حدود الخصوصية اليوم
يفرض كل تطور تكنولوجي نفسه على طبيعة وقيم حياة الإنسان للدرجة التي يتغير معها ما يكون الناس قد عدّوه ثوابت حياتية لهم خاصة إذا ما طالت فترة ثباته مما يولّد اعتيادا عليه واعتقادا أنه أصل ثابت غير قابل للتغير. تعد حدود الخصوصية من هذه الأمور التي تتغير نتيجة التطور التكنولوجي.
فمع اجتياح الرقمنة حياتنا على كل الأصعدة وفي كل الميادين، تلك التي يسير العالم سيراً حثيثاً نحوها، وهي ما تعني الاعتماد التام على تكنولوجيا متقدمة وذكية متطورة باستمرار كنظام – بديل للقوة البشرية – في شتى ميادين الحياة، ومع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واعتياد الانسان عليها حتى صارت هذه الأخيرة تشكل جزءاً مهماً لحياته لاشتراكها أيضاً كأداة في تنظيم حياة الإنسان اليومية مثل برنامج الواتس أب، اعتاد معظم الناس تبادل صور شخصية وتوثيق أخبار ونشاطات خاصة بهم، بل وحتى الإعلان عما يتذوقونه ويفضلونه من مأكولات وألوان للملابس التي يرتدونها، وآرائهم حول الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية مما يجعل معرفة ميولهم وآرائهم واتجاهاتهم الفكرية وتطلعاتهم وطموحاتهم ممكنة لدى الكثير ممن يتاح لهم الاطلاع على صفحاتهم وصفحات أصدقائهم الإلكترونية، كما أنه من الممكن تخزين كل هذا من خلال برامج وتطبيقات إلكترونية معينة، إلى الحد الذي ثار معه السؤال: أين الخصوصية الفردية – إذن- بعدما أصبحت حياتنا الشخصية مباحة ومتاحة للجميع نتيجة التقارير التي نكتبها بأيدينا عن كل ما يخصنا ونتيجة المعلومات الشخصية التي تخصنا والتي أصبحت في أيدي كثيرين غيرنا، منهم من نعرف ومنهم من لا نعرف؟ أين الخصوصية في عالم ذاب فيه التمييز بين ما هو عام وما هو خاص؟ هل أصبحنا نعيش مرحلة أو (عالم ما بعد الخصوصية) كما أسماه ميخائيل كوسنسكي (Michal Kosinski)؟
يرى البعض أن حدود الخصوصية تنكمش مع كل ازدياد لاستخدامنا للرقمنة ولأدوات التواصل الإلكتروني. ولما كان العالم يتجه نحو الرقمنة، فإن حدود الخصوصية تتجه نحو الذوبان بحيث يصبح من الصعب الحديث عندئذ عن خصوصية. لا يكمن الضرر فقط في غياب الخصوصية ولكن في خشية الاستغلال السيء لهذه المعلومات الخاصة. المعلومات الخاصة بأمورنا الصحية ستكون متاحة على تطبيقات وبرامج خاصة لكل من يستخدم الرقمنة الصحية. من الممكن أن يمارس أصحاب العمل تمييزاً ضد المستخدمين من أصحاب الأمراض المزمنة وأن يعطوا الأولوية لأصحاب الجينات الوراثية التي تظهر ذكاء ونشاطاً أعلى إذا ما تمكنوا من الوصول إلى هذه المعلومات.
ولكن ناحية أخرى، يرى البعض أن هذا الاختفاء التدريجي للخصوصية – أو لنقل السرية – والذي لن ينطبق فقط على الأفراد ولكنه ينسحب أيضاً على المؤسسات والحكومات سيجعلنا نحيا في عالم أكثر شفافية: سوف يصبح من الصعب على الحكومات في ظل إتاحة المعلومات أن تكذب على شعوبها أو تخفي معلومات من حقهم الاطلاع عليها. ففي ظل عالم من الصعب فيه إخفاء المعلومات، سيستعد كل امرئ للتفكير في كيفية التعامل الشفاف مع الآخر [Spivack, N.The Post Privacy World. In https://www.wired.com/insights/2013/07/the-post-privacy-world/ تم الدخول بتاريخ 29 يناير 2020].
أرى أن الخصوصية خاصية فطرية من خصائص الإنسان، تختلف درجتها وحدودها من مجتمع إل آخر ومن وقت إلى آخر ولكنها لن تختفي. فهي قيمة مطلقة من حيث وجودها في كل زمان ومكان ولكنها في الوقت نفسه قيمة نسبية لاختلاف شدتها من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى آخر.
لا غرابة أن يقلق الغرب من هذا الذي بدا لهم اعتداء على الخصوصية ويطلق أحد مفكريهم على المرحلة التاريخية القادمة مرحلة أو “عالم ما بعد الخصوصية”. فالقارئ للفكر الغربي والمتأمل للحياة في الغرب في العصر الحديث يلاحظ إعلاء مفكري الغرب وأشياعهم من غير الغربيين – بفخر – من شأن الخصوصية الفردية، والحديث عن كيف أنها ما يعطي الفرد قيمته واستقلاليته، فهم يعدونها من منجزات الديموقراطية الغربية التي يفخرون بها، بل ويعدونها القيمة الأخلاقية الأولى التي تتأسس عليها سائر القيم المجتمعية الأخرى. تعني الخصوصية وفقاً لهم الاستقلالية التامة لكل بالغ في قراراته وسلوكياته وحياته، خصوصية تظل مشروعة طالما أنها لا تخالف القانون. هذه الخصوصية خصوصية واعية يمارسها المرء باختياره وإرادته راغباً فيها ومتحملاً لنتائجها. ولكن الغرب في العصر الحديث ربطها بحق المرء في الاحتفاظ بسرية معلوماته الخاصة وحمايتها ضد أيّ اعتداء عليها.
أما الخصوصية في التصور الاسلامي فهي جزء لا يتجزأ من رؤية كلية عن كيفية حماية واحترام الإسلام لكرامة الإنسان من حيث كونه خليفة الله على الأرض. من هنا نجد تأكيداً عليها وعلى كيفية احترامها لخصوصية الإنسان في أكثر من آية قرآنية “ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً”، (الحجرات: الآية 12)، “يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها” (النور: الآية 27)
هذا المفهوم للخصوصية التي تهدف لصون كرامة صاحبها شابه خلط في مجتمعاتنا العربية بجعله مضاداً للحميمية الاجتماعية. غابت هذه الحميمية الاجتماعية التي كانت تميز الشرق العربي لتحل محلها خصوصية مستوردة من الغرب مزقت الأسر. انتقلت إلينا هذه الخصوصية من الغرب نقلاً – للأسف – آلياً دون أن نحاول اختباره والتحقق مما إذا كان يناسب نسيجنا الاجتماعي أم لا. فلأننا لا نختبر عادة ما يأتينا من الغرب، ولا نتحقق غالباً مما إذا كان يناسبنا أم لا، أو نحاول استقراء نتائجه التي قد تكون له، وكيف نستفيد منه إن أمكن، بل نتلقاه تلقياً أعمى، فإن انتقال كل ما هو غربي من أدوات وقيم وسياسات إلى مجتمعنا العربي – بحكم أن الغربي هو الأكثر تقدماً وقوة – لا يأخذ مجهوداً، لا من الناقل ولا من المتلقي. كان من نتيجة هذه الخصوصية الفردية التي انتقلت إلينا كشرقيين نتصف بالحميمية الاجتماعية أن ألقى كل فرد بنفسه في مجتمع افتراضي من خلال اعتماده على أجهزة المحمول بدلاً من المجتمع الحقيقي الذي كان يحيا فيه. ففي الوقت الذي اعتقد فيه الفرد العربي أنه بهذه الخصوصية يحقق استقلاليته، سمح لمن لا يعرف – في عالم الرقمنة أو عالم ما بعد الخصوصية – بالاطلاع على خصوصياته.
بعيداً عن مفهومي الخصوصية الغربية والعربية، يبدو أن هناك دائماً حدوداً مقيدة للخصوصية تفرضها ظواهر خارجة عن إرادة الإنسان على المرء أن يتنازل فيها عن قدر من هذه الخصوصية من أجل أن تستقيم حياته. فالإنسان قبل اعتماد حياته على الرقمنة كان يحيا في مجتمع قوامه أفراد تنشأ بينهم علاقات. يضحي فيه المرء ببعض خصوصياته وأسراره في سبيل قيام هذه العلاقات. فالقريبون منه قرابة الدم أو لظروف العمل يعرفون بعض خصوصياته التي تختلف كماً وكيفاً من شخص إلى آخر ممن يتعامل معهم. اعتاد الناس أيضا على احترام الملكيات العامة التي يشاركه فيها بقية أفراد المجتمع. كذلك يتنازل المرء عن قدر من خصوصياته متى تعارضت مع صالح المجتمع.
بالمثل، في عهد الرقمنة، يمكن لكل امرئ حماية خصوصياته على صفحات التواصل الاجتماعي بعدم نشر ما لا يحب. فكما أن هناك برامج وتطبيقات تجعل كل خصوصيات مستخدميها متاحة، هناك تطبيقات حماية وتقييد إتاحة يمكن استخدامها. كما يمكن للمجتمع أن يحفظ للفرد خصوصياته ويحميه من إساءة استخدام المعلومات الخاصة به بقوانين تمنع وتجرّم نشر أو استخدام أيّ معلومات أو صور خاصة دون استئذان صاحبها. نحتاج أيضاً لقوانين تضع حدوداً قاطعة بين ما هي خصوصيات فرد أو مؤسسة ما وبين ما هو تعدّ على الصالح العام أو الأمن القومي فيصبح من حق الدولة التدخل فيه.
السرية والخصوصية مطلوبة أيضاً لحماية كرامة المرء. سنحتاج لتشريعات تحمي الموظفين أصحاب الأمراض أو الضعفاء بشكل عام ضد أصحاب العمل الذين قد يمارسون تمييزاً ضدهم متى تم الكشف عن حالاتهم الصحية وذلك برفض توظيفهم حتى وإن لم تكن أمراضهم تشكل خطورة على غيرهم.
هذه على مستوى سائر المجتمعات. أما بالنسبة إلينا كشرقيين، أعتقد أننا في حاجة لدراسة هذا الوافد الجديد علينا دراسة جيدة، وأعتقد أن حظنا أفضل من الغرب كوننا لم ندخل عالم الرقمنة بالقدر الذي دخل فيه الغرب بعد. وبالتالي مازالت الفرصة أمامنا لدراسة السلبيات التي بإمكاننا تجنبها قبل حدوثها ويبقى تميزنا مرهوناً بقدرتنا على قطف أكبر قدر ممكن من ثمار نواتج التكنولوجيا بأقل قدر ممكن من خسائر تغيير قيمنا الأساسية.