حضور أنثوي رائع
إذا حصرنا التفكير النقدي في مجال النقد الأدبي فالأقلام النسائية قلائل قياسا بحضور الأقلام الرجالية، ولكن إذا اعتبرنا الإبداع نوعا من التفكير النقدي، لأن الروائية والشاعرة والقاصة والرسامة وكل أنواع الإبداع الأدبي ما هو إلا رؤية فلسفية للحياة يمتزج فيها النقد الثقافي والاجتماعي والأدبي، ألم تنقد أحلام مستغانمي الحرب الأهلية بالجزائر وكتّابها مثقفيها في روايتيها “ذاكرة الجسد” و”فوضى الحواس”؟ ألم تنقد الشاعرة روضة الحاج في قصائدها الفساد السياسي الذي أوصل الشعوب العربية إلى ما آلت إليه من فقر وبطالة؟ ألم تنقد هدى العطاس في قصصها الثقافة الفحولية وممارساتها العدوانية ضد الحضور الأنثوي؟ ومثل ذلك ينسحب على بقية الأصوات النسائية التي تتربع الآن على عرش المشهد الإبداعي العربي.
هناك حضور طاغ للصوت الأنثوي الجاد الذي يحاول أن يحفر له مكانا في الذاكرة العربية، وليس أدل على ذلك من الأصوات النسائية التي وقفت ليس فقط بالكتابة بوجه التمييز الجنسي أو ما أسميه الثقافة الفحولية بل بشكل مباشر بوجه المجتمع الذي يبارك هذه الثقافة، أذكر على سبيل المثال الدكتورة نوال السعداوي والشاعرة والروائية جمانة حداد وغيرهن من الأصوات التي أثبتت حضورا وتأثيرا واضحا على وعي الجيل الجديد. بالإضافة إلى ما يوازيه من حضور متميز للأقلام النسائية التي استخدمت الرمز لتغيير السائد الاجتماعي الذي يهمش المنجز الأنثوي على كل الأصعدة وليس الكتابة فحسب، وتحضرني الكثير من الأسماء النسائية مثلا على صعيد الرواية ليلى العثمان ومنى الشافعي وبثينة خضر مكي وزينب حفني ونادية كوكباني وعزيزة عبدالله وميرال الطحاوي وصالحة غابش وهدى النعيمي وسمر يزبك وهالة البدري وحصة العوضي وهدية حسين ولطفية الدليمي وميسلون هادي وإرادة الجبوري وشهلا العجيلي وسعاد آل خليفة وفوزية رشيد وريم الكمالي وغيرهن كثر، وعلى صعيد الشعر سعاد الصباح وإيمان بكري وريم قيس كبة ونبيلة زباري وزكية مال الله والهنوف محمد وهاشمية الموسوي وسعاد الكواري ونجوم الغانم ومروة حلاوة وحمدة خميس وظبية خميس وغيرهن كثير.
السائد الثقافي ما زال ينظر للمرأة كجسد بلا رأس، هي نظرة الشارع إلى الصوت النسائي في ظل غياب قانون مدني يحمي إنسانيتها وإن كان هناك قانون فإنه لا يتعدى أن يكون حبرا على ورق ولا يطبق، الصوت النسائي ما زال يفتح بصعوبة منصات الإبداع التي يهيمن عليها المبدع “الرجل”، لا أنكر تفهم الرجل المبدع لدور المرأة ومساندته لها ولكن يبقى بزوغ نجم الرجل في سماء الإبداع أسهل من المرأة.
ورغم المعوقات الاجتماعية فإن صوت المرأة يشكل حضورا متميزا في المشهد الأدبي العربي، ولكني لا أفهم فكرة أنها لم تنجح في رسم ملامح المساواة في المشهد الفكري، لأني شخصيا لا أجد فرقا بين الفكري والأدبي، وأيضا لا أعتقد بأن المرأة بمفردها ودون سلطة القانون المدني تستطيع أن ترسي دعائم المساواة. المساواة لن تكون متحققة على الأرض دون قانون يحميها ودولة تسهر على تفعيل هذه القيمة التي تغنت بها المجتمعات لمداعبة مشاعر المرأة. بالقانون وحده يمكن أن تتحقق المساواة ويمكن للمرأة أن تقف جنبا إلى جنب مع الرجل لممارسة دورها الإنساني في المجتمع وليس خلف الرجل “العظيم” -حسب المثل السائد- وبالقانون الذي يكفل لها إنسانيتها وآدميتها يمكن لها أن تتصدر منصات الخطاب الأدبي بل والخطاب السياسي. ذلك أيضا يحتاج إلى تعديل المناهج الدراسية التي ترسم للطفل الطالب “صورة أمه وأخته اللتين في المطبخ وصورة أبيه وأخيه اللذين يشاهدان التلفاز” تحقيق المساواة يحتاج إلى إعادة خلخلة السائد الثقافي وتصحيحه ولن يتم ذلك إلا بالقانون والقانون الفعلي فقط.
المرأة الكاتبة تجد نفسها في نهاية المطاف في مواجهة ليس فقط الظرف السياسي أو الاجتماعي بل والعائلي حين يعاديها ابنها أو أقاربها الرجال الذين يوصلون لمسامعها ما يسيء لاستقرارها
بالنسبة إليّ، فقد واجهت في بداياتي ما تواجهه أيّ كاتبة عربية إذا استثنينا المعوقات الاجتماعية، فثمة المعوقات الثقافية التي كانت تجبرني وأنا أتوقف عند صورة شعرية باذخة الجرأة في أن أبوح بتفاصيلها للمتلقي العادي، لذلك أستخدم أسلوب الترميز لأوصل مضامين كتابتي للقارئ المتخصص، بمعنى أنني أهرّب أفكاري بحقائب الرمز لتعبر القارئ الرقيب، شأني في كتاباتي النقدية شأن المبدع الذي يوظف الرمز ليغلف بنية المسكوت عنه، ومن ثم فقد توقفت بالنقد لأجرأ النصوص التي تناولت البنية الثقافية والاجتماعية للبيئة العربية ولكتاب احترفوا الكتابة وأتقنوها.
أما السؤال عن تراجع المشروع النقدي والفكري للمرأة، وعلاقته بسياسات البنى الفوقية المتحكمة فهو سؤال بقدر ما هو بسيط بقدر ما هو يضع اليد على الجرح، فالبنى الفوقية المتحكمة لها علاقة بكل الذي ذكر آنفا لا سيما وأنها توظف الخطاب الديني لخدمتها، ولمصلحتها، فتلك “البنى الفوقية” من مصلحتها تجهيل العامة “البنى الاجتماعية وتحديدا الفقيرة”، ولن يتم السيطرة عليها دون خطاب “الحرام والحلال” وأول خطوات الحرام هو “صوت المرأة”، ولنا أن نخمن كيف هو حال “المشروع النقدي والفكري للمرأة” التي هي ابنة هذا المجتمع، وكيف هو “تحررها”. بالمناسبة “تحررها” وحسب تلك المنظومة “تعني الخلاعة في اللبس والفعل والمروق عن النهج”، وليس القدرة على صناعة القرار وممارسة دورها الإنساني ولذلك فهو ما يدخل هنا في باب “الحرام” أو “العيب” في أقل تقدير.
المرأة الكاتبة تجد نفسها في نهاية المطاف في مواجهة ليس فقط الظرف السياسي أو الاجتماعي بل والعائلي حين يعاديها ابنها أو أقاربها الرجال الذين يوصلون لمسامعها ما يسيء لاستقرارها، حين تجد نفسها وحيدة بعد أن جاهرت بعدائيتها حارسات الثقافة الأبوية من النساء سواء الكاتبات أو بنات عائلتها، حين تجد نفسها دون معاش يكفل لها حياة كريمة ككاتبة وتجد نفسا مضطرة لأن تكون عالة على عائلتها، حين تجد نفسها مطلقة ودون معيل بسبب كتاباتها، نعم تتوقف عن الكتابة أو أن تغير مسارها على الأقل. وفي ذهني وأنا أذكر هذه الأمثلة حشد من الكاتبات المطلقات أو الأرامل دون معيل لأن الدولة لم تخصص لهنّ ما يحفظ لهن ماء الوجه. يتوقفن لأنه لا يوجد تقدير اجتماعي وثقافي للمرأة الكاتبة إلا فيما ندر، وأقصد هنا إذا كانت الكاتبة تتبوأ منصبا مهما أو أن لديها موردا ماليا يجعلها صانعة لقراراتها، ويكفي أن نقرأ رواية “المحاكمة” للروائية ليلى العثمان لنفهم تلك المعادلة المقلوبة وكيف تعيش المرأة الكاتبة وما هي معاناتها.
على الرغم من كل المعوقات فإن ما تقوم به المرأة العربية من إضافة للمكتبة العربية متميز ورائع وهناك أسماء مهمة أضافت للمكتبة الروائية والشعرية والنقدية، لكنها وأقصد المرأة الكاتبة للأسف ما زالت، وحسب فرجينيا وولف، تكتب بحروف مسروقة، حروف تسرقها من وقتها المزدحم بالالتزامات العائلية والاجتماعية كأمّ وزوجة وموظفة أو ربة بيت مكبلة بدوامة العمل المنزلي ومتطلباته التي تخيم على كل زمنها والتي لا تترك لها وقتا للكتابة إلا بعد نوم الصغار أو طبخ الطعام أو العودة من العمل بعد رحلة طويلة.