حاكمية النصوص
من المعروف أن أزمة نصر حامد أبوزيد كانت بسبب ما لقيه من تيارات الإسلام الدينية المتشددة من جراء قراءتها المغلوطة لإنتاج أبي زيد العلمي، حتى وصل الأمر باتهامه بالخروج عن الملة، والتفريق بينه وبين زوجته في واقعة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديثة، على قدر علمنا. والمؤسف في هذه الأزمة أنها دارت خلف أسوار الجامعة، وداخل أروقة العلم وساحات المعرفة والتنوير، وإن خرجت -فيما بعد- إلى ساحات القضاء وصفحات الجرائد ومنابر المساجد، وباتت تدور على ألسنة العامة على نحو ما كانت تدور أخبار الكرة والحوادث الجنسية المثيرة.
ونحن في هذا المقام، لسنا بصدد إعادة طرح قضية أبي زيد، لكننا نحاول إعادة تقديم شيئاً من فكره المستنير الذي كان سبباً في الهجوم الضاري الذي تعرض له وانتهى به إلى مغادرة البلاد مطروداً، ومطارداً على نحو ما وقع لواحدة من شخصيات نجيب محفوظ الشهيرة، الذي كان (أي محفوظ) أيضاً ضحية لنفس اللون من التفكير وذات الطريقة في الفهم.
وفي سياق الدفاع عن النفس وإبراء الذمة، أعاد أبوزيد طباعة كتابه «نقد الخطاب الديني» -وهو واحد من الأبحاث التي تقدم بها للجنة الترقية بالجامعة وكانت مثاراً للأزمة- وفي طبعته الثانية قدم تمهيداً طويلاً يناقش فيه كل ما أثير من اعتراضات على الكتاب وصاحبه. وفي هذا الصدد يقول «… ما قيل عن الكتاب وعن صاحبه يتجاوز حدود ‘الاختلاف’ إلى ‘وهدة التكفير’ الأمر الذي عرّض عقيدة صاحب الكتاب إلى حملة ضارية لا في الصحف والمجلات فقط، بل من على منابر المساجد والزوايا في القاهرة وخارجها. وليس القصد من هذا التمهيد مواجهة هذه الحملة، لأن ‘المواجهة’ أمر يتجاوز حدود كل إمكانيات المفكر والمثقف، بل هي ‘شهادة’ يسجلها ‘نقد الخطاب الديني’ للحق والتاريخ».
وينقسم كتاب «نقد الخطاب الديني» إلى مقدمة وثلاثة فصول: في المقدمة يتناول أبوزيد ظاهرة المد الديني الإسلامي والاتجاهات الثلاثة إزاء هذه الظاهرة، وهي المؤسسة الدينية (الأزهر)، واليسار الإسلامي، والعلمانيون، ويرى أن لكل من هذه الاتجاهات طريقة خاصة في قراءة النصوص الدينية. ويدور الفصل الأول حول الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكرية، ويتناول الفصل الثاني موضوع التراث بين التّأويل والتلوين، وهو دراسة نقدية لمشروع اليسار الإسلامي والذي يمثله الدكتور حسن حنفي، ويتناول الفصل الثالث قراءة النصوص الدينية في دراسة استكشافية لأنماط الدلالة.
ونحن هنا في سياق الحديث عن الخطاب الديني، سيكون حديثنا منصباً على المحتوى الفكري للفصل الأول. وفي هذا الصدد يرصد أبوزيد خمس آليات للخطاب الديني المعاصر، يعترف بأنها لا تستوعب كل آليات الخطاب الديني، مما يجعل المجال مفتوحاً للكشف عن مزيد من الآليات، وأن هذه الآليات الخمس هي -في تقديره- الآليات الأساسية والجوهرية التي تحكم مجمل الخطاب الديني وتسيطر عليه.
وأول هذه الآليات هو «التوحيد بين الفكر والدين». وفيها يرى أبوزيد أنه منذ اللحظات الأولى في التاريخ الإسلامي -وخلال فترة نزول الوحي وتشكل النصوص- كان ثمة إدراك مستقر أن للنصوص الدينية مجالات فعاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية ولا تتعلق بها فعالية النصوص.
إلا أن الخطاب الديني المعاصر -رغم ذلك- يمضي في طريق مدّ فعالية النصوص الدينية إلى كل المجالات، متجاهلاً تلك الفروق التي صيغت في مبدأ «أنتم أعلم بشؤون دنياكم».
والآلية الثانية التي يرصدها أبوزيد هي «رد الظواهر إلى مبدأ واحد». فإذا كانت كل العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أولى أو مبدأ أول -هو الله سبحانه وتعالى في الإسلام- فإن الخطاب الديني، لا العقيدة، هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر، الطبيعية والاجتماعية، يردها جميعاً إلى ذلك المبدأ الأول. إنه يقوم بإحلال «الله» في الواقع العيني المباشر، ويردّ إليه كل ما يقع فيه. وفي هذا الإحلال يتم -تلقائياً- نفي الإنسان، كما يتم إلغاء «القوانين» الطبيعية والاجتماعية، ومصادرة أيّ معرفة لا سند لها من الخطاب الديني، أو من سلطة العلماء.
ولا يكتفي الخطاب الديني -فيما يرى أبوزيد- بتوظيف هذه الآلية لتكريس هذا المبدأ فحسب، بل يوظفها أيضاً في هجومه على كثير من اجتهادات العقل الإنساني في محاولته لتفسير الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وفهمها. ويتم ذلك باختزال كل اجتهاد من هذه الاجتهادات ورده إلى فكرة واحدة تبدو ساذجة ومتهالكة في التعبير الخطاب الديني عنها.
فيتم اختزال «العلمانية الأوروبية» في صفة واحدة هي مناهضة الدين، واختزال «الماركسية» في الإلحاد والمادية، واختزال «الداروينية» في مقولة «حيوانية الإنسان»، واختزال «الفرويدية» في «وحل الجنس».
والآلية الثالثة في الخطاب الديني المعاصر هي «الاعتماد على سلطة «التراث» و»السلف». وفي هذه الآلية يتم تحويل أقوال السلف واجتهاداتهم إلى «نصوص» لا تقبل النقاش، أو إعادة النظر والاجتهاد. بل يتجاوز الخطاب الديني هذا الموقف إلى التوحيد بين تلك الاجتهادات وبين الدين في ذاته. وبهذا المعنى فإن الخطاب الديني يتعمد تجاهل جانب آخر من التراث، يناهض توظيف هذه الآلية ويردها على أصحابها، وهذا في حقيقته -فيما يرى أبوزيد- يمثل «موقفا- نفعياً أيديولوجياً من التراث، موقفاً يستبعد منه «العقلي» والمستنير ليكرس الرجعي «المتخلف».
يمكننا القول إن خطاب نصر حامد أبوزيد نفسه له آلياته ومنطلقاته التي تستحق المراجعة، لكننا آثرنا أن نعرض لخطابه النقدي كما هو دون التدخل من جانبنا، تاركين للقارئ حرية النقد والمراجعة
وحين يستند الخطاب الديني المعاصر إلى هذا الجانب من التراث فإنه يتعمّد تجاهل الجانب الآخر ، مثل اتجاه «أصحاب الطبائع» من المعتزلة والفلاسفة ويتم ذلك في أحيان كثيرة بإضفاء صفة القداسة الدينية على الاتجاه الأول، ورد الاتجاه الثاني إلى تأثيرات أجنبية انحرفت به عن الإسلام الحقيقي.
والآلية الرابعة هي «اليقين الذهني والحسم الفكري». وهي آلية تنطوي في بنيتها على روح الإقصاء والتمركز حول الذات، ومن خلال تلاحمها العضوي مع آلية «التوحيد بين الفكر والدين» تقود أصحابها إلى المسارعة بتجهيل الخصوم أحياناً، وتكفيرهم أحياناً أخرى، فهذا الخطاب -كما يقول أبوزيد- لا يتحمل أيّ خلاف جذري، وإن اتسع صدره لبعض الخلافات الجزئية.
وهنا يبدو تسامحه واتساع صدره واضحاً ومثيراً للإعجاب، يتسع للتشدد والتنطع، بل للتطرف. ولكن إذا تجاوز السطح إلى الأعماق والجذور احتمى الخطاب الديني بدعوى الحقيقة المطلقة الشاملة التي يمثلها، ولجأ إلى لغة الحسم واليقين والقطع، وهنا يذوب الغشاء الوهمي الذي يتصور البعض أنه يفصل بين الاعتدال والتطرف.
فظاهرة مثل «الجماعات الإسلامية» لا يصح أن يُسمح بمناقشتها أو بالكتابة عنها إلا لأهل العلم بالإسلام، وفي محاولة تقديم تعريف لما هو «التطرف» يصر الخطاب الديني على أنه جهة الاختصاص الوحيدة، فلا قيمة لأيّ بيان أو حكم ما لم يكن مستنداً إلى المفاهيم الإسلامية الأصلية وإلى النصوص والقواعد الشرعية.
والآلية الخامسة والأخيرة التي يرصدها أبوزيد هي «إهدار البعد التاريخي». وفي هذه الآلية يتضح إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه، وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. ولا يقف إهدار البعد التاريخي وتجاهله عند وهم التطابق بين الماضي والحاضر، بل يتجاوز ذلك إلى فهم حركة الإسلام في مرحلة النشأة في واقع المجتمع العربي. فالخطاب الديني يبدو مدركاً لبعض أبعاد هذه العلاقة حين يريد إثبات واقعية الإسلام، أو مراعاة التدرج في الإصلاح والتغيير، لكنه يتجاهل كل ذلك حين يتحدث عن علاقة المسلمين الأوائل بواقع مجتمعهم، فيتطابق تصوره للمسلمين في عصر الوحي مع تلك الصورة «الفانتازية» التي تعرضها المسلسلات الدينية التلفزيونية.
حيث يتمايزون عن معاصريهم في كل شيء تقريباً، في الأزياء والحركات والإيماءات وفي كثير من خصائص لغتهم وطريقة نطقهم لها. إن الإسلام فيما يتصوّر الخطاب الديني خلع عن المسلم كل ما يربطه بواقعه. ومن الطبيعي في مثل هذا التصور أن يرتبط بالدعوة إلى الانفصال عن الواقع واعتزاله والاستعلاء عليه. ويختم أبوزيد رصده لآليات الخطاب الديني المعاصر بعبارة دالة حين يقول «من هذا النبع يمتح خطاب الجماعات الإسلامية، ويتشكل سلوك أفرادها، وهكذا يعيش المسلم -بفعل هذا الخطاب- خارج التاريخ».
هذا عن آليات الخطاب الديني، فماذا عن المنطلقات الفكرية؟
يحصر أبوزيد المنطلقات الفكرية في اثنين: «الحاكمية» و»النص».
بالنسبة إلى الحاكمية، يرى أبوزيد أن طرح هذا المفهوم من منظور ديني يتجاوز مجرد كونه يقدم غطاءً أيديولوجيا لنظام سياسي يزعم الخطاب الديني أنه يسعى إلى تغييره بنظام إلهي يحقق للإنسانية سعادة الدنيا والآخرة، وأن التغطية الأيديولوجية تمثل وجهاً، ربما كان غير مقصود، من خطورة المفهوم، أما الوجه الأشد خطراً فهو الوجه المعلن المقصود. يزعم الخطاب الديني أن النظام الذي يقوم على حاكمية البشر -وهي كل الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة- يؤدي إلى استبعاد بعضهم البعض الآخر باحتكار حق التشريع لهم وتنظيم حياتهم، وهو الحق الذي لا يصح أن يكون إلا لله بوصفه سبحانه الخالق والرازق والمهيمن والمسيطر والعالم القادر الحكيم، وأن الإنسان يجب ألا يخضع بالعبودية والطاعة والامتثال إلا لله، وما سواه من البشر الذين ينازعونه السلطان والحاكمية طواغيت جاء الإسلام ليحرر البشرية من سطوتهم وسلطانهم.
وتمتد الحاكمية لتنال مفهوم «النص» كمنطلق ثان للخطاب الديني. وهنا يبين أبوزيد كيف أن الخطاب الديني يتفق على أن النصوص الدينية قابلة لتجدد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزمان والمكان، لكنه لا يتجاوز فهم الفقهاء لهذه الظاهرة، ولذلك يقصرها على النصوص التشريعية، دون نصوص العقائد، أو القصص، وعلى هذا التحديد لمجال الاجتهاد يؤسس الخطاب الديني لمقولة صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويعارض إلى حدّ التكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني.
إن تركيز الخطاب الديني على حاكمية النصوص في مجالات الواقع والفكر كافة، مع ما يعلنه من قصر الاجتهاد على الفروع دون الأصول، ومع تحديد مجال الاجتهاد في النصوص الفرعية (الأحاديث) دون النص الأساسي (القرآن) يؤدي إلى تحديد كل من النص والواقع معاً.
ويختتم أبوزيد حديثه عن المنطلقات الفكرية قائلاً «إن الواقع من منظور شباب الجماعات عصيّ على الإصلاح، والعقل الإنساني عاجز عن إبداع واقع طيب مؤنس، ولا حل من ثم إلا إحياء المثال الجاهز القديم، المجتمع الإسلامي كما عاشه الصحابة تحت قيادة النبي، إنه الاحتكام إلى كتاب الله وحده السبيل إلى تحقيق هذا الحلم..».
وفي النهاية يمكننا القول إن خطاب نصر حامد أبوزيد نفسه له آلياته ومنطلقاته التي تستحق المراجعة، لكننا آثرنا أن نعرض لخطابه النقدي كما هو دون التدخل من جانبنا، تاركين للقارئ حرية النقد والمراجعة، ومن ثم الحكم على مدى مصداقية خطاب أبي زيد ، ومدى اتساقه مع الواقع ومع الاتجاه الفكري الذي ينتمي إليه. فكما للخطاب الديني الماضوي/السلفي إكراهاته، فإن للخطاب العقلاني المعاصر إكراهاته أيضاً، وفي كل الأحوال ستكون الكلمة الأخيرة للحق وللتاريخ على نحو ما نوّه أبوزيد نفسه في تمهيده للكتاب.