حالة‭ ‬ضبط

الاثنين 2016/02/01
لوحة: فادي يازجي

إذا كان الفن في مجمله يتيح لك فرصة تناول حياة البشر والتعبير عن أوجاعهم ومخاوفهم وأفكارهم، فإنه في الوقت نفسه قد يصيبك بإحباطٍ ما عندما لا يصل ما تقدّمه إلى أولئك المُلهِمين‭..‬ فكيف مثلاً تستطيع أن تخبر طفلاً لمحتَه من بعيد باحثاً في القمامة عن شيء يأكله أنك كتبتَ عنه؟ أو ما هو السبيل إلى امرأة عجوز رأيتَها تحت الشمس المتوهجة مرتكنة إلى سورِ حديقة تغطّ في نومٍ عميق فحرّكت وجدانك؟ ولكن ربما أغفلتَ أن هذا الطفل كما تراوده أحلام الشبع والريّ فقد يتمنى أيضاً أن تُحكى له حكاية ينام قبل أن تنتهي، وأن تلك العجوز قد تكون قاصة بارعة لموروثها الشعبي والثقافي من قبل أن تولد أنت‭..‬

فن القصة (حالة ضبط) لمشاهد قد تبدو عادية تهيّئ لك فرصة التحديق فيها واسترجاع تفاصيلها الصغيرة التي ربّما عشتَها من قبل، فكرة محمولة على أكتاف الكلمة ومغروسة في الوجدان، القصة القصيرة من المفترض ألا تروي عن زمن محدّد بل هي ذاتها حاضر وماضٍ ومستقبل، وأحسب أن التطور الذي لحق بالقصة يفوق نظيره في الرواية بكثير، ومؤشّر ملموس وأكثر حساسية للتعبير عن اللحظات الفاصلة في تاريخ الإنسان المعاصر، تستطيع أن ترى بوضوح عيون وقلوب البشر إبّان الحروب والهزائم والانتصارات‭..‬ تكتشف ما حدث للإنسان وما أحدث في الكون في أقل مساحة إبداعية ممكنة‭..‬

لا ينبغي أن يحدث خلطٌ بين قصيدة النثر والقصة، الشعر هو الشعر ولا مكان لالتباس بينه وبين أي فن آخر، لكن هناك من يقدم تناولا شاعريًّا في لغة القصة ومن المفترض أن يضيف ذلك إلى البناء الفني للعمل ولا يخرجه عن إطاره القصصي والمقصد الذي ترنو إليه فكرته‭..‬

أرى أن السبب في تراجع شعبية القصة أمام الرواية هو الاهتمام بتسويقها إعلامياً ، فهناك بالفعل أزمة نشر كبيرة تتعلق بالقصّة والشعر أيضاً، وذلك برغم غزارة الإنتاج وجودة الكثير منه‭..‬ إلا أن الأمل يبقى في المخلصين لفنّ القصة وتمسكهم بإبداعهم مهما كانت الظروف المحيطة‭..‬ ومازلتُ أجد أن التعامل مع (الكلمة)⊇ كسلعة شيءٌ مهين، فيقول توفيق الحكيم “الثقافة ليست بضاعة مادية لأمةٍ من الأمم وإنما ثقافة كل أمة ملك البشرية جميعاً”‭..‬ على أن الترويج للقراءة بشكلٍ عام يجب أن يُبذل في منظومة تستطيع أن توفر الكتاب للقارئ بقيمة لا تهدف إلى الربح في أمة لا تقرأ‭..‬

أرى أن كاتب القصة هو مفكّر بالضرورة ولديه رؤية إلى جانب حسّه الوجداني يجتهد من أجل إبرازها في صورة فنية بليغة دون مبالغة، اللجوء إلى الرمزية والتغريب في كثير من نصوص القصة والتركيز على الصور المكثفة والقدرة على إدهاش القارئ من أجمل ما يميز هذا الفن المتميز، فهو كقالب مَرن بإمكانه استيعاب العديد من القضايا الراهنة دون تصريح مباشر قد يصرف القارئ الواعي عن العمل، بل يتسلل إلى عقله ووجدانه فتصل الفكرة وتتحقق المتعة من وراء العمل‭..‬

قد يجد القاص نفسه في حاجة إلى كتابة رواية، إلى سرد تفاصيل وأزمنة متعددة وأبطال كُثر، الرواية عمل لا بدّ أن يُنظر إليه بجدية أكثر، أن تكتب رواية تاريخية مثلاً فهذا يتطلب قراءة وتحضيرا للمادة العلمية قد تصل إلى سنوات كما يفعل الأساتذة الكِبار، المعايشة والتحقق والقدرة على هضم الشخصيات وسردها في كتابة تستميل القارئ ولا تصيبه بالملل تحدٍ كبير‭..‬

العديد من أصوات القصة القصيرة في مصر والعالم العربي تحلّق وتعرف طريقها جيداً إلى التحقّق ولديها وِجهة محددة وأهداف تسعى إليها بثبات، وخاصةً من الشباب وهذا -وبالإضافة إلى موهبتهم الجليّة- فما يمر به وطننا العربي كان له أبلغ الأثر في إنتاجهم ولا شكّ أنه أحدث طفرة أدبية كبيرة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.