حاضر العرب وسؤال الهوية
ما الهوية الثقافية؟ منذ قرن مضى انشغلت القريحة المصرية بموضوع «الهوية»، هناك من تحمس إلى الإسلام كهوية ومن رجح العربية، والبعض طالب بالمصرية (فكرة ولغة أو لهجة)، في مقابل الاعتماد على الهوية الغربية بكل معطياتها نظرا للمستوى الحضاري الذي بلغته الدول الأوربية، حيث كانت البعثات التعليمية ﺇليها. وتعددت الأطروحات والأفكار. غني عن البيان أن السبب المباشر لتلك الهبّة الفكرية والنزوع للبحث حول مفهوم الهوية هو ذاك الاتصال والتواصل الثقافي الحميم الذي شغل المصريين بحثا عن أسباب الرقى والتقدم، وهو ما كانت عليه البلاد في القارة الأوروبية مقابل ما كانت عليه البلاد تحت وطأة الاحتلال (العثماني ثم الإنكليزي).
الآن مع بدايات القرن الجديد (الحادي والعشرون)، تجددت القضية.. ليس في الأمر ما يدهش، هكذا الأمم والشعوب مثل الأفراد عليها أن تتوقف وتتأمل أحوالها بين الحين والحين إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وقد دعت.. منذ أن شاع مصطلح «العولمة» و»الكوكبية» أو «القرية الكبيرة»، انقسم العالم إلى قسمين.. أولهما يدعو متحمسا إلى مفاهيم تبدو جديدة وهم القلة، وقسم يسعى لاهثا للبحث والتأكد من حسن النوايا وهم الكثرة.
أشارت المراجع إلى أن تعريف «الثقافة» من التعدد والكثرة بحيث يصعب الوقوف أمام كل منها، إلا أن تعريف البريطاني إدوارد بيرنت منذ أكثر من القرن مازال يحمل في طياته محور أغلب التعريفات والأفكار التي تلته، فقال «الثقافة -أو الحضارة بمعناها الإثنوجرافي الواسع- هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعرف، وكل المقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع».
الثقافة ليست العلوم أو الفنون فقط بل أوسع من ذلك، فهي محصلة النشاط البشري لمجموعة البشر في بقعة ما على الأرض. كما أن «الثقافة» مستقلة عن الأفراد، فهي تكتسب بالممارسة الحياتية والتعلم، وهي ليست غريزية أو فطرية. كما أن «الثقافة» تعبر عن نفسها على شكلين.. شكل مادي (فنون وآداب، بل وحتى السلع)، وشكل لامادي (السلوكيات وأفكار المعتقدات والقيم.. الخ).
وفى هذا الموضوع كتب أحمد أبو زيد كتابه «هوية الثقافة العربية». وقد وضع معيار تلك الخصوصية بعدد من العناصر هي:
اللغة: حيث أن اللغة العربية لها أهمية خاصة مع المصريين/العرب على هذه البقعة من الأرض، وهي بالفعل عامل تماسك بين شعوبها. ولا يتنبأ الكاتب بانفصال اللهجات عن اللغة الأم كما حدث في القارة الأوروبية، فكانت الإنكليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها.. كلها عن اللاتينية.
الدين: إذا كانت العربية لغة القرآن، فإن الإسلام هو الذي حمل العربية إلى مواقع فتوحاته الأولى. والدين هنا لا يلعب دور إتمام العلاقة بين الفرد وربه، أو هو أسلوب حياة فقط.. بل لعب الدين في الوطن العربي دوره في الربط بين أفراده والناطقين بالعربية. ولا إكراه في الدين، فوجود الطوائف والأديان المختلفة إلى جوار الإسلام، ليس إلا تعبيرا عن رحابة ذلك الدين وأهله، كذا تمتع سكان الوطن الكبير من غير المسلمين تعبيرا عن الحرية المتداولة فيما بين الجميع. كما أن الدين الإسلامي يقدم نسقا ثقافيا متميزا تتحدد به:
نظرة الإنسان إلى نفسه، مع ثنائية الروح والجسم، وأن الروح من أمر الله، وللجسد حرمته.. كما تتحدد نظرة الإنسان إلى الخالق وعلاقته به.. وأيضا نظرة الإنسان إلى الكون والكمّ المعرفي في القرآن عن الكون يستحق التأمل.. كما يحدد الإسلام النظرة إلى الآخر من مسيحيين وديانات أخرى، على أنها ديانات سماوية.
التراث: لقد تعاون الدين واللغة العربية في الحفاظ على كيان العالم العربي وهويته وثقافته خلال التاريخ العربي والإسلامي الطويل. ومازال يعيش فينا ذاك التراث القديم، ويعبر عن نفسه في الكثير من العادات والأفكار.
ثمة علاقة بين الهوية والوجود اﻹيجابي الفاعل، فالإنسان الذي لا هوية له لا يمكنه أن يبدع، وليس عنده ما يدافع عنه سوى احتياجاته المادية وذاته المادية.. فالإنسان لا يبدع إلا إذا أعاد النظر ﺇلى العالم
رؤية أخرى
يقول عبدالوهاب المسيرى حول قضية الهوية رافضا الالتزام بمقولة واحدة أو حتى أكثر من مقولة، معتمدا على فكرة أن العقل اﻹنساني توليدي؛ أي عقل يبقى ويضخم ويهمش ويضيف ويحذف، وتتم عملية الإبقاء والاستبعاد والتضخيم والتهميش والإضافة والحذف حسب نموذج إدراكي يشكل هوية الإنسان، هو في صميمه رؤية للكون. فهوية شعب ما تتشكل عبر مئات السنين من خلال تفاعله مع الطبيعة وبيئته الجغرافية، ومع بني جلدته ومع الشعوب الأخرى.
ما يعنى أن أفراد الشعوب لا يعكسون الواقع كما هو، وإنما يتفاعلون معه، فإن هويتهم تتشكل من خلال إدراكهم لما حولهم، ومن خلال تطلعاتهم ورؤاهم وذكرياتهم، ومن هنا تكتسب الهوية فرادتها وتركيبيتها التي لا يمكن ردها إلى قانون أو نمط مادي.
السؤال الآن حول علة البحث عن الهوية مبرر بل وضروري فى مواجهة متغيرات جد خطيرة ومؤثرة على الأمم بل وعلى الأفراد داخل جدران منازلهم.. وبالسؤال نستطيع أن نضع أقدامنا وسط البحر الهائج من الأفكار (المعلومات) حيث نعيش عصر المعلومات بعد ثورتي الاتصال والثورة المعلوماتية؛ ألا والسؤال هو: هل هويتنا المصرية مهددة الآن مع بدايات القرن الجديد؟
نظرة تاريخية
مع فكرة الصراع صنع العربي تاريخه وتبلورت هويته، وهو ما تلاحظ على مر الزمان وما كشفت عنه الأيام من البطولات والتضحيات وإعلاء لقيم الانتماء والحرية. بذلك السر الظاهر/الخفى؛ «الهوية» التي تتشكل داخله وينتمي ﺇليها ويدافع عنها.
الهوية خلال فترة الحملات الصليبية: لقرابة قرنين من الزمان كان الصراع، إن هدأ هنا اشتعل هناك. فقد أقيمت الإمارات الأوروبية (أو المستعمرات الاستيطانية)، كما استولوا على الحصون والقلاع، وتمكنوا من مقاليد الأمور..
بدت تلك الفترة بكل ما فيها من ألم، تعد من أنضج الفترات التي أنتجت فيها القريحة العربية العديد من المعطيات الفكرية والأفكار الإيجابية.. فلم يكن الشعر والنثر هما أهم ما أنتجته تلك الفترة.
كان المنجز العقلي مع الفقه وعلوم الشريعة، حيث أعيدت كتابة الكثير من الأفكار في الفقه، وعلاجات للكثير من هموم الناس الدينية (فكريا وممارسة للشعائر).. كما في القضاء، حيث اهتم الولاة باختيار القضاة حسن السمعة وملاحقة كل من خرج على القانون وضبط شؤون الناس.. يبدو أن تلك الأزمة حفزت الهمم، ليس لمواجهة الأعداء فقط، بل لمحاربة كل عوامل القهر والانهيار الداخلي، حيث تبلورت مشاعر الانتماء وحب الأرض والوطن والقيم العليا.. ومن «الهوية اﻹسلامية العربية» في تلك الفترة.
في المقابل شاع في تلك الفترة، أن قرر علماء الإسلام، الانتباه لكتابات اليهود والمغرضين والرد عليها.. فكتب ابن قيم الجوزية «هداية الحيارى من اليهود والنصارى» و»اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية». كما يذكر أن بعض العلماء ذهب إلى أرض المعركة حبا في الاستشهاد مثل الإمام يوسف الفندلاوي المالكي والشيخ الزاهد «عبدالرحمن الحلحول».
الغريب الطريف أن ينشر ذاك الكتاب الفكه الذي جمع النوادر التي حدثت.. مثل حكاية تلك المرأة التي تخرج سافرة من باب بيتها وتشير إلى أحد جنود الإفرنج، وما أن يسير خلفها إلى داخل بيتها، يخرج عليه الرجال لتمزيقه إربا!
لوحة: حسام صقر
الهوية في مواجهة التتار
تعد تجربة معركة «عين جالوت» من التجارب الحربية الهامة في التاريخ العربي، ليس فقط لكونها معركة انتصر فيها العرب، بل لكونها قادت نحو نزع غلالة الإحباط والغفلة التي كانت تعيشها المنطقة في حينه.
قبل تلك المعركة (عين جالوت) بعث هولاكو إلى ملك مصر الشاب الصغير المنصور وقبل بهيمنة التتار على مصر، اعترض «قطز» ورفاقه، وتولى الأول حكم البلاد، ثم قرر الخروج إلى التتار. وقبل خروجه أجرى العديد من الإجراءات التي يمكن أن تسمى الآن «إعداد الدولة للحرب» بتوفير المواد التموينية والسلاح وجمع الضرائب اللازمة للإنفاق على الجيش واستعداداته بالإضافة إلى التهيئة النفسية الواجبة لكل المصريين.
لم تكن المعركة هي بداية التصادم، سبقتها الحرب النفسية ضد التتار، حيث كانت حيلة خبيثة وشهيرة، وطريفة أيضا. فقد تقدم بعض الأفراد أو الجنود المصريين ممن يطلق عليهم بالعيون أو القوات المتقدمة، عددهم مئة، وهو نفس العدد من قوات الصليبيين (حيث علم بيبرس بالاتفاق بين الصليبيين والتتار على التشاور للتعاون معا، وهي مهمة المئة صليبي الذين قاتلهم بيبرس).
ثم أمر بيبرس باستبدال ملابسهم بملابس الصليبيين، وتقدموا حتى دخلوا معسكر التتار بالترحاب الواجب! فكانوا النواة التي عملت على إحباط الروح المعنوية للتتار والعيون التي تبعث بأسرار الأعداء إلى ملكهم قطز.
أما وقد بلغت القوات (حوالي 477 ألفا) من الجنود المصريين والفلسطينيين والسوريين، بقيادة قطز، عسكروا عند النهر حتى يعد حاجزا ومانعا طبيعيا لحماية القوات حتى جاء 3 سبتمبر عام 1260 وبدأت المعركة الكبرى.. بدأت بقذف المعسكر التتارية بالمنجنيقات من كل جانب، وردت القوات التتارية بهجوم عاصف حتى اخترقوا جيش القوات العربية، إلا أن الخطة العسكرية المسبقة، أعطت لهذا الاحتمال الاحتياطات الواجبة. وبالفعل تعاملت الأكمنة العربية مع قوات الأعداء، بل أطبقت القوات على الغزاة بالجانب الأيمن والأيسر.. فيما تابع الأهالي الفلسطينيون المحليون وغير المشتركين في القوات المتحاربة، وقاموا بمطاردة القوات الفارة والشاردة.
الهوية وتجارب الصراع المعاصر
تعد جملة الأحداث في القرن التاسع عشر مخاضا لمولد متغيرات اقتصادية وسياسية فضلا عن كونها مخاضا اجتماعيا وثقافيا.. بما يعد فكريا المخاض الفعلي لمصطلح «الهوية» وشيوع توظيفه فيما بعد.
منذ أن اعتلى محمد علي كرسي الحكم، وقد زلزلت الحملة الفرنسية قبله رواسخ بآلية متكاسلة، بدت العلاقة بالآخر(العثماني ثم الأوروبي) في تتابع ما بين الشد والجذب..
كان فك رموز حجر رشيد والبعثات العلمية إلى أوروبا، ثم التوسع في التعليم المدني، وإنشاء المدارس العليا التخصصية (للطب والهندسة والطب البيطري وغيرها).. إلى جانب دخول المطابع إلى مصر وإصدار الصحف، كلها تضافرت معا لتخلق مناخا ثقافيا جديدا.
(مع كل ما أنجزه محمد علي في بناء مصر الحديثة، له جذور غير مصرية، ولكن تغلبت الهوية المصرية واكتسبها)
نشير إلى تجربة مرت بها مصر خلال تلك الفترة وما بعدها في القرن العشرين: أحداث الثورة العرابية ومعاركها مع القوات الإنكليزية التي سيطرت على مصر لمدة اثنين وسبعين سنة، كما جرت أحداث الحرب العالمية الأولى ونالت مصر بسببها ما نالت.. ثم ثورة عام 1919 الشعبية، وتحت وطأة آلام تلك الفترة، برزت وتشكلت ملامح الهوية التي يمكن أن نطلق عليها الهوية المعاصرة الصريحة.. (حيث شعار مصر للمصريين وغيره، معبرا عن الهوية).
أهمية الهوية
ثمة علاقة بين الهوية والوجود اﻹيجابي الفاعل، فالإنسان الذي لا هوية له لا يمكنه أن يبدع، وليس عنده ما يدافع عنه سوى احتياجاته المادية وذاته المادية.. فالإنسان لا يبدع إلا إذا أعاد النظر ﺇلى العالم من حوله من خلال انتماءاته (هويته بالتالي)..
تجربة تاريخية رصدها لورد ماكولي، ذلك البرلماني والكاتب الإنكليزي، قال في خطابه في 2 فبراير 1835 «لقد سافرت في الهند طولا وعرضا، ولم أر شخصا واحدا يتسول أو يسرق. لقد وجدت هذا البلد ثريا لدرجة كبيرة ويتمتع أهلها بقيم أخلاقية عالية، ودرجة عالية من الرقي، حتى أنني أرى أننا لن نهزم هذه الأمة إلا بكسر عمودها الفقري، وهو تراثها الروحي والثقافي. ولذا أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحل محل النظام القديم لأنه لو بدأ الهنود يعتقدون أن كل ما هو أجنبي وإنكليزي جيد وأحسن مما هو محلّي، فإنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلية وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا أمة تم الهيمنة عليها تماما».
هكذا تجلت أهمية الهوية عملية في مقولة السياسي المحنك، في المقابل علينا الاحتفاظ بهويتنا، بينما اللافت أن البعض يدّعي أن التمسك بالهوية يؤدي إلى الحروب والمجازر، وهذه مبالغة غير مقبولة. فهل الحربان العالميتان الأولى والثانية، تمتا باسم الهوية أم باسم المصالح الاستعمارية؟ وماذا عن فيتنام وغزو العراق وأفغانستان والحرب الباردة؟ بل ماذا عن التاريخ الاستعماري الغربي كله؟!
مهددات معاصرة للهوية
ملامح الهوية المتجددة: هيمنة فكرة «الثقافة هي جوهر التنمية» من خلال معطيات ثورتي الاتصال والمعلوماتية.
«الثقافة» هي السلاح والوسيلة الناجحة للتعامل مع الآخر (الأكثر تقدما).
الهوية في جوهرها، مجموعة من المعطيات الثقافية (التاريخية والتراثية واللغة).
لا مواجهة حقيقية للنزعات العدوانية التي يتعرض لها الوطن حاليا، سوى توظيف التقنيات المعاصرة في تأكيد ملامح الهوية ومواجهة الآخر بها.
لن نتمكن من مواجهة الآخر المعتدى، إلا بمزيد من الفهم والتفعيل لعناصر الهوية وبتوظيف المعطيات التكنولوجية الجديدة والمعاصرة.
حقائق لافتة
تبدو «الورطة» أمام الباحث في «الهوية» (حاليا على الأقل) في جملة مفاهيم ومعطيات يصعب تجاهلها أو بمعنى آخر هناك حقائق شائكة لا يمكن تجاهلها في مواجهة/تعاملنا مع الآخر، خصوصا الآخر الأوروبي:
هناك من استطاع إحراز التقدم الاقتصادي وتحقيق الأمن الجماعي، والتواجد على الساحة العالمية كقوة حقيقية دون توافر كل شروط «الهوية» المتعارف عليه، التراث/اللغة/ التاريخ/ العادات والتقاليد والأعراف/الديانة (الاتحاد الأوروبي نموذجا).
قناعة البعض من كون «الهوية» ليست أيقونة ثابتة وواحدة على مر التاريخ، بل هي في ديناميكية متحركة بتحرك وتغير الأحوال التقنية والفكرية، فكانت المطالبة بالنظر إلى القديم من خلال رؤية جدية (فقد القديم قدسيته التقليدية).. بفضل الثورة المعلوماتية.
النظرة المعلوماتية لمفهوم «الثقافة» و»المعلومات».. حيث أن الثقافة هي ما يبقى بعد زوال كل شيء، أما «المعلومات» فهي ما يتجدد دوما ولا يقل ويذهب باستهلاكه (د.نبيل على).
سؤال الهوية في ظل المعلوماتية
ﺇن علاقة الهوية بالمعلوماتية تتبدى من خلال وسائلها التكنولوجية (شاشات التلفزيون والكمبيوتر ولوحات التحكم ونماذج المحاكاة).. حيث أن تلك التكنولوجيا مرآة لرؤية العالم وبالتالي نرى من خلالها ما يمكن أن نراه من خلال «الهوية».. كما تعد تلك الوسائل معيارا يمكن العمل به. وبذلك تصبح تلك التكنولوجية مثيرا للسؤال الثقافي حول العلاقة بينها وبين الهوية؟
فلما كانت «العولمة» مرتبطة بتلك التكنولوجيا الجديدة، مثل ارتباطها بالمفاهيم الاقتصادية الجديدة (الاقتصاد العالمي الحر- غلبة النمط الاستهلاكي والترفيه والخصخصة وغيرها).. يبدو السؤال عن الهوية مرتبطا بالسؤال عن العولمة؟
وإذا كانت «الهوية» في عناصر اللغة والتراث والإنتاج الفكري واﻹبداعي وحتى الدين وكلها أنساق رمزية تتشكل بها، فإن تكنولوجيا المعلومات تعتمد على عناصر النسق الرمزي أيضا (مثل مفاهيم الكود والشفرة والرقمنة وغيره).. وهو ما يعد التقاء بين مفهوم الهوية والتكنولوجيا المعلوماتية.
مع ذلك فمن المؤكد أن أضافت تكنولوجيا المعلومات مفاهيم أخلاقية جديدة، في علاقتها بالهوية: مثل أخلاقيات في مجال التكنولوجيا الآلية وتوظيفها ومجال التكنولوجيا البيولوجية مثل الاستنساخ ومجال الإعلام ومجال اﻹنترنت.. وهو ما أنتج مفاهيم قد تلعب دورها في زعزعة القيم التي رسخت منذ أجيال بعيدة وربما قرون؟!
القيم الجديدة وعلاقتها بالهوية
لقد نجحت تكنولوجيا المعلومات في تحطيم منظومة القيم القديمة، مثل «ثنائية المادي والموضوعي/الواقعي والخيالي/الجماعي والفردي/الحيوي والفيزيائي»..
وأضافت قيم الثنائية مثل: «ثنائية التعليم والتعلم/اﻹنتاجي والاستهلاكي/ البشرى والآلي.. وغيرها».. بالتالي فإن مواجهة تلك الانقلابات الفكرية ومن أجل الحفاظ على الهوية فلا حيلة إلا باﻹرتكان إلى تفعيل الآتي:
أمام التهديد اللغوي (حيث غلبة اللغات الأخرى وخصوص اﻹنكليزية).. اعتبار القرآن نصا حاكما للغة العربية (من ناحية النحو والصرف والبلاغة)، واعتبار التراث الشعري والنثري صورة حافظة للعقلية العربية، لا ينفى هذا تفعيل محاولات تجديد اللغة العربية وإضافة مستجدات عليها.
أمام التهديد القيمي (مشكل أخلاقيات التكنولوجيا في المجال البيولوجي والإنترنت مثلا).. تجب المشاركة في الحوار الداخلي والعالمي عن طريق الإعلام والمؤتمرات وغيرها، من أجل تزكية كل ما يتوافق مع مفاهيم قيمنا العربية/الإسلامية.
أمام التهديد الثقافي والعبث في ثوابت التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا (هناك كم هائل من المتاح ومعروض على القارئ العربي المتعامل مع التكنولوجيا المعاصرة تعبث في تلك الثوابت).. ولأن تلك التكنولوجيا متاحة للأفراد مثلما هي متاحة للجماعة والدولة، فلا بديل عن قيام الفرد قبل المؤسسة على تصحيح تلك الأخطاء والعمل بإضافة الجديد الصحيح.
علاقة الهوية بالمعلوماتية تتبدى من خلال وسائلها التكنولوجية (شاشات التلفزيون والكمبيوتر ولوحات التحكم ونماذج المحاكاة).. حيث أن تلك التكنولوجيا مرآة لرؤية العالم وبالتالي نرى من خلالها ما يمكن أن نراه من خلال «الهوية»
الهوية والعولمة
لعله من المناسب الإشارة إلى عدد من الخطوات الإجرائية التي قد تفيد في مجال الحفاظ على الهوية في مجتمع المعلوماتية:
وقفة تقييم ومتابعة للتعرف على الصورة الحقيقية لثقافتنا وملامح هويتنا على شبكة الإنترنت.
تفعيل مفهوم «الثقافة تهدف إلى التنمية وفي القلب منها سيتم إعادة النظر في التعليم ليتحول إلى تعلم بكل احتياجاته».
تفعيل دور «المثقف» وإتاحة الفرصة له لإبراز رأيه وإضافة ما يراه (مع مناقشة موضوع طرح الآراء الصادمة لمشاعر الجماعة في موضع آخر).
تفعيل مزيد من الأدوار للهيئات والمنظمات والجمعيات المدنية أو الأهلية، بعيدا عن هيمنة الدولة (إلا على الجوانب التي تمس الأمن العام من أموال وأفكار متطرفة).
إعطاء «اللغة العربية» الاهتمام الواجب في ضوء المطروح الآن من تكنولوجيا.
الإقرار بحقيقة «التعددية» سواء الدينية أو الكيانات الصغيرة المحلية وغيرها.
تنمية مفهوم «الحوار» و»قبول الآخر»، في ضوء ثوابت الحق الوطني والقومي.
الهوية والانتماء
يعد مصطلح «الانتماء» من أكثر المصطلحات ذات الصلة بموضوع «الهوية». ليس فقط للدلالة المباشرة الشائعة، حيث يعنى الوفاء/اﻹخلاص/المشاركة اﻹيجابية.. الخ، وكلها ذات مغزى أخلاقي. أما وقد بات المصطلح ذا دلالة سياسية وثقافية.. فليس أقل من التوقف مع المصطلح والبحث عن تلك العلاقة الهامة والمباشرة..
يعنى الانتماء بداية، انتماء الفرد لجماعة معينة والعمل على تقديم التضحية الواجبة تجاهها ﺇن لزم الأمر. لذا فهو قوة دافعة في ذاته، أي أن الانتماء روح وسلوك لا ينفصلان. كما يتصف الانتماء بـ»الالتزام»، حيث تصبح مفاهيم الجماعة وقوانينها وقيمها هي المعيار الذي يلزم به المرء نفسه دون ﺇجبار.
غالبا ما يكسب الانتماء بعض الصفات للمنتمى، منها التخلص من الذاتية الفردية الأنانية، الشعور بالسعادة حين مشاركة الجماعة وخدمتها، الموافقة المطلقة على أفكار الجماعة وإن بدت غير خيرة، وبذلك يصبح الفرد متكيفا مع الجماعة.. وما البطولات الفردية ﺇلا من بواعث روح الانتماء.
وقد فسر الكثيرون الانتماء على أنه فطري، حيث أن الإنسان ضعيف بطبعه وفي حاجة ﺇلى الآخر/الجماعة كي يشعر بالاطمئنان. كما أن الذات الإنسانية لا تتحقق ﺇلا من خلال علاقتها بالخارج حيث الجماعة. كما أضاف البعض أن وجود «قضية» يزيد من الانتماء، حيث يتحول الكل ﺇلى وجهة مشتركة تجمع الأفراد وبالتالي الجماعة حولها.
ﺇلا أنه تلزم اﻹشارة ﺇلى أن مقولة أن الانتماء فطري، في حاجة ﺇلى ﺇضافة حقيقة موضوعية، ألا وهي أن كل فطري في حاجة ﺇلى تهذيب وتوجيه أو ﺇلى «تربية».. أي أن الانتماء في حاجة ﺇلى الصقل بالخبرات اليومية المضافة والتدريب. فتكون البداية بتحديد قضية/قضايا الجماعة، والتدريب على حب الجماعة وقبولها بكل تناقضاتها (ﺇن وجدت)، وهو ما عبر عنه البعض بالتدريب على الولاء عند الأطفال أولا. وفي فترة المراهقة يعتمد على الولاء للجماعات الطبيعية، مثل الأسرة والفصل وفريق الرياضة.. وهكذا.
وأخيرا فعلاقة الفرد بالمجتمع هامة في تحديد حريته وفي التماسك الاجتماعي نفسه. ولأن مسألة الوحدة الوطنية قضية هامة ومصيرية، فإن موضوع «الانتماء» من أهم الموضوعات الواجب تزكيتها دوما في مجال الحديث عن «الوطن» والمواطنة، وبالتالي حب الوطن وحمايته والدفاع عنه ﺇلى حد الفناء من أجله.