حلم يشبه الحقيقة
اخرج من هذا الجسد
أشتاق إلى الليل وما يحمله إلىّ من أسرار ورؤى غامضة، تتنازع فيها كومة من الأحاسيس المتناقضة متداخلة الصور لأشخاص أعرفهم وآخرين غرباء، بعضهم ينتمي إلى ماض سحيق وضاح الملامح رغم الأيام المتداولة والزمن المهرول، بكل أحداثه الشبيهة بشلال عظيم متدفق يصب في منبع واحد في قلب صغير أعيته نبضاته المتلاحقة، وبعضهم إلى حاضر عابر والبعض الآخر لا أتبين ملامحهم قادمين من مكان عميق اسمه الحلم.. أجالسهم، أحدثهم، أطير بعيدا بعيدا برفقتهم، قد أعود وفي نفسي طمأنينة عجيبة وقد أعود متعبة وكأنني عبرت في سويعات النوم تلك كل الأزمان وكل الأماكن.
عناء في النهار وعناء في الليل والحياة كلها عناء.
يبقى لليل سحره على كل حال نديمي الوفي، الوحيد من يعتقني من الأشغال الكثيرة والمسؤوليات المضنية المتكررة حينا المتجددة أحايين أخرى.
فإذا ما اختفى الضياء وحلّ السواد وانتشر، وساد السكون، لجأت أنا إلى غرفتي لجوء الراهب إلى صومعته، أهرب من الفضائيات، من نشرات الأخبار، من العالم الذي أصبح مخيفا، أنشد صمتا وعزلة.. أقلب صفحات كتاب أو أحملق في الفراغ محاولة تناسي الهموم قبل أن أسلّم نفسي لنوم لذيذ يحرّرني من كل شيء، ولكن لا أكاد أضع رأسي على الوسادة حتى أنتفض مفزوعة، صوت قوي منبعث من الشقة المجاورة يبعثر سكينتي ويملأ قلبي خوفا وفزعا.
– أخرج من هذا الجسد.. أخرج من هذا الجسد.
يخفق قلبي بسرعة، أتمالك نفسي، تتكرر العبارة بإلحاح، أنتبه محاولة معرفة مصدر الصوت.
أدرك أخيرا أنه صوت التلفاز يعرض الرقية الشرعية على المباشر ويبدو أنه البرنامج المفضل لدى جاري وكان يزيد للصوت بصفة مبالغ فيها.
راح النوم، وتشوش الفكر، وارتجف القلب. بت أشعر وكأنني لم أعد وحيدة في غرفتي بل هناك من يزاحمني فيها ويبدد عليّ عزلتي، وكأن الصوت مزق حجاب العزلة ونزل في ذاك الغسق كالنازلة، وتراءت أمامي صورة تلك المرأة المريضة تتلوى ألما صورة وصوتا، وأدركت أنه لا مفر ولا سبيل إلى الراحة مهما بذلت ومهما انعزلت.
تكرر ذلك مرارا، أضرب الجدار الفاصل برفق ثم بقوة عله يسكت التلفاز دون فائدة، كان الأمر مزعجا للغاية وكنت كلما صرخ الصوت: أخرج من هذا الجسد، أفزع أنا إلى مكان آخر أنام فيه.
ماذا لو أخطأ الجن الطريق واخترق الجدار، وحلّ في بيتي؟ لم يكن لفزعي ما يبرره لكني كنت أنزعج، ويعتريني شعور بالغضب ممزوج بخوف خفي، وفي كلّ ليلة كوابيس مرعبة أفيق منها وجسمي كله يتصبب عرقا، رؤى مفزعة جعلتني أهجر النوم وأنير الغرفة وأظل أحملق في السقف إلى أن يطلع النهار، فتتوارى المخاوف وكأنها لم تكن.
ويمرّ يوم آخر بانشغالاته ومتاعبه وأجدني ألجأ إلى سريري وإذا بصوت جاري يسمع بوضوح.
لم أكن أقصد أبدا التلصص أو استراق السمع لكن جاري يتحدث بصوت مسموع، ولا يفصل بين الشقتين إلا جدار ويتضح صوته أكثر ليلا كلما خلدت إلى النوم.
ثم اعتدت الأمر إذ تبين لي أنه طاعن في السن وسمعه قليل ولم يكن يفعل ذلك بنية الإزعاج، بعدها بأيام اختفى نهائيا صوت التلفاز وصرت أنام على صوته وهو يسبّح ويذكر الله إلى أن أغفو وأنام وأصبح أيضا، وهو على حالته تلك من الاستغفار يحذر الآخرة، ويرجو الثواب، ويستمطر الأجر وكأنه لم ينم.
يوقظني أحيانا من عز النوم في الليل البهيم مستغيثا: يا الله.
زفرة صادقة نابعة من أعماقه تزيل الحزن والقلق.. وأردد بعده، وأنا بين يقظة ونوم: يا الله.
خيّل إليّ أنني أراه وأعرفه منذ زمن طويل، شيخ كبير يرتدي قميصا أبيض، وبيده مسبحة طويلة لا تفارقه أبدا.
ثم يهيمن السكون، وترفرف السكينة وأستسلم للنوم.
يرن الهاتف فأهب مندهشة مفزوعة من حلم يشبه الحقيقة، ويطلع النهار، فأنصرف كعادتي لانشغالاتي ناسية كل شىء.
ألفت ذاك الصوت الوقور الشجي يتلو الآيات الكريمة حينا ويذكرالله حينا آخر، فاستغنيت عن الساعة وصرت أستيقظ كل صباح في نفس التوقيت حين بزوغ الفجر فيغيب صوته شيئا فشيئا في زحمة الفوضى الصباحية.
لم أعد أكترث بالهموم تحاصرني ليلا.. أفكر، وأفكر، ولا حيلة لي في إيجاد الحلول أو الأحزان والمخاوف تراودني في مخدعي إذ كان ذكره بمثابة الدواء الشافي فتهون الدنيا ويصغر شأنها في نظري ولا أكترث لشيء.
أما قرينته فكان صوتها منخفضا جدا خافتا لا يكاد يسمع، أما الحوار بينهما فكان جار فقط على الذكر والصلاة.
– استيقظي يا حاجة، حان وقت الصلاة والصلاة خير من النوم.
وأسمعها تقول:
– صليت أنت؟
– ليس بعد، إني أنتظرك.
وقوله بعد أداء الفريضة:
– سبحي وكبري واحمدي الله فالذكر نور.
ثم يرتل: “نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء”.
صرت واحدة منهم رغم الجدار الفاصل بيننا، فكان وعظه وإرشاده وتذكيره للحاجة لي أيضا، ولا أستقبل اليوم الجديد دون صيحته تلك: يا الله.
فأردد بعده: يا الله. وأقوم لشؤوني اليومية بنفس جديد وعزم قوي.
وحدث ذات يوم أن دبت حركة غير عادية في الشارع المجاور حيث يقطن جاري، ووصلني النعي. مات جاري الشيخ الوقور، والموت نهاية كل حيّ، حزنت على موته أشد الحزن، وذهبت لأعزي الحاجة التي لا أعرفها إلا من خلال صوتها الخافت الخجول.
وكانت المفاجأة أن قيل لي إن المرحوم كان يعيش وحده في شقته منذ سنين.
عدت إلى بيتي وأنا مذهولة وخائفة.. من تلك التي كان يكلمها؟.
هل كانت من نسج خيالي، وأنا بين اليقظة والنوم؟.. هل كان يكلم نفسه؟ لكنني أتذكر صوتها جيدا. ماذا إذن؟
مهما يكن فقد كان الأمر يبعث على الحيرة والعجب، وعاودتني الكوابيس والأحلام المزعجة إلى أن قررت أخيرا تغيير غرفة نومي لأني كنت من أولئك الذين تتحكم فيهم العادات فلا يألفون كل جديد إلا بعد حين، وحملت أغراضي لأرتبها في الغرفة المجاورة وكلي أمل أن أنسى ما كان معي من الشيخ المرحوم والمرأة الغامضة، بعد جهد جهيد بدأ النعاس أخيرا يداعب أجفاني، ولكنني أصيخ السمع مستغربة صوتا ما. أرفع رأسي عن الوسادة ليتسنى لي الإنصات أكثر من الأعلى، تأكدت من مصدره، حيث تسكن جارتي وحيدة، ترى ماذا تفعل؟ ولماذا تسهر إلى هذا الوقت المتأخر من الليل؟
لكنها لا تمشي، ما أسمعه ليس خطوات وإنما شيء ما يزحف.. نعم يزحف.
تمنيت لو كنت أملك سكنا منفردا لي وحدي لكنت أهنأ بالا، هو حال العمارات وحال سكانها الذي لا يستقر على حال. الصوت يزيد إلحاحا، شيء ما يزحف.. يزحف.. وكأنها تجر شيئا ثقيلا، ولكن لم تفعل ذلك في منتصف الليل؟
أحملق في الفضاء، أعجز عن الفهم. شيء ما يزحف.. يزحف.
لن أفعلها مرة أخرى
شبح ما يحط وينط ينفث سما، ينفث خوفا، يطل ضئيلا ليتحول عملاقا يهدد الاستقرار، تحاول التملص والفرار، لكن هيهات، زوجها بجانبها صامت يتقلب يمينا ثم يسرة فريسة لتوتر بالغ.
تتحسس يده فينطق الصمت ويتضاعف الألم.
متأكدة هي أن الحنين إلى الولد يراوده من جديد يقضّ مضجعه، تتسع أحداقه ليلا يجافيه النوم فيخرج إلى باحة الدار متدثرا بغطاء يحتسي القهوة ويدخن إلى الفجر.
تمتد بينهما المسافات وتستقر الرتابة.. تشعر بحيرته وتتسع بداخلها دائرة الخوف، منذ مدة لم تسمع منه كلمة مطمئنة، كانت تظن أنهما تجاوزا الأزمة، ترى ما الذي يجعله يحنّ من جديد؟
البقاء بصحبته صعب، والبعد عنه أصعب.
كان طوال هذه السنين زوجا وفيا طوعا لها فيما ترغب وتشتهي، وأقسى ما في الأمر حينما يعيش وحده وهو معها، يغلق كل المنافذ تظل خارجا فلا تحسن الوصول إليه.
كم من ليلة قضتها والعين تدمع ساهرة، والقلب تساوره المخاوف فتظل فريسة للوحدة والقلق.
يخرج أخيرا من صومعة العزلة والصمت، تستقبله في قصرها المعهود حيث الفراشات المرفرفة والورود الناعمة مسامحة له بعده وجفاءه، يستغل ضعفها يلمّح للموضوع تلميحا ثم يصرح برغبته في الزواج مرة ثانية متجاهلا ألمها الذي يكاد يفقدها توازنها.
توجعت حتى الموت، أصيبت بحمى الهوس لكنه يمضي في قراره شأنه شأن كل مطالب بحق لا يريد التخلي عنه.
– تعرفين – يحدثها بصوت خافت – أنت حبّي الأول والأخير، لا أنكر أبدا أنك كنت نعم الزوجة وأنك جعلت من البيت جنانا ساحرا لا أنكر أبدا أنك سكني وسكوني، ولكن الأيام تطوى تباعا، وتراني أساق إلى هرم وفناء.
أخاف أن أموت ولا أخلّف من بعدي ولدا يرثني ويرث اسمي.
تكتم آهة ألم ممض، آه من دنيا مدبرة بعد إقبال، هرم السعادة ينهار فجأة.
تصغي إليه، ولا تجيب.
لم يعد يجدي البكاء، تيقنت أنه لن يرتاح إلاّ إذا فعلها، تضرعت إلى الله بالدعاء علّه ينسى الفكرة من أصلها لكنه كان دائم التفكير أو شارد الذهن لا يكاد يشاركها الحديث.
لجأت إلى جارتها تفرغ لها هواجسها وأحزانها، من يدري قد تجد عندها حلا أو عزاء:
– إيه جارتي الغالية، إذا عزم الرجل على شيء كهذا يظل في طلبه حتى يناله ولو كنت أجمل الجميلات، صدقيني زوجك أحسن من غيره على الأقل صارحك واستشارك.
– لم يفعل ذلك فحسب بل عرض عليّ أن أختار له من أشاء لتكون أما لابنه.
– فعل ذلك؟ أرأيت؟ عليك بالصبر إذن، ستكونين ظافرة صدقيني.
أطرقت الجارة ثم أردفت وفي عينيها بريق عجيب.
– لديّ حلّ لمشكلتك، وإذا لم يخب ظني لن يفكر بالأمر مرة أخرى.
تشبثت بثيابها مستغيثة: هات ما عندك أتوسل إليك.
– اهدئي أرجوك، دعيني أحضر القهوة فلا يحلو الحديث دونها.
وكان أن نفذت أقوال جارتها بحذافيرها، تظاهرت بالتفهم أولا، بالرضا ثانيا، ووعدته خيرا.
سلمها الأمر كله خيل إليه أنه يحلم بعد موافقة زوجته لم يشترط حتى أن ينظر إلى العروس، لم يكن بدّ لذلك. رغبته في الإنجاب أنسته كل شيء.
كان يظن الأمر سهلا عليها مادام يحبها ولا يفرط فيها..
ووفت بوعدها وأحضرت العروس إلى دارها.. لم يصدق زوجها، لم يصدق أن تكون زوجته محبة له إلى هذا الحد، يعاتب نفسه على أنانيته لكن رغبته في الولد أكبر من كل شيء.
يطبع قبلة على جبينها، يلمس يدها بلطف بالغ قائلا: ستكونين أنت الأم الحقيقية لولدي.
– سأعوضك خيرا – يهمس لها – ستظلين حبي الأول والأخير.. حبي لك سيظل الأقوى والدائم، ولو رزقت بعشرة أولاد.
دخل على عروسه. وقف أمامها مذهولا لعدة دقائق. صدم عندما رآها، كان سيخرج لولا أن قرأ الرعب في عينيها. دق قلبها بقوة.
يفهم متأخرا تصرف زوجته.. كانت تخطط منذ البداية. هو الذي سلمها الأمر كله. كم كان غبيا وساذجا ما من امرأة على وجه البسيطة تطيع زوجها في أمر كهذا.
طال وقوفه وصمته.
كان في الحقيقة شاردا، فقد ذهب به تفكيره إلى بعيد.
لاحظت العروس شرود زوجها وذهوله، انتابها الذعر، قد يسرحها بكل بساطة.
في لحظة من لحظات الضعف، كانت مستعدة أن ترتمي على قدميه مستغيثة: أرجوك لا تفعلها، لا تشمت بي الأعداء على الأقل ليس الآن، لكنها أحجمت حياء.
عاد من شروده إلى الواقع، حسنا يا زوجتي الذكية سأفعل عكس ما تتوقعين.
نظر إلى العروس مجددا، توسلت إليه بنظراتها فأشفق عليها، تأملها، لم تكن دميمة على الإطلاق بالعكس تكسو وجهها براءة الأطفال لكنها كانت قصيرة القامة حدباء إثر حادثة سقطت فيها وهي صغيرة، أخذت تلك الحدبة تضخم مع الأيام وصار اسمها مع مرور الوقت أم السعد الحدباء.. أهملها والدها لشدة فاقته قائلا إنه قضاء وقدر.
قرأ في عينيها الذعر.
لم يتفوه بكلمة واحدة وجلس إليها يؤنسها محترما مشاعرها.
كانت زوجته تترقب خروجه من الغرفة غاضبا متوعدا. نبضات قلبها تشي بالانتصار.
انتقمت منه بطريقتها ولبت رغبته في الزواج من أجل الأولاد.
لن يطلب منها شيئا بعد الآن.
لكن الزوج تظاهر بعدم الاكتراث، ولازم العروس أياما ما أثار غضبها وثورتها.
لم تحاول أم السعد أبدا منافسة ضرتها في حب زوجها. كانت ترضى بالقليل القليل رغم ذلك لم تنعم بالراحة في ذلك البيت.
كانت تشعر بالإهانة، وكانت ضرتها تستغل فرصة غياب الزوج عن البيت لتنعتها بأبشع النعوت.
رحلت أم السعد ذات يوم.
لا دواء يخمد نار الغيرة الملتهبة في قلبها. لم تستطع تحمل نظرات زوجها المليئة بالشفقة، ولا قسوة ضرتها التي كانت تحرص على الظهور أمامها بكامل لياقتها وزينتها وكأنها تقول لها: انظري إلى جمالي.
كان هذا متوقعا لكنها لم تبال بذلك فقد كانت تحمل في أحشائها بذرة زواج لم ترغب فيه، رزقت بطفلة. فرحتها الوحيدة، ها هي تضمها، تقبل وجهها الصغير تهزها هزا خفيفا، تدندن في أذنها لحنا حنونا خافتا.
أحيانا تضيء الغرفة ليلا لـتتأمل وجه الطفلة وكأنها تريد التأكد أن هذا الجسد الصغير من لحمها ودمها فتبتسم ابتسامة عريضة لا تكاد تصدق أن الله وهبها إياها وقد كانت يائسة من الزواج عازفة عنه.
لم يخطئ أبوها حينما أطلق عليها اسم أم السعد. فقد كانت على موعد مع السعد ذات يوم.