حبّ الاستكشاف والتمرد
تعدُّ الشخصية الروائيّة المكوّن الأساسيّ في بنية الرواية، لما تقوم به من دور في إنتاج الأحداث ومن ثمّ اعتنت معظم الدراسات النقدية المنشغلة بحقل الرواية بالشخصية الروائية، فدرسوا أبعادها وسماتها وتقسيماتها، والأهم وظائفها داخل بنية الخطاب السردي. وهناك مَن بالغ في أوصافها فهي على حدّ تعبير رولان بارت “ليس من قصة واحدة في العالم من غير شخصية” بل هناك من ذهب بأن “الرواية شخصية”. نالت الشخصيات الروائية اعتناء كافة المنظرين، كما أنهم قاموا بتصنيفات متعددة للشخصية كما فعل تودروف بربط الشخصية بالدور الذي تقوم به. وهناك مَن صنَّفها وفقًا لوظائفها كما فعل فيليب هامون. جاء حضور الشخصية على اختلاف مراحلها باذخًا في الرواية، فقد تمثّلت الرِّواية العربيّة، وهي تلتقط شخصياته من الواقع الخصب، العديد من الشخصيات الحيّة، فتوقفت عند شخصية المرأة بكافة تنويعاتها؛ الأمّ والزوجة والعاشقة والطالبة والمرأة المهمّشة. وبالمثل اعتنت بشخصية الرجل، فظهر البطل المتعلِّم والمعلِّم والعاشق والماجن والفدائي وصاحب الرأي، والشيخ والزاهد والمتصوِّف والمتسوّل، وغيرها من نماذج حاضرة في معظم النتاجات الروائية. لكن الملاحظة المهمّة أن الرواية اكتفت بإظهار شخصيتي الرجل والمرأة في صورتهما النهاية، دون تعريج على مراحلها المختلفة والتغيّرات التي لحقت بهذه الشخصيات والتأثيرات الواقعة عليها، وإن كانت مُرّرت في إشارات دون توقف عند مرحلتي الطفولة وكذلك المراهقة والأخيرة لما لها من تأثير كبير في صبغ الشخصية بالكثير من الصفات التي صارت عليها في مرحلتها اللاحقة.
المرحلة البينية
تُمثّل مرحلة المرهقة في حياة الإنسان مرحلة بينيّة، فهي المرحلة التي يتجاوز بها الشخص مرحلة الطفولة ببراءتها إلى مرحلة الشباب بتمرّدها وفتوّتها. ومن ثمّ لها أهمية قصوى في دراسات علم النفس التي تُعرِّفُها بأنّها “هي المرحلة العمريّة التي ينتقل فيها الإنسان من الطفولة إلى النضوج الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي، والتي يُصبح الفرد فيها قادرًا على اتّخاذ قراراته واهتماماته بنفسه، وتحديد هواياته ومهاراته الخاصّة”.
ومن ثمّ يعتبر علماء النفس “مرحلة المراهقة بخصائصها ومعطياتها هي أخطر منعطف يمرُّ به الشباب، وأكبر منزلق يمكن أن تزلّ فيه قدمه؛ إذا لم يجد التوجيه والعناية الصحيحين” ومن أبرز المخاطر التي يعيشها المراهقون في تلك المرحلة كما يقول علماء النفس “فقدان الهوية والانتماء، وافتقاد الهدف الذي يسعون إليه، وتناقض القيمّ التي يعيشونها، فضلاً عن مشكلة الفراغ”. وتنطوي هذه الفترة على الكثير من الصفات التي تحلّها على الشخصيات الواقعة فيها، ومنها الصّراع الداخلي والانسحاب والانطواء الذاتي والاغتراب والتمرّد والرفض، وهذه الصفات كفيلة بإنتاج شخصيات ثرّة وإشكالية في ذات الوقت.
في الحقيقة توقفت معظم النتاجات الروائية عند هذه الفترة على استحياء، وباستثناءات قليلة. فقد جاءت تمثيلاتها في المدوّنة الروائية على ندرتها سريعة دون توقف عند آثار هذه الفترة المهمّة في تكوين سلوكيات الشخصية بصفة عامة، ومَن تعرّض لها وقف عندها في شكل من أشكال الارتداد لماضي الشخصية. لكن يبقى لنجيب محفوظ الكاتب الحصيف والدارس للشخصية المصرية بامتياز، وكذلك إحسان عبدالقدوس، بصمتيهما في تقديم هذا النموذج بصورة جليّة. وإن كان نجيب محفوظ منح شخصيات هذه الفترة دورَ البطولة وتتبعها إلى أن تصل إلى مدارج الشيخوخة، فتوقف عند هذه الشخصية مطوّلاً عبر شخصية كمال ابن السّيد أحمد عبدالجواد في الجزء الأوّل من الثلاثية “بين القصرين” 1956.
يعتبر علماء النفس “مرحلة المراهقة بخصائصها ومعطياتها هي أخطر منعطف يمرُّ به الشباب، وأكبر منزلق يمكن أن تزلّ فيه قدمه؛ إذا لم يجد التوجيه والعناية الصحيحين” ومن أبرز المخاطر التي يعيشها المراهقون في تلك المرحلة كما يقول علماء النفس “فقدان الهوية والانتماء، وافتقاد الهدف الذي يسعون إليه، وتناقض القيمّ التي يعيشونها، فضلاً عن مشكلة الفراغ”
أعطى الراوي لكمال العنان في الجزء الثاني “قصر الشوق” 1957، فقد فارق لِتوّه مرحلة الطفولة بعد أن أنهى البكالوريا، وينتظر الدخول إلى الجامعة. في البداية أودُّ أن أشير إلى أن ثمّة تباينًا في نماذج هذه الشخصية عند نجيب محفوظ ممثلة في شخصية “كمال” في الثلاثية: بين القصرين وقصر الشوق والسّكرية، وعند إحسان عبدالقدوس ممثّلة في شخصيتي “ممدوح وليلى” في رواية “لا تطفئ الشمس″ 1959. التباين أن محفوظ تتّبَعَ مسيرة هذه الشخصية من نهاية الطفولة، إلى المراهقة، ثمّ مرحلة الشّباب بكل ما حملته من نزق المراهقة، وإخفاقات الحبّ، وصولا إلى فترة العقلانية حيث صار كمال معلّما في الجزء الثالث “السكرية” 1957.
ومن ثمّ سنلاحظ بصورة جليّة تمثيلاً واضحًا لتباينات الشخصيّة وأيضًا لصراعاتها. أمّا إحسان عبدالقدوس، فقدّم نموذجيه في صورة ثابتة، لم يتتبع تطوّرهما العمري، باستثناء الارتداد لمرحلة أسبق لشخصية ليلى؛ ليوضّح علاقتها بوالدها وهي في الرابعة عشرة من عمرها. كما قدّم صورة لتمرّد هذه المرحلة عبر شخصيتي ممدوح وليلى. فممدوح شابّ نزق محبّ للحياة وراغب في شغف لتجريب كل ما يعنّ له، وبالمثل ليلى في علاقتها بأستاذها. الاختلاف الثاني أن نجيب محفوظ لم ينسَ وهو يقدِّم شخصية المراهق عبر صورة كمال، أن تجسّد الشخصية البراءة والرغبة في الاستكشاف عبر التساؤلات، وهي سمة أساسية في المراهق، وفقًا لتحديدات علماء النفس لسمات الشخصية. في حين قاد إحسان عبدالقدوس شخصياته إلى الصراع مباشرة، فيضعها في تحدٍّ وتمرّدٍ للآخرين على نحو ما رأينا صدامات ممدوح وليلى مع أفراد العائلة بقراراتهما المتسرعة والنزقة في بعضها.
ضد سلطة سي السيد
في رواية “بين القصرين” لنجيب محفوظ، يأتي حضور شخصية كمال صاحب الرأس الكبير والأنف العظيم، على لسان والده الذي يعود من سهرته بالخارج، وما إن تنتهي السيدة أمينة من عاداتها التي تقوم بها لسيدها، حتى يبدأ سؤاله المعتاد عن حال الأولاد، ثم يخصّ كمال بالذكر قائلاً:
• “وكمال؟! إياكِ وأن تتستري على شيطنته!” (بين القصرين، ص17).
حوار الوالديْن، يكشف لنا عن سمات كمال سواء الجسمانية أو النفسية، فهو ما زال تلميذًا في مدرسة خليل أغا، في السادسة عشرة من عمره، وفي دراسته مجتهد وذكيّ، إلّا أنّه يميل إلى اللعب والنزق، ونزقه يكون سببًا في حادثة أمه التي يُعاقب السيد عبدالجواد الجميع عليها. كما يعمد إلى الحيلة وإن كان ثمَّة حِصار مفروض عليه من قبل أبيه مثله مثل سائر إخوته، فهذه الشطارة استوجبت حنق أبيه عليه. تبدو علاقة كمال مع أبيه في الجزء الأول من الرواية، متوترة فهو – عكس إخوته الذكور؛ ياسين وفهمي- “أعظمهم خوفًا من أبيه، وفي نفس الوقت أشدهم تبرُّمًا” (بين القصرين، ص 26).
يُقدِّم محفوظ لشخصية كمال كل الصفات الخاصة بالمراهق، فهو فضولي يتتبع الأخبار ويختلق حكايات داخل الأسرة، تشكّل مادة للنميمة. كما أنه ذو نزعة دينية، وإن كان يميل إلى استراق السّمع لما يدور خلف الأبواب المغلقة، إلى جانب ميله إلى المشاغبة. أهمُّ أمانيه “أن يلعب كما يشاء، وأن يغيِّر طبع أبيه، وأن تبقى عائشة وخديجة في البيت إلى الأبد، وأن يأخذ المصروف قدر كفايته، وأن ندخل الجنة جميعًا بغير حساب” (بين القصرين، ص 197). لديه حسٌّ استكشافي، وهو ما يضعه والعائلة في موقف مريب، خاصة علاقته بالجنود الإنكليز والتي وصفها الراوي بأنها “صداقة متبادلة”.
علاقة الغلام بالجنود البريطانيين، والتي لم تنزلهم “منزلة الشياطين” كما هي عند فهمي، بدأت أوّل الأمر بمنحه الهدايا مُقابل الغناء لهم، لكن في النهاية قادت الأسرة إلى مأزق كبير، خاصة في ظل حالة الاستعداء والاستقواء على أمّ حنفي رفيقة كمال إلى المدرسة، وخشيتهم من أنْ تقودهم حالة التستر هذه إلى عواقب وخيمة. تتطور الأمور بعدما يُصِرُّ كمال على عدم قطع صداقته بهم، فيذهب بعد أوقات المدرسة إليهم في المعسكر ويشرب الشاي الذي دعاه إليه جوليون، ويغني لهم الأغاني، وإن كان ثمّة مطالب وطنية تسربت إليه من حوارات فهمي، بأن يرحلوا عن بلاده ويعيدوا سعد باشا، وهو ما كان دومًا يلاقى بالرفض هكذا “سعد نو”. يتطوّر الأمر ويتهمه فهمي بالخيانة، عندما تطورت علاقة جوليون بمريم ابنة المرحوم السيد محمد رضوان، ورغبته بأن يرسل لها هدية عن طريق كمال. علاقته بالجنود الإنكليز كانت أشبه بمغامرة قاده إليها ولع الاستكشاف والفضول، وهو ما قابلته الأسرة بالرفض بعد مأساة ياسين في الجامع الأزهر واتهامه بالجاسوسية إلّا أنّه كان يجيبهم بأنّه صغير، ثمّ مع محاولات كمال الاستمرار في هذه العلاقة اضّطرت الأسرة لمنعه باستعمال القوة.
بحكم طبيعة هذه المرحلة يرتبط كمال بأمه أكثر، خاصة في مجلس القهوة، وأثناء مراجعة دروسه في المدرسة، وإن كانت أظهرت هذه العلاقة الثنائية (كمال – الأم) بداية بوادر الاحتجاج والتمرّد في شخصيته، حيث يرفض انسياق أمه إلى الحكايات الخرافية، ودائما يُشكِّكُ في معارفها الدينيّة، بالقدر الذي اكتسبه من المدرسة.
ينتهي الجزء الأول من الثلاثية “بين القصرين” باشتعال فتيل المقاومة ضدّ الاحتلال واستشهاد فهمي، ويبدأ الجزء الثاني “قصر الشوق” بكمال في السابعة عشرة، حيث ينتظر نتيجة البكالوريا. في الحقيقة يقوده محفوظ في هذه المرحلة إلى مواجهات صادمة بدأها بأبيه. أوّل ملمح يمكن الانتباه إليه في تنامي شخصية كمال، يتمثّل في أن أباه لم يعد يشتمه كسابق عهده من قبل، فقد ترك أمر كمال وتولى أمر أحفاده نعيمة وعبدالمنعم وعثمان وأحمد ومحمد أبناء عائشة وخديجة ورضوان ياسين. لكن تأخذ علاقته بأبيه طورًا آخر يتمثّل في الجدل، حيث رفضه الامتثال لقرار والده بالدخول إلى مدرسة الحقوق وإصراره على الدخول إلى مدرسة المعلمين العُليا التي في نظر أبيه من “المدارس الحقيرة” (قصر الشوق، ص 62) التي يتعلّم فيها بالمجّان أبناء الفقراء.
في جدال كمال مع أبيه كشف عن شخصية قوية مثقفة تبتغي العلم للعلم والبحث عن جوهر الحياة وفلسفتها، وليس من أجل الوظيفة، وهو ما كان مُثار سخرية من قبل الأب. لكن هذه المواجهة منحت كمال القدرة على اختبار شخصيته وصمودها أمام القرارات المصيرية التي احتكم فيها إلى العقل والمنطق “والسعي إلى المثال الأعلى في الدين والسياسية والفكر والحب” (قصر الشوق، ص 214) كما وصفته أمه وكذلك منحته أيضًا القدرة على استكشاف مواطن ضعفه وقوته، فيدخل بعدها عالمًا جديدًا من الاستكشافات هذه المرة، معتمدًا على تحكيم العقل، وأوّل صداماته كانت ثورته على ضريح الحسين الذي اكتشفَ أنّه لا يحوي شيئًا، ثم يأتي التطوُّر الثاني في تمرّده على العلاقة الجنسيّة التي جمعته وصديقه فؤاد ابن جميل الحمزاوي مساعد أبيه في الدكان، بقمر ونرجس ابنتي أبي سريع صاحب المقلى، وقد اكتشف كمال وفؤاد معهما الجنس مع مطلع المراهقة.
إلا أنه عندما يعرض فؤاد عليه الذهاب لملاقاة الفتاتين بعدما خرطهما خرَّاط البنات، يرفض وَيُعلن في حسم “لم أعد أطيق القذارة” (قصر الشوق، ص 93) بل يُعلن رأيه في الجنس هكذا “إنّي أرى الشهوة غريزة حقيرة، وأمقت فكرة الاستسلام لها، لعلها لم تخلق فينا إلّا كي تلهمنا الشعور بالمقاومة والتسامي حتى تعلو عن جدارة إلى مرتبة الإنسانية الحقّة، إما أن أكون إنسانًا وإمّا أن أكون حيوانًا…” (قصر الشوق، ص 95) أبرز ملمح يتميّز به كمال في هذه الفترة هو الميل إلى الانعزال، وهو الأمر الذي لاحظته السِّت أمينة / أمه، خاصّة بعدما خَلى البيت بذهاب ياسين إلى بيت بين القصرين، استعدادًا للزواج، ولم يبقَ من مجلس القهوة إلا أمينة وكمال. فقد رأته “يبدو غائبًا دائمًا أو كالغائب” (قصر الشوق، ص108).
هكذا بهذه التطوّرات المهمّة والتي جاءت عبر خبرات وتجارب يدخل محفوظ بطله طور الشباب وهو عاقل يحتكم إلى المنطق، صاحب رؤية. وكأنّ فترة المراهقة كانت أشبه بحقل التجارب لتأهيله لخوض هذه المرحلة، وما سيواجهه من صعوبات وإخفاقات أولها إخفاق حبّه لعايدة شداد التي عاش هائمًا معها في علاقة رومانسية إلّا أنها تخطب لغريمه حسن سليم صبري ابن المستشار.
الخروج من جلباب العائلة
في رواية “لا تطفئ الشمس″ (جزءان في 1350 صفحة، 1959) لإحسان عبدالقدوس ينتمي ممدوح وليلى إلى عائلة ثرية، فالأب الرّاحل وإن كان من أسرة ريفية متوسطة الحال إلى أنه نزح إلى القاهرة واستطاع أن يسلك سلك القضاء حتى صار قاضيًا في وزارة العدل، أما الأمّ فهي تنتمي إلى جذور تركية، تملك عمارة وسط القاهرة تدرّ دخلاً كبيرًا، كما أنها تمتلك البيت الكبير الذي يقيمون فيه، علاوة على معاش والدهم الراحل الذي يصل إلى خمسين جنيهًا في الشهر. الخال عزت بيه (وكيل الوزارة) هو عميد العائلة بعد وفاة الوالد. تولّت الأم عنايات هانم المثقفة والعاقلة الاهتمام بالأسرة بعد وفاة الزوج، “فربطت العائلة برباط من الحب والتآلف” (لا تطفئ الشمس، ج1، ص 21) فهي أم متطوِّرة منحت بناتها الثلاث قدرًا كبيرًا من الحرية وشجعتهن على الاستمرار في العلم، لكن ذلك في حدود تقاليد العائلة الصارمة.
يقدّم إحسان عبدالقدوس شخصية ممدوح، وهو الابن قبل الأخير، على أنّه صبي مرح يملأ البيت صخبًا ومرحًا كان عمليًا في تصرفاته جرئيًا، له شخصيته المستقلة أو العنيدة فعندما كان صغيرًا أراد أن تكون له دراجة، ثم عندما كبر اشترى موتوسيكلًا، ثم بدأ يفكر في أن يشتري سيارة، شخصيته العنيدة جعلته يُصرُّ دائمًا “على تنفيذ رغباته ويتحايل للوصول إليها وأحيانا يتحدى أمه” (لا تطفئ الشمس، ج1، ص 21). بالأحرى كان يحيا حياة “عنيفة ثائرة” على حد وصف أخيه أحمد وقد أحبّ هذه الحياة العنيفة. لكن تنتهي نهاية مأسوية عندما يشتدُّ إصراره على ترك الجامعة وإنشاء ورشته حُلمه، وسط رفض جميع أفراد أسرته. لكن يزداد التوتر عندما يتدخّل خاله عزت بيه، ويسخر ويسفّه من هذه الأحلام “وحضرتك عاوز تبقى فورد” (539).
وأمام رفضهم يصر على أن يسرق إسورة أمه، ويَحُول أخوه أحمد بينه وبين الدولاب الذي يريد أن يكسره، إلا أن عناد المراهقة استملكه، فاضّطر أحمد إلى أنْ يضربه، فخرج غاضبًا، وبينما يقود الفيسبا الخاصة به، وقع له حادث سير. انتهت أحلامه وخلّفت خلفها أحزانًا مَريرةً لدى جميع الأسرة خاصّة أحمد الذي أعتقد أنه كان السبب في مقتل أخيه. أما ليلى فهي أصغر الأبناء، في الثامنة عشرة من عمرها، تهوى الموسيقى والعزف على البيانو، تربطها علاقة بأستاذها وجارهم فتحي، مع أنّه أكبرها سنًا. كانت مدلّلة بين أخوتها وعندما بدأت تجلس على البيانو لم ينهرها أبوها كانت مدللة حتى أنها في صغرها كانت تلقي بطربوش أبيها على الأرض دون أن يغضب منها، وهو الفعل الذي كان حكرًا عليها ولم يجرؤ ممدوح على فعله مطلقًا. وعندما شبّت في التاسعة شعرتْ أنَّ أباها لها وحدها دون إخوتها. وقد أحبته.. فقط؛ أبوها والموسيقى، وهذه الصورة التي حاول أن يظهرها الرّاوي ليلي توضح سبب تعلُّقها بأستاذها فتحي صاحب التسعة والثلاثين عامًا، والمتزوّج من صديقة العائلة عواطف التي كانت تصلها أخبار نزواته مع ليلى إلا أنها لم تواجهه.
توقفت معظم النتاجات الروائية عند هذه الفترة على استحياء، وباستثناءات قليلة. فقد جاءت تمثيلاتها في المدوّنة الروائية على ندرتها سريعة دون توقف عند آثار هذه الفترة المهمّة في تكوين سلوكيات الشخصية بصفة عامة، ومَن تعرّض لها وقف عندها في شكل من أشكال الارتداد لماضي الشخصية. لكن يبقى لنجيب محفوظ الكاتب الحصيف والدارس للشخصية المصرية بامتياز، وكذلك إحسان عبدالقدوس، بصمتيهما في تقديم هذا النموذج
كان الأستاذ فتحي يمثّل لها صورة الأب المفقود، الذي مات وهي في التاسعة، حينها كانت “عروس البيت” وأحسّت لحظتها بأنها “فقدت عرشها” وهو ما لاحظه الجميع في البيت وحاولوا تدليلها وتعويضها، فنالت “مزيدًا من الدلال، والحنان، ومزيدًا من الحبِّ”، وإن بقى في داخله جانب حزين لم يستطع أحد أن ينزعه منها. حلَّ أولا الأستاذ في معهد الأستاذ تيجرمان الموسيقى، بطلاً من أبطال خيالها، ثمّ أخذ خيالها يستبد بها حتى أصبح نوعًا من الحبِّ، نوعًا غريبًا من الحب. إلا أنّ الأستاذ “رجل عجوز عصبي المزاج مصاب بالربو” وهي فتاة في الرابعة عشر من عمرها ثم أخذت علاقتها بفتحي جارهم عندما جاء هو وزوجته في أحد الأعياد. وبعدما كانت العلاقة تصويبًا لخطأ وقعت فيه أثناء العزف، لكنها أخذت منعطفًا جديدًا. وقد شعر الأستاذ فتحي بخطورة ما تقوم به بعدما راحت تُقبِّل أصابع يده وتضع خدها في راحة يده، فحذرها: • يا ليلى، انتى مش عارفة أنتي بتعملي إيه.. انتي بتلعبي بالنار، بتعذبي نفسك… وبتعذبيني معاك. (لا تطفئ الشمس، ج1، ص 75)
التطوّرات في شخصيتها بدأت عندما أخذت تذهب وتلاحظ غياب الزوجة، عندها بدأت خطواتها في ممارسة الإغواء والتمرّد، فصبغت شفتيها بأحمر الشفاه، دون أن تعرف لماذا؟ ربما أرادت أن تبدو كبيرة في السن. قريبة من عمره، أرادت أن تبدو كسيدة كزوجته. هكذا أرادت أن تتجاوز مرحلتها السنية (الرابعة عشرة وقتها)، لتكون في مرحلة أكثر مناسبة وقريبة من فتحي الذي يزيد عمره عنها كثيرًا.
الغريب أنها سارت في “طريق حبها بلا هدف ولا تدري إلى أين؟ ولا تدري المصير؟”. حالة النزق التي صارت عليها ليلى أوقعتها في مشكلة كبيرة بعدما انكشف أمرها، واتّهامها بالكذب من قبل أمها، التي أصرّت بالاتفاق مع الخال على تزويجها، إلا أنّ سياسة الإرغام قابلتها الفتاة بعناد أكثر، فأخذت تهددهم بالانتحار أو الهرب، وفي الأخير هربت إلى الأستاذ فتحي. إلا أنه استطاع أن يعيدها إلى أسرتها من جديد. ومع حالات رفض فتحي لهروبها، ثم إعلانها أنها ستخطب، دون أن يهتم، لم تفهم أن علاقته بها ليس أكثر من مُلهم، فهو يحبُّ فنه أكثر من أي شخص، ووجد فيها المُلهم لألحانه التي تدفقت من لقاءاته معها. كان فتحي يجد في “ليلى القلق والحيرة والشذوذ”. وكأنه “كان يبحث عن نفسه التي تقيّدت بالزواج من عواطف” (لا تطفئ الشمس، ج2، ص 290) دخلت حياة فتحي وهي في الثامنة عشر أما هو فكان في التاسعة والثلاثين فهو لا يحبها.
في الحقيقة كانت ليلى تكرر سيرة الأمّ عندما أحبّت عبدالسلام وهي في السابعة عشرة من عمرها، إلا أن الابنة كانت أكثر جرأة في الدفاع عن رغباتها حتى ولو كانت مخالفة لعرف العائلة. فقد كانت “تشعر بأنها في معركة تحارب فيها القدر وليس أهلها فقط”. سعى إحسان عبدالقدوس عبر هذا التمرّد الذي بدت عليه شخصيتا ممدوح وليلى أن يؤكد رفضه لحالات الاستنساخ التي تسعى إليها الأسر لأن يكون أبناؤها مجرد ظل لهم. فجاء التمرّد من قبل ممدوح وليلى المراهقين، في حين ظل أحمد يعيش في جلباب أبيه إلى أن شارك في صفوف المدافعين عن بورسعيد في حرب 1956، ليستعيد بعدها ذاته الخاصة، لدرجة أنه تساوى مع محمود الفقير حبيب أخته بعد “أن ساوت الحرب بينهما”.
مرآة للأسرة
في كثير من الروايات ظهرت شخصيات تحمل ملامح شخصية المراهق، وإن جاءت كجزء من الأحداث، وليست كشخصية مستقلّة يدور العمل حولها كما شاهدنا في تمثيلات كمال وممدوح وليلى. فكان الغرض الأساسي من حضور هذه الشخصية هو إظهار أزمات الأسرة، أي أنها أشبه بالمرآة التي تظهر أمامها مشاكل الأسرة وتتضخّم، حيث كان الاهتمام بالأطفال في هذه المرحلة الحرجة أحد الصدامات بين الزوجين. ومن هذه الروايات رواية علاء الأسواني”عمارة يعقوبيان” 2002، فقد عرض الكاتب للطفولة البائسة التي كان يُعاني منها حاتم رشيد بفقدان لأبويه معنويا؛ فوالده منهمك في عمله ومحاضراته، وسفرياته، وأمه جانيت بعملها كمترجمة في السفارة الفرنسية، فقضى طفولته مع الخادم إدريس، وعندما بدأت علاقتهما الشاذة كان في التاسعة، إلا أنها امتدت حتى وفاة أبيه وهو في الثانوية، فاضطرت الأم إلى التخلّي عن الخدم توفيرا للنفقات وغادر إدريس وقد أثّرت غيبته في نفسيته لدرجة أنه حصل على مجموع ضئيل في الثانوية، فانغمس في حياته الشاذة الصاخبة. هكذا أراد الأسواني أن يحمِّل الأسرةَ وانصرافها لمشاغلها ما آل إليه مصير الابن من شذوذ وانحراف.
وبالمثل تعامل بهاء طاهر مع نموذج مُماثل في روايته “الحب في المنفي” 1995، حيث قدّم لنا شخصية المراهق المتمرّد، والسّاعي إلى إصلاح العالم. في ظل علاقة انفصال بين الأب الصحافي المنفي، والأمّ منار. كان خالد شابًا رياضيّا يحب قراءة الأدب، وبطلًا في الشطرنج وطالبًا في الجامعة، متفوّقًا في دروسه. لكن نظرًا إلى غياب الأب حدثت التحوّلات في شخصيته، وأراد أن يتجاوز صفته في كونه ابنًا إلى دور الوصيّ ليس فقط على أخته هنادي التي دومًا كانت تشتكي في مكالماتها الأسبوعية مع والدها من تدخلاته، فتارة يسعى إلى منعها من مشاهدة التلفاز، بعدما توقف هو عن المشاهدة. وتارة ثانية يرفض ذهابها إلى النادي، منعًا للاختلاط. وإنما أيضًا في علاقة الأب والأم. فسعى إلى الوساطة بينهما داعيًا إياهما بالعودة مُجدِّدًا، وهو ما أغضب والده منه.
لا ينسى بهاء طاهر أن يشير إلى أن مشكلات تربية الأطفال إحدى أهم المشكلات التي يحمّل الآباء الطرف الآخر مسؤوليتها، فمنار كانت تتهم زوجها بأنّه يُدلِّلُ الطفلين، ثم تمادت في اتهامه بأنه يعطله عن دروسه إذا لعبا الشطرنج معًا، أمّا إذا حمل هنادي وراح يلف بها، فتتهمه بأن فعله كان “سبب التعب الذي تعانيه في بطنها منه” (الحب في المنفي، ص 8). كانت تحوّلات خالد المُريبة بعد أن هجر الشعر وقراءة ماكبث، ذات تأثير صادم علي أبيه، وراح يؤنب نفسه ويخاطبه في وجع “إلى أين سننتهي يا خالد؟… نعم كنّا صاحبين دائمًا كما قلت. ولكننا كنا دائمًا نتناقش قبل أن تقول رأيك، الآن أنت تريد أن تقرر وحدك، وأن تنفذ وحدك. تريد أن تنفذ ما تريده لهنادي ولأمك ولي… هل ستقول لي مثل يوسف ولكي عندما بحث عنك لم أجدك؟ (الحب في المنفي، ص 191)
يُقدِّم محمد شكري في “الخبز الحافي” (كتبت عام 1972 ونشرت عام 1982) شخصية جدلية على كافة المستويات، فبعد مرحلة طفولة قاسية عاشها في ظل أب قاسٍ، وأم بكّاءة، يتعرف على لذته الجنسيّة عبر الصدفة دون أن يكون هناك دليل يرشده، يكتشف بلوغه عندما يؤلمه صدره، فيقال له “إنه البلوغ” فراح يستمني “على المحرَّم والحلال من الأجسام” (الخبز الحافي، ص 33). يقذف الراوي ببطله في دوامة هذه المرحلة، دون رقيب أو دليل من العائلة. وإنما يتركه صدفة لأصدقائه ولفتيات الليل. فبدأ حالة شغفه بالجنس بمراقبة آسية ابنة صاحبة البستان من خلال أغصان شجرة التين. يستغرق الراوي وصفه لسقوطه في دهاليز هذه المرحلة واستهاماته أمام جسد آسية الذي راح يتخيّله وهو يتعرّى “كأن الوجود كله يتعرّى”.
بعد اكتشاف اللذّة صار مهوُوسًا باستجلابها، بل راحَ يُطاردها في كل جسد يراه فلم تعُد تخيّلاته لآسية تكفي، فتعقّب فاطمة ابنة صاحب المقهى. ثم يدخل في مرحلة التجريب الحسّي عندما يلتقي بلّلا حرودة، التي يعتبرها المراهقون “مُعلِّمة في النكاح”. فيدخل أول تجربة جنسية مكتملة هو وصديقه التفرسيتي، من بوابة معلمة النكاح. يحدث التطور عندما يذهب إلى بورديل الإسبانيات. لم تعد المتعة الجنسية على شخصية محددة أو مكان واحد وإنما أخذ ينوّع ففي كل مكان ينتقل إليه يخوض تجربة جنسية، كما تخايله في أحلامه صورة آسية وفاطمة، في تطوان وبغاياها، وكذلك عندما قَدِمَ إلى وهران، تتجدد تجربته مع زوجة مراقب الحقل السيدة سيجوندي التي استطابت لطاجينه المغربي.
في الأخير نقول: نجحت الرّواية العربية في تقديم صورة مقرّبة عن عالم المراهقين، وإن كانت بتمثيلات متفاوتة. لكن ما يحسب لها أنها وقفت على الظروف النفسية ورغبات التمرّد التي كانت تصاحب هذه الشخصيات. فكشفت عن شخصيات صداميّة تارة، وأخرى استكشافيّة مغامرة. تسعى إلى إثبات الذات والتحرّر من ربق الأسرة، وهو ما واجهته الأسرة بضراوة في كثير منها.