حكايتي مع باقـة الورد
أخيراً جهزت ربطة الورد، ووصلت إلى مقر المكتبة.. كنت مندهشاً من كل شيء أمامي.. من الدرجات الرخامية والثريات ومن زيت السيارات المدلوق قرب العتبة، مثل العسل المنسكب من شجرة رأيتها مرة في الوادي السحيق تدلق العسل، ويزنزن عليها النحل ويطنطن، أو هكذا تخيلت الأمور عندما كنت أرعى الماعز على أعتاب بلدتي.
دخلتْ رجلي قبلي، ثم تبعها رأسي، ولم يطل الوقت حتى دخلت بقضيضي إلى المكتبة، وألقيت بالسلام بصوت عالٍ وبالورد على الطاولة بلا هوادة ودون قصد.. والله، فجاء الارتطام بصوت (تَخْ) فاقعة، أدارت رؤوسهم ورؤوسهن نحوي، ونحو بذلتي القصيرة الضيقة، وطولي الفارع بلا أيّ خصلة، وأثناء استدارة رؤوسهم تأملوا وجهي المنصهد بشمس الصحراء الكبرى وهو يرمي غبش انصهاده في بياض وجوه بنات المدينة.
التفت الجميع نحوي ونحو ربطة الورد التي أحملها بين يدي مثلما كنت أحمل الجداء والخراف الوليدة هناك في وادينا العميق.. كان حبل الربطة قد انصرم فتبيّن أن في الربطة وردات ذابلات، ومحشور بها ورق وقش وتبن كما اتفق لتبدو كبيرة ولائقة بمناسبة مرور عام على تجمعنا الصغير ذاك.
ألوان وأشكال الوردات غير ذات انسجام بالمرة كما فهمت بعد شهور من أحدهم، بل هكذا قال لي بالحرف الواحد.. باختصار والحق يقال إن صاحبنا هذا استمر في نقيقه عليّ وقال بأنها كانت فضيحة لا يواريها إلا فم عنز أكول، ثم نظر إليّ بشماتة وانخرط في نوبة ضحك على فضيحتي كما قال.
ذهبت بي الخيالات والهواجس بعيداً وأنا أرى في منامي تلك الليلة أن فضيحة الوردات تنطمر في فم العنزة الأكول الذي لا يشبع من الورد والتبن، ومن الصياح واللبلبة في نفس الوقت.. في ذلك المنام غرزت تلك العنز لعلعتها في أذني، فهببت من نومي فإذا بي أرى جدّي ينكزني ويصيح في أذني أن الشمس طلعت وأنا لا أزال نائماً مثل جرو، وأن قطيع الماعز ينتظرني في الزريبة لأسوقه أمامي إلى المرعى في أطراف بلدتنا، فمضيت أهش على معزاتي وبقايا صياح تلك العنز لا يزال يلعلع في أذني.
القليل من الوردات التي دخلتُ أضمها إلى ساعدي اشتريته من السوق مع أنه مترنخ وذابل، وما كنت لأدفع فيه ريالاً واحداً لو لم يكن رخيصاً.. نعم رخيص، وأقولها بالفم المليان رخيص، فمن الذي يشتري الورد الغالي الذي لا يطبخ ولا يؤكل، من يشتريه إلا هؤلاء التافهون أولاد المدينة الذين يعبثون بالمال ويبعزقونه مثلما نعبث نحن ببعر الإبل، ولكن في النهاية لا نبعزقه، بل نطبخ به عشاءنا.
بعض الوردات كان من أنواع برية تماماً، وصغيرة الحجم، وبلا سيقان، لأنني قطعتها بيدي على عجل، ولم أعلم بأن لسيقانها فائدة، وإلا لكنت أحضرتها بجذورها وترابها.
قال لي ذلك النقاق:
• بالله قل لي.. كيف ثبتت تلك الوردات اللاتي بلا سيقان بين الأنواع الأخرى التي لها سيقان، وكيف ضممتها ثم حزمتها وربطتها إلى بعضها البعض بغشامة واضحة لا جدال فيها، وكأنك تربط حزمة من نبات السبط؟
قلت له ببراءة بدوي:
• حشرتها بين أخواتها ذات السيقان.
ولكن عدم درايتي وجهلي بتقديم الورد في هذا اليوم المميز – كما قال لي ذلك النقاق – لم تشفع لي، بل جعلت من وردات ربطة الورد تنفصل عن بعضها البعض، وتنصرم، وتخرج منها المصيبة التي ستعرفونها فيما سيأتي من كلام، كما جعلت عرقي يتقاطر كما لو أنني لا أزال أنصهد تحت لهيب شمس الصحراء الكبرى.
في الطريق وأنا متغمّر غُمر الورد في غُمري، كنت أسائل نفسي، ماذا لو كنت أحضرت ربطة أو ربطتين من الجزر السكّري المذاق.. يا الله .. قلت السفناري السكري كما يقول ربعي، ولم أقل الجزر السكري.. ما علينا.
جلست مع البنات والأولاد أصحابي أمسح عن السفناري التراب بيدي.. أغزه وأتحدث بفم مملوء بالجزر البرتقالي المنجرش.. ألم يكن ذلك أكثر فائدة من هذا الذي أحمله كاللعنة، ويسميه هؤلاء الملاعين باقة ورد؟
المصيبة في هذا النهار اللي زي بعضه، أن زوجين من يرقات العشب التي تخرج في الربيع لم ألحظهما عندما كنت أضمضم بعض زهرات الكرنب البري من زريبة الماشية أثناء إعداد الباقة، فالتصقتا بها ولم تجدا دفئهما وملاذهما العبيطتان إلا هنا فانطمرتا في غياهب الربطة، وعندما سقطت من حافة الطاولة وتبعثرت مع (تخ) الارتطام، خرجت اليرقتان المنتفختان بالكرنب الأخضر اللزج، وجاهدتا بالحركة البطيئة المنبرمة والدؤوبة باتجاه هؤلاء البنات الجميلات اللاتي كن يقرمشن ويغززن السفناري بأسنانهن البيضاء الجميلة، فصرخن دفعة واحدة.. وواحدة منهن مرعوشة ومنفلتة سبقتهن فصرخت مثل كتكوت هارب، ثم اندلع الهرج والمرج.. فتصوّر.
هب مدير المكتبة، وخرج علينا بعينين رائبتين منتفختين من نوم المكاتب، وشعر منكوش رغم الصلعة اللامعة في الوسط، يتقدمه كرش متدلٍ تحت الفانيلا الداخلية المخرمة والمهترئة، ورغم قصر قامته البيّن الذي لا جدال فيه، إلا أنه صرخ في وجوهنا، وأمرنا بذراع غاضب، وإصبع حازم غير متردد أن انقلعوا، فانقلعنا، وصفق باب المكتبة وراءنا.
تدحرجت بخوف ظاهر مع جماعتي أسفل الدرجات الرخامية، وعفست على بقايا زيت السيارات المدلوق، فترنحت يميناً وشمالاً، ثم هويت بطولي الفارع مثل فأر يتخبط في المصيدة.. نعم سقطت ببذلتي تلك في نقاعة الزيت المحروق، فساعدني هؤلاء الملاعين بحذر خوفاً من بقع الزيت، فوقفت منتصباً كالمسمار المبقع بالصدأ، وأنا أنفض عن بذلتي الجديدة الغبار.
لم تمضِ سوى برهة على إشارة الاصبع المحتدّ، حتى انفرج باب المكتبة ثانية، وأطل مديرها الغاضب، وهو في ريعان صراخه، فقذف في وجوهنا ما استطاع أن يمسكه بقبضته من عشب بري أسميه ورداً، واختفى قليلا ً ثم عاد يكنس فتات الزهرات البريات بمستعرض حذائه وبصوت متأفف غاضب، فانكفأت هذه البقايا أسفل الدرجات وتوزعت بينهن، أراهن بحزن ظاهر طغى على ملامح وجهي التي لم تستأنس تقلبات غضب ناس المدينة بعد، وأرى بتلات زهراتي البريات تتدحرج وتتبعثر أسفل الدرجات الثلاث التي كنا واقفين أسفلها نستعيد أنفاسنا بعد الطردة العمياء، التي أخفت إلى حين ضحكة جماعية لما سيأتي.
كنا في ربكة من أمرنا، نسمع ضجيجاً وصرفقة أبواب بعنف داخل المكتبة، ويصل إلى أسماعنا كيل من السباب البذيء، وتتعالى زمجرة المدير حتى وهو في هذا المكان الذي يحتاج إلى هدوء أكثر، أو ربما إلى نشنشة وتبسط وغناء للمناسبة التي جئنا من أجلها.. مناسبة سنوية لا تتكرر كل يوم، وإلا لما أتعبت نفسي بعناء إحضار الورد.
إحدى البنات، بل بالذات تلك التي صرخت وفمها مملوء بالجزر البرتقالي المنجرش، وقد جلست على إحدى درجات الدرج ثلاثي الدرجات، حانت منها التفاتة، فإذا بها أول من يرى اليرقتين اللتين في حجم خنصر صغير وهما تزحفان، بقرنيهما الرخوين كالماء المتجسّد.. تخرجان الواحدة تلو الأخرى بتثاقل وانبرام مخزٍ من تحت الباب المنصفق، فما كان منها إلا أن أشارت بسبابتها نحوهما، وأطلقت صرخة نقول عنها نحن البدو صكتها كْرُنْبي، أي صرخت بكامل هلعها، وهي ترتعد من مرأى هاتين اليرقتين الزاحفتين بلا كلل، ولا أرجل حتى.
التفت الشباب المطرودون معي، بنات وأولادا نحو اليرقتين السمينتين بالكرنب وبالشماتة التي أحضرتها بيدي، لا بيد عمرو، وأطلقوا ضحكة جماعية، ملتفتين جميعاً في اللحظة ذاتها إلى حضرتي وأنا ببذلتي المبقعة ببقايا الزيت الأسود.. التفتوا بوجوه طلاب ملاعين يخفون شماتتهم في الأستاذ الغشيم الذي دخل على جبل المدينة بقادوم لا غير، فوجدوني محمر الوجه يتقاطر عرقي الصحراوي البارد على وجهي المنصهد، فأبدو في بذلتي الضيقة القصيرة المبقعة ككائن مسخوط في شكل لعنة، أو في شكل حشرة منصهدة تزحف باتجاه المجهول.
مسحت قطرات عرقي، وأنا ألعن في سرّي، مملكة النبات ممثلة في ذلك الورد المشؤوم، وألعن كذلك مملكة الحشرات ممثلة في هذه المصائب المقززة التي أراها تستعرض فضيحتي الصغيرة بكل براءة حشرتين تحثان المسير نحونا بلا هوادة، تسبقهما صورة ذراع غاضب، وإصبع حازم غير متردد يأمرنا أن ننقلع ونغور عن وجهه، وهو يصفق باب المكتبة وراءنا ويمضي.