضة. وكنا نقدس ذلك المصطلح ونقدس رجال النهضة وشروط النهضة (مالك بن نبي) بعدما قدسنا السؤال ما هي النهضة؟ (سلامة موسى)… كان سلامة موسى في وعيي المراهق مفكرا إسلاميا عظيما قبل أن أكتشف وسط الهلع الكبير بأنه مسيحي. كم كانت خيبتي كبيرة في تلك الغرفة المظلمة من حي حمادة، عمارة “د”؛ رقم 4 بالميلية (جيجل/الجزائر). عالجت الأمر كعلاجي لأي شيء يعكر مزاجي: حصة موسيقية في الظلام تسمح لي بالغرق والضياع.

الغرق والضياع كانا الصيغة الفصحى من مصطلحين سمعتهما في حقي من قبل أستاذ كنت أحبه: الأستاذ شبيرة. رآني أتمايل مع أغنية لفهد بلان فقال لي: راك غايص. وهو مصطلح عاصمي يحيل على الغوص أي الغرق. أما العاصمي الآخر الذي كنت أحبه كثيرا فكان رفيق الدرب كريم ابن عمي. راك مُوَدَّرْ على فريد الأطرش، مودّر معناها حرفيا: ضائع.

سيثبت القاموس الشعبي (وهو أصدق من القاموس الأول دائما) كلمة إيطالية عميقة الدلالة على الولع: الگوسطو… وإذا كان لي أن أترجمها مع الاعتذار للكلمة كما يتداولها اللاوعي الجزائري لأن الترجمة هنا اغتيال وليست خيانة فحسب فسوف أترجم الگوسطو بأنه المزاج الرائق.

غريبة هي حياة القاموس الداخلية. القاموس في الصدر نابض بالحياة. يسجل الكلمة بطريقته الخاصة.

أحد أساتذتنا كان معروفا بعشق غير عادي للمغنية وردة الجزائرية. كان يقال في حقه: رايح فيها على وردة. (من الهيام الشديد).

جلسات الاستماع الخاصة كانت خلوات. لذا كثيرا ما تسمع أن فلان “يخلوي” بمعنى يتخذ له خلوة فيها رواق ونشوة. وأصبح كل شيء على درجة عالية من الجمال أو قادر على استثارة إعجاب كبير يصبح “فلم خلوي”، “موسيقى خلوي”، جلسة خلوي”… الخ، مع الظل الظليل للراحة النفسية وعدم إزعاج هذا الارتياح ولا مقاطعة الانسجام الداخلي للأمر الـ”خلوي”….

كان عليّ أن أنتظر الجامعة لكي أتعرف على شخصين ملتحيين على الطريقة الإسلامية التي تحبذها الصحوة الإسلامية. كانا شخصان رائعين: واحد منهما كان ميتا كثير الهرب من الصحو والصحوة (للأسف لم ألحق به) والثاني كان حيا وازداد حياة مع مرور الحياة من خلال تكريسه لنمط خاص من الصحو ومن الصحوة أيضا.

الأول هو أبونواس والثاني هو أستاذي بجامعة قسنطينة العربي حمدوش.

والحقيقة أن الاستاذ حمدوش هو الذي قدم لي النسخة الجميلة من أبي نواس. أبو نواس الذي كان يحدث له أن يسير وسط جماعة من كبار القوم المحترمين جدا:

وَفِتيَةٍ كَمَصابيحِ الدُجى غُرَرٍ       شُمِّ الأُنوفِ مِنَ الصيدِ المَصاليتِ

صالوا عَلى الدَهرِ بِاللَهوِ الَّذي    وَصَلوا  فَلَيسَ حَبلُهُمُ مِنهُ بِمَبتوتِ

دارَ الزَمانُ بِأَفلاكِ السُعودِ لَهُم     وَعاجَ يَحنو عَلَيهِم عاطِفَ الليتِ.

 

وأن يكون الغرض هو طلب جلسة “خلوي” لأجل الشراب:

نادَمتُهُم قَرقَفَ الإِسفَنطِ صافِيَةً مَشمولَةً سُبِيَت مِن خَمرِ تِكريتِ

 

فيذهبون بصحوتهم الإسلامية إلى دير من الأديرة التي تتماشى مع نهضة سلامة موسى:

إذا بِكافِرَةٍ شَمطاءَ قَد بَرَزَت       في زَيِّ مُختَشِعٍ لِلَّهِ زِمّيتِ

قالَت مَنِ القَومُ قُلنا مَن عَرَفتِهُمُ   مِن كُلِّ سَمحٍ بِفَرطِ الجودِ مَنعوتِ

حَلّوا بِدارِكِ مُجتازينَ فَاِغتَنِمي    بَذلَ الكِرامِ وَقولي كَيفَما شيتِ

فَقَد ظَفِرتِ بِصَفوِ العَيشِ غانِمَةً    كَغُنمِ داوُدَ مِن أَسلابِ جالوتِ

فَاِحيَي بِريحِهِم في ظِلِّ مَكرُمَةٍ     حَتّى إِذا اِرتَحَلوا عَن دارِكُم موتي

قالَت فَعِندي الَّذي تَبغونَ فَاِنتَظِروا   عِندَ الصَباحِ فَقُلنا بَل بِها إيتي

ثم يتحدثون بجدية تامة واحترام كبير عن موضوع ولعهم وهو الخمر:

هِيَ الصَباحُ تُحيلُ اللَيلَ صِفوَتُها   إِذا رَمَت بِشِرارٍ كَاليَواقيتِ

رَميَ المَلائِكَةِ الرُصّادِ إِذ رَجَمَت   في اللَيلِ بِالنَجمِ مُرّادَ العَفاريتِ

فَأَقبَلَت كَضِياءِ الشَمسِ نازِعَةً في الكَأسِ مِن بَينِ دامي الخَصرِ مَنكوتِ

ويغرقون في الشرب وسط الموسيقى والخمر وما يرافقهما من صحو سيعبر عنه المعتمد ابن عباد بالشكل الأمثل:

عَلِّل فُؤادَكَ قَد أَبَلّ عَليلُ              وَاِغنَم حَياتَكَ فَالبَقاءُ قَليلُ

لَو أَنَّ عُمرَكَ أَلفُ عامٍ كامٍلٍ          ما كانَ حَقا أَن يُقالَ طَويلُ

أَكَذا يَقودُ بِكَ الأَسى نَحوَ الرَدى      وَالعُودُ عُودٌ وَالشَمولُ شُمولُ

لا يَستَبيكَ الهَمُّ نَفسَكَ عَنوَةً           وَالكأسُ سَيفٌ في يَدَيكَ صَقيلُ

بِالعَقلِ تَزدَحِمُ الهُمومُ عَلى الحَشا    فالعَقلُ عِندي أَن تَزولَ عُقولُ

كل ذلك يكتسب مذاقا مختلفا حينما يرويه لك ولبعض الفتية من زمرة “مصابيح الدجى، الغرر، شمّ الأنوف” الذين كانوا زينة قسم الأدب بجامعة قسنطينة والذين سيتحولون بعد ربع قرن إلى صيدٍ مصاليت في الكتابة والتدريس: يوسف وغليسي، نصير معماش، محمد كعوان، محمد الصالح خرفي، عراس العوادي، فتاة الجبل، فضيلة الفاروق، سهيلة بورزق، خليفة بوجادي، عبدالغني زهاني، عبدالله شنيني، عبدالسلام فيلالي… الخ.

كان الأستاذ العربي حمدوش رجلا ذا ثقافة دينية لا تدانيها إلا الثقافة الدينية الرهيبة لأبي نواس، وكان رجلا وقورا يمتعنا تماما وهو يفتح لنا وسط حياة الجِدِّ العضال التي أصيبت به جزائر فواتح التسعينات فتحات صغيرة فيها صفحات من الأدب العربي القديم الذي كان متحررا تماما من التحرج الدخيل على ثقافتنا من شرور الضحك والطرب والمتعة والجنس والخمر وكل ما ينطوي عليه القاموس المذكور أعلاه (الغالب أنها أدناه ولكننا نقرؤه في عالم مقلوب؛ سافله صار عاليه وعاليه تبخر فصار غير موجود).

في غرفتي بالحي الجامعي “زواغي سليمان” كنت أملك ثروة نادرة جاءتني بها صدف حياة الفقراء النادرة: جهاز مزدوج الأشرطة. كنا نسمّيه بتسميته الفرنسية التي تختصر كل المسافات للفهم double-cassette… جهاز يمكنك من تسجيل أيّ شريط يروقك مما يقع بين يديك؛ المهم أن تكون لديك أشرطة فارغة. كانت تسمى بالفرنسية باسم غريب   cassette vierge… لم أكن أعرف أن الكلمة هي نفسها التي تطلق على أم المسيح الذي كان يمارس نوعا كئيبا من الولع  passion…الكلمة ستدل على زبدة زبدات الحياتين الدنيا والآخرة… الكلمة الفرنسية “فيارج” معناها عذراء… أشرطة عذراء. يا الله كم رائعة هي الأشرطة فقط لأنها تستطيع أن تكون عذراء!

الشيء الوحيد الذي يجمع الملتحين مع غير الملتحين هو الطرب لسماع كلمة “عذراء”. كان فينا نحن الشباب المسلم الذي يعرّف نفسه بأنه شباب الصحوة أكثر من تعريف نفسه بالإسلام. (من الواضح أن الصحوة أهم بكثير من الإسلام. الإسلام شارع يسير عبره الجميع. أما الصحوة فهي ضيقة عسيرة لا يمسها إلا المطهرون).

شيء ما فينا جميعا كان يبحث عن أسباب الطرب. كان الجميع يحبون أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب لأنهما غنيا مدائح نبوية، لأن عبدالوهاب غنى أغنية مزاجها رائع للصحوة الإسلامية:

أخي جاوز الظالمون المدى   فحق الجهاد وحق الفدا

في مخيلتنا العذراء كان الظالمون هم جماعة النظام الحاكم، وعلى رأسهم جماعة الحزب الواحد: الأفالان، وهم خصوم حزب الله الإسلامي: الفيس (الجبهة الإسلامية للإنقاذ).

المشكلة الوحيدة التي كانت مطروحة عليّ هي أن الأستاذ حمدوش ينتمي هو ولحيته المحترمة وثقافته الإسلامية الواسعة إلى حزب الأفالان.

كيف أفعل؟

خيبة كبيرة أخرى عالجتها بالاستماع إلى الموسيقى في الظلام. ظلام غرفتي في الإقامة الجامعية. وقتها كنت قد اكتشفت بدعة جميلة: الموسيقى الإلكترونية. جان ميشال جار.

موسيقى فضائية كانت تمهد لصحوتي النهائية: اكتشاف الخيال العلمي.

كان الخيال العلمي هو قطيعتي النهائية مع الواقع الذي لم يعد في نظري سوى محطات فوضوية أبحث داخلها عن سبل لمواصلة المسير والمسيرة.

من الصور الأخيرة التي استوقفتني كبار عائلتي وهم يرقصون في الأعراس. أعراسنا رغم أنها في الريف إلا أنها بقيت بمعزل عن “الصحوة” الإسلامية التي عرفتها البلاد منذ منتصف الثمانينات: فظلت أعراسا مختلطة لا تفرقة فيها بين نساء ورجال (إلا بالتقوى) والتقوى في الأعراس العائلية هي الرقص. كلما رقصت أكثر كنت أقرب إلى قلوب الجموع والله مع الجماعة دائما.

كبار العائلة هم الأعمام والعمات والزوجات اللواتي هنّ في مجملهن من العائلة، وهم الأكبر سنا والأجدر بالاحترام، لهم طقوسهم الخاصة في رقصات جماعية (ترحيبة) هي نوع من الصلاة على النبي أو الابتهالات والدعاء للأزواج، أو الأناشيد القروية القديمة… وكانت فيها حركات جماعية منسقة تنسيقا رائعا شحذته السنون: فجلهم/هن يؤدي هذه “الترحيبة” منذ عشرين أو ثلاثين أو حتى أربعين سنة كل عام عدة مرات. والغالب أن الترحيبة السابقة لجلسة “الحناء التي تعطي اسمها للسهرة هي الفقرة الأكثر إثارة للفضول والتصوير والتعليق اللاحق الذي قد يدوم سنين طويلة جدا.

آخر ترحيبة أداها عمي مسعود كان في الثامنة والستين من عمره، عمتي يمينة كانت في الثانية والسبعين، والتي رقصها في الرابعة والسبعين وعمي حسين في الحادية والسبعين… والغالب أيضا أنهم يوقفون الرقصة أو يجارونها مشيا فقط بعد هذه الحدود في العمر لأنها رقصة تتطلب كثيرا من الضرب على الأرض بالقدم (الركلة)، ومن الدوران المحوري مرتين وثلاثا والراقصون متكاتفون لا يتأخر واحد عن الغير.

كانت هذه الرقصات تتضمن غناء (أهازيج ومدائح نبوية في اغلب الأحيان) وتهليلا متعبا للحبال الصوتية، ولكنه يستدعي الفرح كما قلما يحدث. غناء بأعلى الصوت وتحدٍّ لرفع الصوت أكثر مما فعله الفريق المقابل… صفان متقابلان يذرعون الساحة جيئة وذهابا (أربعة راقصين أو خمسة على العموم..). تلك قمة الولع في الحقيقة.

حينما تكبر وتتزوج وتنجب ويكبر نسلك الملائكي إلى خليط جميل من “فجورها وتقواها”، تتغير خرائط الولع بشكل مثير جدا. عليك أن تتحفظ. أنت أستاذ (لا يجوز لك الضحك بالقهقهة)، أنت والد “أريام” فكيف تلعب بالكرة وتتبسط في الحي مع الصغار وتلهو خلف كرة تنط هنا وهناك؟… احشم، روح بلعقل، تريّثْ (هذا لا يجوز أنت دكتور وكاتب كبير)، لا بد من شيء من التحفظ (الطلبة ينظرون إليك)، تكلم بصوت خفيض أنت مسؤول في مؤسسة عمومية، الطلبة ينظرون إليك لا تقفز هكذا ولا تدغدغ زميلك مداعبا…

الحرب الأساسية المعلنة ضد الولع يخوضها محيطك ضد الحماس. عقل سخيف ما يربط بين غياب الحماس أو الشعور الكثيف بالأشياء وبين الحكمة.

الحكيم رجل يمارس الجنس بشكل مدرسي وبلا جنون في التصور العام للمجتمع المحيط بنا.

الحب شغف بشري علينا أن نطوّعه أيضا مع التقدم في العمر. الثقافة الغربية تتعامل مع التقدم في السن بطريقة إيجابية جدا. الرياضيون إذا تقاعدوا من الرياضة الاحترافية انتقلوا مباشرة إلى دورات الكبار  Senior… أما الشيخ الشرقي (العربي المسلم تحديدا) فيذهب إلى الحج (وهذا شيء جميل جدا) لكي يعود من الحج وكأنه أصيب بتصلب في الشرايين. لا يتحرك كثيرا، لا يتكلم إلا بمقدار، يحاذر من المحيط الذي قد يوقعه في شرور “تبطل حجه”… ويصبح الحل هو انتظار الموت بشكل يذكر بالموت أكثر من إحالته على الحياة.

الولع – الذي هو الشعور الإنساني بامتياز – يعاني كثيرا وأنت مثلي: رجل على مشارف الخمسين. تتفتت تماما معان مثل: الرغبة في شخص ما، الاهتمام الكبير بموضوع ما، الفرح الغامر، الجاذبية المهتزة، الإعجاب بمنظر أو موسيقى أو عمل فني…

الولع يصبح صدفة موضوعا آتيا من الماضي. أو لذة نتحسر عليها. حالة تستدعي ابتسامة هادئة وتحسرا على شيء نحن موقنون بأنه لن يعود.

كاتب من الجزائر

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.