حفلة اعترافات مرحة في مقبرة

الجمعة 2019/02/01
لوحة: إيمان شقاق

الحياة كما لا نحب

قبل سنوات قررت أن أكتب ثلاثة كتب استلهم من خلالها وقائع عشتها في “تلك البلاد”. كنت يومها أعيش في مدينة سكلستونا بالسويد وكنت أقضي جل نهاري في الغابة القريبة من بيتي. لقد ذُهلت بعالم تشيده الصور والروائح والأصوات. كل شيء هناك كان يدعوني إلى أن أكون كائنا جديدا. حتى أنني ذات يوم رغبت في أن ألقي بكل ما أحمله في أعماقي من ذكريات مريرة ومزعجة في بحيرة كنت قد جلست على ضفتها متأملا أسراب البط الذي قيل لي أنه مثلي يملك رقما وطنيا. تلك الكتب التي فكرت في كتابتها كانت بالنسبة لي مناسبة لكي أتخلص من ذكرياتي وما تحمله من عصافير مقتولة امتزجت أجنحتها بطين بلادي السابقة. لقد آلمني أن التفت إلى الوراء، غير أنني أقنعت نفسي بأنها تلويحة وداع متأخرة. 

كتبت الجزء الأول وكان بعنوان “حياة محتملة”

كتبت الجزء الثاني وكان بعنوان “حياة متقطعة”

وبدأت بكتابة الجزء الثالث وكان بعنوان “حياة مؤجلة”

لم تكن حياتي في السويد تسمح بشيء من الكسل. من غير الكتابة تبدو الحياة عملا شاقا. كنت مقتنعا أن في إمكان اللغة أن تشكل طوق نجاة. وكنت أعجن أحلامي بمواد طازجة، لن يخطئ الطريق إليها مَن يضع قدميه على دروب الغابة بثقة واطمئنان.

في سنوات سابقة كتبت كتبي “لا شيء لا أحد” و”فردوس نائم” و”حياة صامتة” و”تلك البلاد” و”مائدة من هواء” و”القيامة بين شارعين” فيما كان شباك المطبخ مفتوحا على هواء الغابة.

“أنا رجل وحيد” قلت لنفسي يومها “غير أنك رجل حر لأول مرة في حياتك” قال لي صوت انبعث من داخلي. وجدت أن من المنطقي أن أتبعه. ولكن ما معنى أن يكون المرء حرا وهو يعيش في الغابة؟

أتذكر أنني يومها قد وضعت عددا من روايات هرمان هيسه قرب السرير وبدأت بالتهامها. هيسه رجل مشاء في الغابة السوداء.

 مشيت مئات الكيلومترات من غير أن أصل. كنت أكتب وأنا أمشي وفي المقابل كنت أمشي وأنا أكتب. كان علي يومها أن أتعلم المشي والكتابة من جديد. فبعد أن فرضت العزلة علي قوانينها انبعثت شروط جديدة للكتابة صار علي أن استجيب لها بدعة.

يومها صارت الكتابة تكتب نفسها مثلما تفعل القصيدة. في سن مبكرة اكتشفت في نفسي شغفا مذهلا بالنثر ولم يكن ذلك الشغف ليسبب قلقا للشاعر الذي يسكنني. ولأني أكتب بيسر فقد اكتشفت عن طريق الكتابة أن كل شيء من غير استثناء يصلح أن يكون موضوعا للكتابة ما دامت هناك قدرة على تأمله. وعلى سبيل المثال فقد كتبت أكثر من أربعين صفحة عن حلزون رايته يعبر أحد دروب الغابة. حياة كاملة من أجل متر ترابي واحد. تجربة تستحق أن يخصص المرء لها أكثر من أربعين صفحة من الحبر الخفي.

رحلة ذلك الحلزون امتزجت برحلتي عفويا من غير أن أخطط لذلك.

كان لدي ما أقوله للحلزون ومن خلاله للكائنات والأشياء التي من حولنا. لم تعد ذاكرتي ثقيلة مثل حجر. شعرت أن حياتي، ما مضى منها وما صارت خطواتي تتعثر به مثل خطوط بيضاء رسمت بالطباشير تسيل في مجرى مائي يشف عن أسماك ذهبية يمكن التقاطها باليد.

لقد رأيت حياتي شفافة بطريقة لم أكن أتوقعها حتى في الأحلام. وهو ما يسّر لي أن أتسلل إليها بخفة لص وبراءة أفعى. لا أتذكر ما كنت أتذكره. كانت الكتابة هي التي تعمل على شاشة الحاسوب مثلما يفعل توم وجيري ليؤلفا حكايتهما من مادة لقائهما المجاني.

لو سئلت يومها “ما الذي تفعله؟” لقلت “التخلص من حياة لم أعشها باعتبارها حياة”. الحياة كما لا نُحب. كان ذلك هو أول اعتراف علني بفشلي.

 شاعر في مقبرة

 أعود إلى الثلاثية المنحوسة. كارين أشبه بعشبة لم تنفض عنها ندى الصباح. تلك المرأة هي التي اقترحت علي البدء بكتابة رواية، بعد أن كنت قد حدثتها عن رسائل صديقتي إنعام كجه جي الإلكترونية. كانت إنعام تعيد تشكيل مقاطع من مقالاتي النثرية على هيأة قصائد، وهي التي كانت كلما التقينا تحثني على كتابة رواية. هزت كارين رأسها “لديك كنز من الحكايات اليومية فعلا. أنت تحول كل شيء إلى حكاية. لا أفرق أحيانا بين ما هو واقعي وما هو خيالي في ما تنقله لي من أخبار حياتك السابقة”، “لا بأس كارين. أعرف أن لدي شغف بالحكايات، يعصف بي كلما حاولت أن أفسر ما جرى لي، ولكني في الوقت نفسه أعرف أنني لا أملك مهارة مَن يضع حيل الرواية في خدمته. الحكائي ليس روائيا بالضرورة. مثلما هو حل المشاء الذي لا يمكن اعتباره رياضياُ. لا أطيق صبرا على الوقت الذي تستغرقه كتابة رواية”.

كارين التي صارت صديقتي هي المرشدة السويدية التي لجأت إليها من أجل معرفة تفاصيل عملية الانتساب إلى جامعة “لوند” جنوب البلاد.

لقد انتهت علاقتنا الوظيفية يوم أهديتها نسخة من أحد كتبي النقدية، كانت هناك ترجمة بالإنكليزية قد ألحقت به لتبدأ علاقة شخصية كشفت من خلالها كارين عن موهبة عظيمة في الإنصات والتعليق الذي غالبا ما كان استفهاميا. وهو ما كان يدفعني إلى الاسترسال في حكاياتي.

ذات يوم فيما كنا نشرب القهوة في نهار صيفي بارد قالت لي “كنتَ قد حدثتني عن حياتك في أوقات مختلفة وكنت أشعر كأنك تعترف. كما لو أنك لم تخبر أحدا قبلي بتلك الوقائع. هل أنا محقة في شعوري؟”

رغبت في أن أقفز على المفاجأة فقلت لها “هناك نوعان من الاعتراف. الأول نراه في الأفلام إذ تدخل بطلة الفيلم إلى صندوق لتعترف في أذن الكاهن وهو ما لا يكن مفهوما بالنسبة لي والاعتراف الثاني هو الذي يدلي به المعتقلون بعد حفلات التعذيب في بلادي. فيُقال ‘إن فلانا قد اعترف على رفاقه’ ليتم نبذه وعزله وتهميشه وتدميره نفسيا”. صمتُ في انتظار أن تتكلم. صمتت هي الأخرى وصارت تتأملني. لمست يدي وقالت بإشفاق “هل كنتَ تبكي؟” شعرت حينها أني على وشك البكاء. أخفضت رأسي. كنا قريبين كما لم نكن من قبل. قالت “يمكنك الاعتراف بالاتجاهين. ليكن أمامك الكاهن والجلاد معا وقل ما تشاء. تذكر أنك في السويد. أنت كائن حر”، من اليسير أن ينسى المرء حريته.

لن يحدث لكارين هذا. لن يشكل الاعتراف لها عبئا أخلاقيا. لا تحتاج لكي تعترف إلى كاهن أو جلاد.

“ما الذي تفعله؟” قالت لي وقد رأتني واقفا وسط البلدة.

“أرسم متاهات” قلت لها وضحكت.

هزت رأسها هذه المرة باطمئنان وربتت بيدها على كتفي.

“الشجرة تورق”

كنا في الربيع. ذاب الثلج وعاد الحمام وأزهر سياج الكنيسة.

في تلك الأثناء بدأت الكتابة بصوت عال وفي الهواء الطلق. كانت المقبرة التي هي حديقة الكنيسة (باللغة السويدية) هي المكان الملائم للاعتراف. فهي تجمع بين الطهر والتسامي. هناك مَن ينصت مبتسما وهو في حالة تخل كامل. لا يحتاج الأمر إلى آليات مسبقة ليكون البوح نظيفا. لا فرق هنا بين مَن هو طاعن في السن ومَن تتعثر شفتاها بين سطور المعجم.   

بدأت قدماي في السير على كوكب “حياة محتملة” هي تلك الحياة التي تنفست هواء لهاثها بدءا من اللحظة التي رفعت يدي ملوحا للعراق في معبر رويشد الأردني. قلت لنفسي متسائلا “تلك لحظة حرية، هل الحرية باب ينفتح على الضياع؟” كنت ضائعا ولكن هل علي أن أصدق ذلك؟ في تلك اللحظة اكتشفت أن الخوف هو الحجر الثقيل الذي يجر أرواحنا إلى قاع، لم نكن نهوى المضي إليه. الخوف من الحرية وعليها، بابان متقابلان في صحراء تلعب فيها الريح.

 أبكي من أجل كلمة نسيتها

 ليس هناك من سبب يستدعي التفكير بالمرآة حين يتعلق الأمر بالاعتراف. أنت لا ترى نفسك حين تعترف بل ترى الآخر، بكل أبهته وغطرسته وطغيانه غير أنك لن ترى الشيء الذي يعجبك فيه. يُخيفك من غير أن يحدث أثرا عميقا في نفسك. يمر كزوبعة. يعكر صفو بحيرتك غير أنه لا يقلب مزاج أسماكك. وأنت حين تعترف لا تكلم نفسك بل تكلمه. ذلك الآخر الذي يُفترض أن يكون عارفا بكل شيء عنك. وهي كذبة لن تستطيع القفز عليها. فهي وسيلتك للانتصار على خوفك. لن تكون جبانا في مواجهته لذلك تقرر أن لا تخفي عنه شيئا لكي لا تكون موقعا للسخرية بالنسبة له.

“اعتراف” تسمعه بعد أن تكون الجلسة قد بدأت.  

هناك حشد من القراء اليتامى في انتظاري. تضحكني تلك الفكرة الحزينة. فلا أحد تهمه اعترافاتي. ما من كاهن وما من جلاد وأنا أجلس على عشب حديقة الكنيسة، بين القبور وحيدا. لم أكن وحيدا. أيها الموتى انتظروا ما سوف أكتبه. تمنيت أن يكون أصدقائي الموتى العراقيين حاضرين تلك اللحظة. لم يكن المشهد جنائزيا ولم أكن حزينا.

“أحيانا لا يبقى مني سوى الكاتب. لذلك أبكي من أجل كلمة نسيتها” قلت لحارس المقبرة الذي رآني واقفا على الجسر الخشبي وحيدا. كان هناك سرب من البط يعبر من تحت الجسر”.

حين رويت لكارين لقائي بحارس المقبرة وما دار بيننا من حوار ضحكت بطريقة فاجأتني. قالت “كما لو أنك بطل في فيلم رومانسي”. لم أخبر كارين يومها أنني بدأت “حياتي المحتملة” من لحظة قطيعة كنت قد بدأتها في بيروت وأكملتها في الدوحة.

في كل لحظة إحباط كانت الصدفة تتدخل لإنقاذي. “ذلك سلم متين يمكن أن يحملني إلى حقيقة ما جرى” قلت لنفسي ومضيت في الاعتراف كما لو أني لم أتعرف على نفسي من قبل. لم أجد مبررا للإبطاء في الحكم على الآخرين، ذلك لأني لم أرغب في أن تتضمن روايتي أحكاما أخلاقية. انزلقت بي الكتابة إلى حياة، عشتها ولم تتح لي فرصة تأملها. في حلبة الرقص لا يفكر المرء في قدميه. يتركهما تفكران في مصيرهما. حرية جسده تهبه رغبة في التحليق، ليست هي من طبعه ولا من عاداته.

“أنا ذلك الراقص يا كارين”

ولأني كنت أكتب وأنا أمشي فقد كان علي أن أحفظ الكثير من الجمل الطويلة التي كانت تثقل جسدي إلى أن أتخلص منها من خلال كتابتها. لقد أفسد قلق الكتابة نزهاتي فصرت ألعن الماضي وألعن نفسي لأني لم ألجأ إلى أقرب كنيسة لأدلي باعترافاتي بعد أن غادر الجلاد بكوابيسه عالمي الليلي.

كنت ابتسم بحزن كلما رأيت قسا يمشي في ساحة المدينة. “أما كان علي أن أتبعه؟” ولكن الكتابة أهم. في حقيقة الأمر لم تكن أخطائي لتبدو واضحة إلا من خلال أخطاء الآخرين التي لا أتذكرها إلا باعتبارها نوعا من المزاح. لقد قُدر لي أن أنسى. “أنا لا أتذكر” عابرة أعجبتني من رينيه ماغريت، الرسام البلجيكي ووضعتها في مقدمة كتابي “حياة صامتة”.

“إذا كنت لا أتذكر فذلك معناه أنني أتخيل” قلت لنفسي فيما كنت في خضم الاعتراف. لم أجد معنى يومها لمقاومة النسيان. هناك ما يمكن أن تحمله الروح معها وهو ما يكفي مادة للكتابة. أنا روح هائمة تجر وراءها أرواحا هائمة.

ما كان يهمني فعلا أن أكون رفيقا بتلك الأرواح الهائمة أثناء الكتابة. وهو ما فعلته. لقد حملني بساط الريح إلى السويد ولم يكن ذلك البساط ليحلق إلا بسبب تلك الجمل والهمسات والزفرات والشهقات والأدعية التي طرزت طريقي بزخارفها. لم أكن أشي بأحد وأنا أعترف. كانت حياتي تتشكل أمامي مثل عمارة باروكية. أنا المولع بعصر الباروك.

 حياة متقطعة في انتظاري

 كانت السناجب تلهو قريبا من المكان الذي أقف فيه حين مرت جمهرة أطفال من أمامي. لست في حاجة إلى نافذة جديدة. لم أكن في حالة تسمح لي بالمشي في طريق جديدة. الطفل الذي رأيته في بارك السعدون كان قد لوح لي بمنديل زخرفته عمته بوجوه خراف مبتسمة. حين أدار لي ظهره عرفت أنه لا يرغب في رؤيتي. لذلك لم أجد نفعا في أن أتبعه هذه المرة.

كنت قد وهبت نفسي إجازة من الكتابة بعد أن أنهيت “حياة محتملة”. 

هل كنت سعيدا باعترافاتي؟

على المرء أن يتعلم فن الوشاية بنفسه من أجل أن يتصالح معها. لم يكن الماء الذي عاشت فيه سمكتي عذبا. تلك كذبة. ولكن حياتي كلها كانت عبارة عن أكاذيب متسلسلة. كل من يرغب الاعتراف لا بد أن يكتشف تلك الحقيقة. فالأكاذيب تحيط بنا من كل جهة. يكتشف المرء فجأة أنه عاش زمنا طويلا في خيال كذبة كبرى اسمها الوطن. لو كان ذلك الوطن حقيقيا لما احتجت أن أكون لاجئا. ولكن اللاجئ الذي صرته منحني فرصة أن أكون مواطنا لأول مرة في حياتي. لقد تأخرت في الاعتراف. أمضيت سنوات طويلة من حياتي هي سنوات الشباب في التكيف مع الزيف. ذلك الزيف الذي تبنته الدولة بعد أن أنتجته الأحزاب والقبائل والعوائل والمناهج الدراسية والتربية الدينية والأعراف والتقاليد الموروثة والثقافة الاجتماعية السائدة.

قال لي أحد الأصدقاء الرسامين وأنا أحاوره عن ضرورة أن يتماهى أسلوبه الفني مع آخر مستجدات الرسم في ألمانيا التي يقيم فيها “أن أكون رساما فتلك معجزة. عائلتي لا تنتج سوى فلاحين” وكان محقاً. تلك بلاد طاردة. لن يجد أبناؤها الباحثون عن حقيقتها مكانا لهم وسط عالم من الزيف، صار حقيقتها البديلة. وهو ما يعني أن كل محاولة للبحث عن الحقيقة ستصطدم بجدار أصم.

“أنا مشرد”. حين أقول تلك الجملة يصعق مَن يسمعها. المشرد هو ذلك الشخص الملقى في الشارع. أما أن يقيم المرء في بيت وله عنوان ثابت ويعتني بأناقته وله أصدقاء في كل مكان، يسافر من أجل لقائهم في أية لحظة يشاء فذلك لا يمت بصلة إلى صفة التشرد. ولكن مهلا. كل ما تظنونه حقيقة هو وهم. لو لم أكن لاجئا لما كنت ذلك الشخص الذي تعتبرون تشرده مجرد ادعاء. المتشرد الذي يقيم في داخلي هو الذي كتب “حياة متقطعة” وهو الجزء الثاني من الرواية التي هي كتاب اعترافاتي.

في “حياة متقطعة” التي كتبتها فيما كان العراق يعيش حربا أهلية بين عامي 2006 و2007 حاولت أن أعود إلى خطوط التماس التي صنعها المحاربون الطائفيون. لقد كنت هناك طفلا وصبيا ورجلا. لقد اكتشفت في لحظة إلهام أنني قد اجتزت مئات المرات تلك الخطوط الحمراء بخفة العراقي الذي خدعني.

لن أمضي قدما في شرح بداهة العيش التي عرفها البغداديون وهم يعيشون في مدينة حقيقية بالمواصفات الحديثة. تلك مدينة مَن يسكنها ومَن يتعلم فيها ومَن يعمل من أجلها وليس لديها دين أو قومية أو طائفة. إنها مدينة الجميع.

كنت حائرا في تشييد عمارة مدينتي حين صدمت بأن لا أحد يرغب في نشر كتابي “حياة محتملة”.

لقد عرضت نشره على أكثر من عشر من دور النشر. كان الجواب هو الرفض من غير التعرض للأسباب. عرض علي البعض أن أقوم بنشره على حسابي الخاص وهو مبدأ أرفضه. رسالة واحدة تضمنت شيئا من الحقيقة الجارحة قال لي صاحبها “لو أن كتابك كان مترجما إلى العربية لكنت نشرته. ولكنني لا أستطيع الدفاع عن أفكارك وأنت كاتب عربي”.

حين قبلته دار مدارك السعودية رفضته الرقابة في دبي مرتين. 

حفلة على طريقة تولوز لوتريك

حين أكملت كتابة “حياة متقطعة” وهو الجزء الثاني من اعترافاتي قلت لنفسي “لا بأس لنستمر في الكشف عن خبايا الحياة المؤجلة”. الحياة التي لم أعشها إلا باعتباري شاهدا. كنت أفكر في فينسنت الذي رسم أثناء إقامته في المنزل الأصفر بآرل 37 صورة شخصية، هي أعظم ما أنتجه في العشر سنوات التي كان فيها رساما. كانت تلك الصور هي اعترافاته التي تضمنت شيئا منها رسائله إلى أخيه تيو. كان ينظر في المرآة ويرسم ما يراه. ولكن ما الذي كان فينسنت يراه؟ لقد هيأ له وجهه أن يرى الألم والفجيعة والشقاء والعزلة والحرمان والقوة التي تقاوم الشعور بالنفي.

كنت وأنا أكتب كمَن ينظر من وراء نافذة قطار، لم أكن متأكداً من صلابة المشاهد التي تقع خارجه. في تلك الأيام كنت أحلم كل ليلة الحلم ذاته. كنت أجلس في قطار لم أكن أعرف إلى أين يتجه. حين بحثت عن التذكرة لم أجدها. وهو ما كان يدفعني إلى التفكير في أنني لن أتعرف على المحطة التي كنت أقصدها. هناك شيء ما مؤجل لم أستطع العثور على ما يمكن أن يدلني عليه. شيء ما سأكون على علم به لو أنني اهتديت إلى اسم المحطة التي كنت أنوي الذهاب إليها من أجل العثور عليه.

“أتيت متأخرا. الحفلة انتهت” قال لي البواب وهو يشير إلى الساعة الحائطية. كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا. حين عدت إلى الشارع صرت أتساءل “ما الذي جعلني أغادر فراشي في هذه الساعة أم أنني لم أذهب أصلا إلى البيت الذي فقدت الطريق إليه؟” لا أتذكر أنني كنت في مكان ما قبل أن أحضر إلى مكان تلك الحفلة فلمَ تأخرت؟ ثم ما معنى أن أكون مدعوا لحفلة، لم أعد أتذكر شيئا عنها؟ سيكون نوعا من البلاهة لو أنني عدت إلى البواب لأسأله عن مناسبة تلك الحفلة وعن المدعوين الذين غادروا.

 لربما كانت حفلة محتملة. سيكون علي في اليوم التالي أن أرسم لها مخططا على طريقة تولوز لوتريك. يعترف لوتريك من خلال لوحاته أنه كان هناك. نعم في ملهى الطاحونة الحمراء بباريس. بل إنه عاش جل حياته هناك. لوحاته هي سيرته الحقيقية. الكتابة هي شيء من ذلك القبيل. أنت تكتب من أجل أن تقول ما لم يقله أحد من قبل. ذلك أمر شخصي، يلتصق بك أكثر حين تفشل في عملية إيصاله إلى الآخرين. تعترف من غير أن ينصت أحد إلى اعترافاتك. لا القس ولا الجلاد.

غالبا ما كنت أصرخ في قلب الغابة بجمل، كنت أعتقد أنني لن أجرؤ على تركيبها من هواء الصوت. لقد صنعت من تلك الجمل مادة لكتابي “حياة مؤجلة” الذي قررت أن لا أنشره، بعد أن اكتفيت بمهمة كتابته. الاعتراف يكفي. لقد سمعني الأموات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.