حلقة دراسية في الكتابة الإبداعية
ضحى شتوي، القرن الماضي، السودان. خرجت أختان، لنقل الأخت ألف والأخت باء، تردان الماء في محلة بحر سماحة قبالة الحلفايا. ثمة مزارع، لنقل المزارع جيم، غير بعيد عن أنظارهما. الأخت باء تتقدم خطوات داخل الماء وتنحني لترد. الأخت ألف تصرخ. المزارع جيم ينتبه ويركض باتجاه الصرخة.
الأخت ألف: في شي ختف باء، أظنو تمساح!
المزارع جيم: وين؟ وين؟
الأخت ألف: هنا، هنا دة.
المزارع جيم يقفز قاصدا قاع النيل.
الآن، لدينا مزارع غائص. هذه لحظة طويلة جدا ولولبية. فكروا في شعور فصامي لا يمكن فيه التمييز بين الواقع والخيال، أو مادة متذبذبة حية منتجة للطاقة. بالنسبة لي هي لحظة يمكن أن تتقاطع مع سقوط مادلين من برج الجرس في فيلم Vertigo. وجد جيم غائص تمساحا عشاريا بين فكيه الأخت باء. الاحتمال الآخر أن يكون وجد الأخت باء بين فكي عشاري، هذا شيء يجب أن تقرروا بشأنه. غرز جيم خنجره في عين عشاري. لا نعرف ما إن كانت عين يمنى أو يسرى. انتفض العشاري وألقى باء على الضفة، ثم ضرب بذيله جيم وألقاه على الضفة كذلك. أخذت جماعة باء وجيم إلى المستشفى. لم يرد ذكر التمساح الذي فقد عينه. باء لم تمت، جيم لم ينج. هذه هي المعطيات، قصة واقعية.
المطلوب: تخيل بعض الطرق الممكنة لكتابة هذه القصة.
هذا التمرين تمرين تعرض، لا تحاولوا حماية شيء، كما لا تنشغلوا بالأشياء المورقة.
بعض الخطوط العريضة: 1) المنظور. 2) فراغات اللامتعين. لا تحاولوا الإحاطة، لكن، يجب هندسة فراغات وجيوب تسمح باستحضار الظل القوي للأشياء التي تظل صامتة ولا نعرف إن كانت ذات صلة. كان المزارع جيم عاري الصدر، مثلا. الأخت ألف كانت عارية بالكامل. الشمس قوية والماء أقوى منها، والتمساح أقوى منهما. كما لحظة اختلاط ظل المزارع جيم بجسده المتسارع. فكروا في الحكاية من ناحية زمنية، ليس التسلسل فحسب بل كيف يحضر الزمن فيها. هل الزمن فيها خطي، دائري، لولبي؟ هل يمضي باتساق؟ هل هي حكاية ذات نهاية مثلا؟ هل هي جزء من حكاية مستمرة؟ متى بدأت؟
عند حضور الأختين ألف وباء إلى الضفة؟ أم عند الحضور الأبكر للمزارع جيم؟ أم عند حضور العشاري؟ تذكروا أن “العناصر المختلفة لا تخضع للقوانين نفسها”، كما يردد الشاعر محجوب كبلو، مثلا تمساح النيل والسلاحف من أقدم الكائنات صحيح؟ أقدم من الديناصورات حتى؟ ماذا يعنيه القول إن تمساحا “حضر”؟ خصوصا أن لا أحد تمكن من رؤيته في الحادثة، ليس حتى باء، وبالأخص ليس جيم لأن جيم لم ينج من تلك الحادثة؟ التمساح حاضر أبدي، بإمكانه استنزاف الزمن، كل ما حدث أنه التقى، كما يفعل دائما، مع عناصر متنافرة طارئة أكثر منه، ربما حكايتنا بدأت في عصر ما قبل التاريخ.
من ناحية البناء، هل ثمة مركز في الحكاية؟ كيف يتداخل ذلك مع مسألة الأجناس الأدبية؟ هل ما حدث هو تراجيديا مركزها المزارع جيم؟ أم معجزة رومانسية مركزها الأخت باء؟ أم معركة أسطورية رمزية مع الخلود مركزها تمساح؟ ما هو الغرائبي هنا؟ تناول برمائي لوجبته، أم قفز بري على برمائي يتناول وجبته؟ هل هناك تمثيل واضح للخير والشر؟ ما هي منطلقاته؟ فكروا في انعزال مصائرنا وتشابهها. فكروا في قرارات متخذة بسرعة البرق، قرارات خطرة، مثل الأكل، وقرارات خطرة مثل الفداء. هل يمكن للإنسان التصرف كفهد منطلق بتسارع شاذ؟
هل تنظرون إلى الوقائع منفردة أم كونها جزءا من نظام أوسع؟ هل النظام يطرأ فيه الوجود أم يطرأ فيه العدم؟ هل هناك أخلاقيات واضحة تبرر الخط السردي الذي تختارونه؟ من ناحية أخلاقية إنسانوية التمساح في أهمية الفتاة، هل يجب أن ينعكس ذلك على حصة التمساح في الرواية؟ هل صوته حاضر؟ بوصفه ماذا؟ وحش؟ أم عنصر جوهري ينضوي على الخير الأعظم وعلى عدالة متعالية؟ إن حصة التمساح في الرواية مسألة عدالة أليس كذلك؟ هل تتحرك السرديات تحت ضغط العدالة؟ لكن الأهم من ذلك هو مشكلة حضور التمساح من خلال حضور الكاتب، وهنا تبرز مشكلة التخوم بين ذات الكاتب ومواضيعه، واللغة التي تصهر ذات الكاتب فتذوب في مواضيعه، هذه التحركات الخفية هل تحدث بين كل كلمة وكلمة في الكتابة أم هي ترسم حدود شرطية تدخل الكاتب وتحجبه عن ذاته وعن موضوعاته؟
هل ثمة حدث فلسفي هنا؟ ما هو هذا الحدث؟ هل يمكنكم توليد وضع من هذه الأحداث يسمح بالعثور على حقيقة؟ بالنسبة لباديو على سبيل المثال، الحدث، المتعدد، بالضرورة، هو جرح في نظام الأشياء يسمح للحقيقة بالتجلي على نحو خاطف متلاش. ما هي الحقيقة التي خطفا تمر؟ لماذا هي تخص المجموع؟ لا تهملوا الصمت المحيط بتجلي الحقيقة، إنه في أهمية الذات التي تستقبلها. طبعا معلوم أن الذات تخلقت لحظة استقبالها الحقيقة، أن تظل ذاتا شيء غير مؤكد. على ذلك يتعقد الاستقبال لأن الذات تتلاشى رغم أنها مستمرة في التعدد، في المجموع، في شكل فوائت غير مستقرة.
قال نيتشه يجب ألا نستقبل الحقيقة منفردين، أليس كذلك؟ وأضاف ولا يحب أن نبحث عنها منفردين، ماذا يعني بالضبط؟ الآن، كيف يمكن أن نبحث عن الحقيقة “غير منفردين”، لاحظوا أن الفرد نفسه، في لحظة الحقيقة أو الذات، يتحرك في مجالات متلاشية، كما تقدم. الحل أن نيتشه أراد أن يوضح أن السعي إلى الحقيقة لا يمكن إلا أن يكون فرديا، لكن التنقيب يتم دائما في البروق والتهتكات في غشاء ما أسماه الجذر المشترك. في هذه اللحظة الفردية السائلة يكون الفرد هو المجموع بصورة جذرية، كيف؟ لأن استقباله الحقيقة يحدث توترا في الغشاء الجماعي، الفرد يفيض. هذه هي لحظة الفرد الجذري، الفرد في أشد حالاته حتى أنه المجموع. هذه الأشياء تحدث طبعا خارج القيمة الرأسمالية، لذلك الفرد الجذري تهديد جدي لحضارتنا الحالية. الرأسمالية تقيس، الفرد الجذري يفيض. الفرد الجذري متصوف.
في قصة الباء والألف والجيم يقف التمساح وحيدا، لماذا ليس لديه حرف؟ إن استخدام الحروف جعل من عناصر القصة شيئا أكثر قليلا من عناصر أليس كذلك؟ حتى لو استبدلنا الحروف بأعداد، الأخت 1، الأخت 2، لظل التمساح وحيدا، لكن سيكون معه المزارع وحيدا أيضا، لأن المزارع ليس الأخت، إلى حين، لأنه سيكون الأخت باء في لحظة معينة من تبادل الأدوار، قصة فداء كلاسيكية. أقترح هذا التسلسل: كان ستكون هناك أخت 1،2، أخت 1 ناقص أخت 2، مزارع 1، مزارع 1 يؤول إلى أخت 2، وتمساح 1، وتمساح يؤول إلى تمساح بأخت، ثم تمساح ناقص عين ناقص أخت. ومزارع ناقص مزارع .
لماذا لم نسبغ على التمساح بحرف آخر؟ لقد أبقيناه في حدوده. إن التمساح يحضر أكثر في اسمه الجمعي، أي مجموع معرفتنا به. في السودان القديم يوهب التمساح العروس في طقس الفداء. هل ثمة لحظة يحضر فيها إمكان الأسطورة، لحظة بارقة يكون فيها المشهد مشهد لقاء وليس مشهد افتراس، تذكروا أن كل لقاء فيه درجة افتراس معينة. أن تكون باء عروس التمساح، صلة قديمة، صحيح؟ ما يترك ألف وجيم في الخارج، وحيدين في أرض غير معرفة، وحيدين، لا يجب إهمال ما يمكن أن يترتب على ذلك، لكن الطقس لم يكتمل، الفداء الجماعي فشل، هل ستحل الكوارث على القرية، لماذا تدخل المزارع جيم وفرض فداءه الشخصي؟
نقطة أخيرة للتفكير قبل البدء في التمرين: مجاز العين المفقوءة. فقأ أوديب عينيه، لدينا مجاز معين للعين المفقوءة، لكن عين تمساح مفقوءة شيء آخر، ربما يكون هذا هو الحدث الأهم في القصة، ولادة مجاز جديد لا نعرف مصيره، هل يتفاقم في حيز الموجودات، أم يندثر بسرعة؟ عين التمساح مجاز مفتوح، أعذر وبريء، مجاز عين تمساح ليس كمجاز عيني أرنب مذعور، هذا الأخير راسخ. الأرنب بطبيعة الحال لا يمكن إلا أن يكون مذعورا، إنني أتحدث عن الأرانب الطبيعية وليست تلك الأشياء التي تحضرونها إلى الحيشان. أرنب الشقوق الخائف. إذا فكرنا في الكائنات بوصفها أبجدية لكان الأرنب هو حرف الخوف، أليس كذلك؟ إنه الطريدة الأصلية. عين التمساح في المقابل شيء غير مكتشف، هل يمكن أن تكون هي الأخرى طريدة؟ من يهدد شيء قديم مثل تمساح؟ هل تعرفون من يشكل خطرا حيويا على التماسيح؟
ما هو العدو الحيوي للتمساح؟ خمنوا. ليس صحيحا، العدو الطبيعي للتمساح يشمل الفهود، النمور، أفعى الأناكوندا. ضد كائن برمائي لا نجد عدوا برمائيا واحدا، كلها حيوانات سهول استوائية! يستهدفون التماسيح اليافعة، التمساح البالغ لا عدو له. ربما عدو التمساح الحقيقي هو الظواهر الكبرى، مثل تكوّن بحيرة بركانية عذبة تسمح بنشوء أنواع جديدة، هجرات الطيور، الكوابيس الكوكبية، ذكريات القواقع والسلاحف، أو شيء مادي أكثر مثل الاحتباس الحراري الذي يجفف الأنهار. لن يتمكن التمساح من اللجوء إلى قانون التطور، لأنه غير مدرب على التطور، لم يتطور التمساح منذ أن صار تمساحا. سيفنى، مع كوكب البلاستيك. ليس من تمساح في مستقبل هذه القصة. كما أن القصة نفسها ستختفي بعد قليل، تنحاز لمستقبلها الصفري، بشكل طبيعي، رهط كبير من الشعراء والفنانين َوالمتصوفة يفعلون ذلك يوميا، يختفون، في أصفارهم الخاصة.
في القصة أشياء متروكة يجب وضعها على الكاهل، بشكل غير محسوس لكن مباشر: هل كان من الأفضل للإنسان أن ينقذ؟ فكروا في الأخت باء كفريسة مستمرة، في الزمن، استمرار لحظة سقوط المزارع في قاع النيل، استمرار الدوار، لأن مادلين سقطت بالفعل، لكنها لم تسقط أبدا. ثم هناك عين مفقوءة تسبح مع الحيتان والظلام اللانهائي والصمت.
موعد الاستراحة، التزموا بالعودة في الوقت المحدد.