ج. ج. بالارد الكاتب المستكشف
إلبورو: في العديد من رواياتك، ثمة مجتمع صغير، سواء أكان مجمّعاً سكنياً فاخراً أو مربّعاً من الأبراج السكنية، يؤدّي دور العالم المصغّر الذي تستكشف من خلاله هشاشة المجتمع المتحضّر. أتعتقد أن انشغالك بالتدهور الاجتماعي، أو حتى بتوقف عملية التطوّر، ينبع من تجاربك طفلاً في معسكر الاعتقال حين رأيت رأي العين بأيّ سهولة يمكن أن يخبو التألّق الحضاري؟
بالارد: هذا صحيح، أعتقد أن تلك التجربة كان لها تأثير كبير، فكلّ من اختبر الحرب يعرف أنها تطيح بجميع الأفكار التقليدية حول العناصر التي تشكّل الواقع اليومي. فبعد تجربة الحرب لا تعود إلى طبيعتك السابقة. يشبه الأمر النجاة من حادث تحطّم طائرة؛ العالم بالنسبة إليك يتغيّر دون رجعة. هكذا الحال حين يمضي فتى في بداية مراهقته قرابة ثلاث سنوات في معسكر اعتقال، وأن يبدي اهتماماً كبيراً بالبالغين من حوله، بمن فيهم والداه، ويراهم يجرّدون من كل السلطة التي تغلّف البالغين عادة خلال تعاملهم مع الأطفال، أن يراهم يجرّدون من كلّ أشكال الدفاع عن النفس، ويفقدون شجاعتهم، ويتعرّضون للإذلال والخوف – وكنا جميعاً نشعر أنّ الحرب ستستمر إلى الأبد والربّ وحده يعلم ماذا سيحدث في مراحلها الأخيرة – هذا كله كان تعليمياً للغاية. كان فريداً، ومنحني تبصّراً هائلاً حول ما يشكل السلوك البشري.
إلبورو: كتبت سابقاً أنك استلهمت المنظر الطبيعي حتى في روايتك الأولى “العالم الغارق”، التي تصوّر لندن وقد اجتاحها الطوفان في القرن الحادي والعشرين، من ذكرياتك عن شنغهاي. فهلاّ أخبرتنا قليلاً كيف أنك، وبعد أن استكشفت طفولتك بصورة غير مباشرة في أعمال الخيال العلمي التي كتبتها، كتبت عنها بصورة مباشرة في “إمبراطورية الشمس”؟
بالارد: لطالما أزمعت للكتابة عن تجاربي خلال الحرب العالمية الثانية، وعن شانغهاي تحت الاحتلال الياباني وعن المعسكر. كنت أعلم أنه حدث بالغ الأهمية، ليس لي فحسب. لكنْ حين جئت إلى إنكلترا في 1946 تعيّن عليّ مواجهة معضلة التكيف مع الحياة هنا. فإنكلترا في تلك الأيام كانت مكاناً بالغ الغرابة بالنسبة إليّ. كان هناك نظام طبقي معقّد للغاية لم أجده في شانغهاي. كانت إنكلترا مكاناً رهيباً، مثلما تعلم، عالقة في الماضي ومرهقة أشدّ الإرهاق من جرّاء الحرب. كان القول إننا انتصرنا في الحرب مجرد تعبير تقني، ففي عدّة طرق، كنا قد خسرنا الحرب. وكنا في وضع بائس اقتصادياً. وقد تعيّن عليّ التعامل مع هذا كله. وبحلول العام 1949، كان الشيوعيون قد سيطروا على الصين وعلمت أنني لن أعود إليها أبداً. فبدا لي أنه لا فائدة من الاحتفاظ بتلك الذكريات، وشعرت أنني يجب أن أتصالح مع العيش في إنكلترا. فهذا في نهاية المطاف البلد الذي تلقيت تعليمي فيه. تزوجت وبدأت حياتي المهنية ككاتب. وقد أثارت إنكلترا اهتمامي، إذ بدت لي أشبه بمنطقة كوارث. كانت موضوعاً للكتابة عنه، وكارثة في حدّ ذاتها. كنت مهتماً بالتغيير، الذي رأيته آتياً لا محالة، ورأيت أنه سيطاول كلّ شيء من متاجر السوبرماركت إلى الطيران، إلى التلفزيون والمجتمع الاستهلاكي. أذكر تفكيري في ذلك الحين، يا إلهي، هذه الأشياء ستجلب التغيير إلى إنكلترا وستكشف الطبيعة النفسية الغريبة لهذا الشعب المعذّب. فبدأت في كتابة الخيال العلمي، وإن كان معظم قرّاء هذا النوع الأدبي لم يعتبرونني كاتب خيال علمي. اعتبروني متطفّلاً، نوعاً من الفايروسات الذي تسلّل إلى خلية الخيال العلمي، ودخل إلى نواته ودمرها. وهذا كله بينما كنت أرى أجزاء من حياتي في الصين تطفو على السطح وعلمت أنني سأكتب عنها في وقت ما.
إلبورو: درست الطب وصرّحت مرة أنّ الروائي المعاصر يجب أن يكون أشبه بالعالم. هل ندمت يوماً على تخصّصك في الطب؟
بالارد: كنت مهتماً للغاية بالطب. تجربة التشريح طوال سنتين كانت بالغة الأهمية بالنسبة إليّ، لأسباب عديدة. أعتقد بالفعل أنّ على الروائيين أن يكونوا مثل العلماء الذين يشرّحون الجيف. وكنت أرغب في ممارسة الطب لكنّ الدافع للكتابة كان طاغياً. عرفت من أصدقاء لي كانوا يسبقونني بعام أو اثنين في دراسة الطب، أنك ما إن تعمل في مشفى لندني أو تصبح طبيباً ممارساً فإن ضغط العمل عظيم للغاية. ما كنت سأحظى بالوقت للكتابة، وحافز الكتابة كان هو الطاغي بكلّ بساطة.
إلبورو: أتعتقد أنّ هناك هدفاً أخلاقياً لما تكتبه؟
بالارد: لست واثقاً من ذلك. أرى نفسي أقرب إلى المحقّق الاستقصائي أو الكشافة الذي يُرسل ليتبيّن ما إذا كانت المياه قابلة للشرب أم لا.
إلبورو: ككشافة أو كمحقّق كنت نافذ البصيرة، فمعروف أنك تنبأتَ برئاسة ريغان في “معرض الفظاعات” وقد لاحظت أنّ أحد المعلٌّقين أشار إلى “العالم الغارق” بعد كارثة نيو أورلينز. هل قلقت يوماً من أنك قد تكون نافذ البصيرة أكثر مما ينبغي؟
بالارد: فلنضع الأمر كالتالي: محقّق ونظام إنذار مبكر. أفترض أنّ أحد الأمور التي تعلمتها من تجربتي خلال الحرب، هو أن الواقع منصة مسرحية. الواقع الذي تأخذه كأحد المسلمات، الحياة المريحة من يوم إلى آخر، المدرسة، المنزل حيث يعيش المرء، الشوارع المألوفة وكلّ هذه الأمور، الرحلات إلى أحواض السباحة والسينما، هذه جميعها تشكّل منصة مسرحية يمكن تفكيكها بين عشية وضحاها، وهو ما حدث حقاً عندما احتلت اليابان شانغهاي وقلبت حياتنا رأساً على عقب. أعتقد أنّ تلك التجربة تركتني مع عين متشككة للغاية أنظر من خلالها حتى إلى أماكن مستقرة مثل الضواحي الإنكليزية حيث أعيش حالياً. لا شيء آمن مثلما نحب أن نعتقد. وليس بالضرورة أن نأخذ مثال إعصار كاترينا ونيو أورلينز، فهو ينطبق على كل شيء. جزء كبير من عملي السردي يحاول تحليل ما يجري من حولنا وإن كنا مختلفين عن الكائنات المتحضّرة التي نتخيل أننا ننتمي إليها. أعتقد أنّ هذا يصحّ على كل ما كتبت. فالروح الاستقصائية تشكّل حقاً جميع رواياتي.