"حمّام اليهودي" السيرة الكربلائية ليهود العراق

الأحد 2019/12/01
غيلان الصفدي

ترك الشهيد العراقي الروائي علاء مشذوب إرثاً روائياً يُعتد به ضمن مشروعه الشخصي في معاينة مدينة كربلاء تاريخياً، لتشخيص واقع المدينة عبر زمنيتها الطويلة بوصفها المدينة الأكثر قداسة في العراق .

ومن الطبيعي أن تحفل كربلاء بوافدين ومقيمين من شتى بقاع العالم الإسلامي على مختلف جنسياتهم وعلى مر التاريخ . ومثل هذا التدفق البشري المتعاقب ترك في المدينة بصمات اجتماعية وطقوساً يومية وشخصيات كثيرة ، أسهمت إلى حد كبير في ترسيخ الطابع الديني المتعارف عليه لكربلاء ، وبالتالي تكرست كمدينة دينية بمواصفات معروفة. وسيكون للتدوير التاريخي دوره المهم في إعادة إنتاج كربلاء مع الزمن بمقيمين من ديانات متعددة استقرت في هذا الصحن التاريخي، ولعبت أدواراً مختلفة في التجارة والسياسة لا سيما يهود العراق الذين شكلوا نسبة لا بأس بها من هذا الخليط البشري الكربلائي في مجتمع محافِظ كان متجانساً حتى بوجود الديانات غير الإسلامية.

الشهيد مشذوب ابن التاريخ المديني لهذه البقعة وساردها الأول الذي نشط كثيراً بعد 2003 وأصدر عدداً من الروايات بمرجعية تاريخية وتراثية، وتعقّب الأجيال التي سكنت المدينة بروح الباحث والمُراجِع والسارد. فكتب واحدة من أجمل سردياته عن الأقليات الدينية التي سكنت كربلاء في “حمّام اليهودي” الرواية الأكثر التصاقاً بمادتها التاريخية والواقعية.

أخذت الأقليات الدينية العراقية حيزاً واضحاً من اهتمام السرد العراقي بعد عام 2003 كنماذج مجتمعية حاضرة في الحياة اليومية؛ مثل اليهود والصابئة والأيزيديين والمسيحيين، وهذا التشكيل الديني الذي خرج من الهامش السردي المغيّب الى المتن وفضاءاته المتعددة لظهوره على هذا المستوى كسرديات كبرى ضمن الإطار السردي العام ما يبرره على مستوى الأحداث التي وقعت في العراق بوجود مسببات سياسية في أغلبها أوجدت نوعاً من العنف كبيراً على مثل هذه الأقليات بدعاوى يعرفها الجميع.

ومع توطيد علاقات السرد بهذه الأقليات بشكل مباشر بدا أن مضامينها ما تزال تتواتر بين عمل روائي وآخر وحضورها القيمي يشكل لمحات سردية لا مناص من قراءتها برؤية الأحداث عينها التي تسببت بتدوير الهوامش على المتون، و”حمّام اليهودي” انطلقت من هذه الأرضية التي ما تزال طيّعة للكتابة بالرغم من تكرارها في الروايات العراقية، لكن هذه المرة يسعى المشذوب إلى معاينة الواقع اليهودي في مدينة كربلاء ما قبل سنة 1920 عبر شخصية مركزية ساردة لكل الأحداث التي تناولتها الرواية، وهذا الابتعاد الزمني الذي تفصلنا عنه أكثر من تسعين سنة كان محكوماً بمستويات فنية متعددة ليس أقلها الوثيقة التاريخية بمختلف صنوفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتوكيد اجتماعية المكان الكربلائي والظروف الخارجية التي أحاطت به. بل كانت الوثيقة بالرغم مما فيها من “إقحام” في بعض الأحيان مصدراً معرفياً يضيء جوانب سردية في هذه الهوامش الاجتماعية التي تسيدت النص وكانت نسقيتها السردية متضامنة معها الى حد جيد.

اليهودي

“حمّام اليهودي” سردية يهودي عراقي استوطن كربلاء، وأحبّ المدينة وعاش في كل تفصيلاتها اليومية والاجتماعية وطقوسها الدينية، وتشبّع بها كلياً من دون أن يترك يهوديته، وكان منتمياً للمكان، لا بوصفه طارئاً بسبب دينه المتعاكس مع دين المدينة ومذهبيتها المعروفة، بل كان أحد أركانها الشخصية بوجاهته الاجتماعية وحضوره المؤثر، فتمكّن عبر فترة قصيرة من أن يشتري بيتاً لأسرته، ومن ثم يفتح محلاً لصياغة الذهب، ويكبر طموحه ليبني حمّاماً عاماً في المدينة، غير أن الحمّام لم يُكتب له النجاح بسبب طابع المدينة الديني المقدس، واعتبار اليهود أنجاساً، فلا يجوز للمسلمين أن يتحمموا به!

ومع هذا التعامل الفج، وهو طبيعي ومتوقع في مدينة محكومة بالأساطير الدينية، لم يتخاذل هذا اليهودي، وعدّ هذه المهيمنة الدينية المتواترة حالة ينبغي له أن يتصرف بموجبها من دون أن تحبط آماله كثيراً. لكن ليس الحمّام هو القصة الرئيسية في الرواية، ويمكن القول إنه لا توجد قصة أصلاً في الرواية، ولا يوجد صراع ظاهري أو باطني، ولا دراما سردية تتشابك خيوطها بعضها ببعض، لكن يمكن أن نعدّها سيرة ذاتية ليهودي عاش أحداث كربلاء وبغداد والعراق في تلك الحقبة التي شهدت تقلبات سياسية كثيرة هدّدت الوجود اليهودي في البلاد على نحو مباشر، منذ احتلال العراق من قبل القوات البريطانية، وما رافقها من دعوات تبشيرية ليهود العراق بالذهاب إلى فلسطين كأرض للميعاد!

المكان المذهبي

“يعقوب أفندي” اليهودي السارد الوحيد في الرواية هو الشخصية المحورية التي تدور الأحداث من خلالها، والمهيمن الصوتي الشامل فيها، يكشف بنية مدينة كربلاء الأسطورية بإرثها الديني العميق، وطقوسها المعتادة، ومجتمعها الصغير بكل تفصيلاته القديمة، مثلما يعكف السارد على إضاءة شخصيات المجتمع الكربلائي وسادته وسدنته ونسائه، وعلاقاته المتجذرة بالمكان، كما يعرّج كثيراً على إضاءة العراقيين اليهود، وعلاقاتهم التجارية، وتطلعاتهم إلى بناء علاقات متينة بالمجتمع المسلم، الذي ينتفض عليهم في نهاية الأمر، ربما بسبب أصابع خارجية حاولت فسخ الثقة بين الجانبين لتهجير اليهود من العراق، بالرغم من حبهم للوطن والمجتمع العراقي الذي عاشوا فيه. وتلك الانتفاضة الكبيرة التي دُبّرت على اليهود العراقيين كسرت حلم الهامش المتطلع إلى توثيق بقائه الطبيعي على الأرض-الأم.

“يعقوب أفندي”، الذي صار إحدى الشخصيات اللامعة في المجتمع الكربلائي بسبب ثرائه وحسه التجاري، شخصية راسخة كرّسها المؤلف بطريقة احترافية، وشاء لها أن تكون هكذا لإثبات عراقيتها قبل يهوديتها، وهو أمر يُحسب لصالح هذه الشخصية التي تحولت إلى شخصية اجتماعية لم تتأثر بالظروف الكثيرة التي أحاطت بها، بالرغم من أن ولده “اليسع” كان مشروع هجرة إلى إسرائيل، وأن زوجته “مريم خاتون” كانت أيضاً شخصية معقولة توازي زوجها في الطيبة والانتماء إلى المكان الكربلائي المشخّص سلفاً في وعيها، كمكان طقسي-ديني ينتمي إلى تاريخيته المعروفة، فمكان العشرينات، كما بدا من التسلسل السردي، كان مكاناً جامعاً للأقليات والأعراق والطوائف من دون أن يكون مكاناً متسيداً لذاته ومستقلاً بمذهبيته. وبذلك حاول مشذوب أن يقدم صورة بيضاء عن تلك المرحلة برصد الهامش، وتوسيعه عبر عدسة سردية لامّةً أطراف المكان في نمطٍ سردي حافل بالمتعة، والمعرفة التي استوجبها نص روائي كوّن رصيده اللغوي والفني من تشكيلة شخصيات قليلة، حينما انتقل الى الهامش الاجتماعي-الديني الذي ظل مغيباً فتراتٍ طويلةً لأسباب سياسية معروفة. وهذه الرواية تسعى إلى كشف الواقع اليهودي في مدينة كربلاء ما قبل سنة 1920 حينما زاوجت الواقع المحض بخيال السرد الممكن لإنتاج مثل هذه الذخيرة السردية، التي توفرت على المعرفة اللمّاحة لحياة اليهود العراقيين في الدولة العراقية الحديثة.

الصوت الواحد

أعتقد بأنه لا يمكن التدخل في طريقة سرد الأحداث، فهذه من مهمة المؤلف الذي بدا سارداً بصوتٍ واحد، مما جعل من شخصية “يعقوب أفندي” طاغية كمهيمنة روائية. كما أن المؤلف شكّل وجهة نظر واحدة لأحداث سياسية واجتماعية كثيرة حينما اعتمد السرد بالصوت الواحد، أو السارد العليم بكل شيء، وكان لهذه الهيمنة الصوتية الواحدة أثر ما في تحجيم بقية الأصوات التي ترددت في الرواية. وواضح في الكثير من الفصول أن المؤلف تدخل في إنشاء علاقات قسرية مع المعلومات التاريخية، التي بدت إلى حد ما خارجة عن سياقات السرد، وكادت تضعف بعض الفصول، لا سيما تلك التي تتعلق بجمع المعلومات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية اليومية لتغذية الرواية. وهو أمر انتبه المؤلف إليه نسبياً، فخرجت بصيغة توافقية بدلاً من أن تكون محشورة وخارجة عن نطاق المتن الروائي.

 “حمّام اليهودي” سردية مصدرية لتاريخ مدينة كربلاء الواسع اجتماعياً وتجارياً ودينياً، ووقفت على خفايا كثيرة ومعلومات اكتظت الرواية بها، كمعرفة لا بد منها لإعطاء القارئ فسحة كبيرة من المعلومات الوافدة آنذاك، وفي تلك الفترة المغيّبة عنه. مثلما توسعت الرواية في إيلاء الطابع الديني أهميته لكربلاء كونها مدينة مقدسة تاريخياً، ومن ثم كان المؤلف محيطاً بمعلومات كثيرة، منها الديني-الطقسي، ومنها السياسي السائد، ومنها التجاري الذي عُرفت به كربلاء بسبب طبيعتها الدينية، لتكون هذه الرواية غرّة سرديات مشذوب، التي أصدر قبلها روايات “مدن الهلاك-الشاهدان”، “فوضى الوطن”، “جريمة في الفيسبوك”، “آدم سامي-مور”، “انتهازيون… ولكن”،  و”شيخوخة بغداد”.

روائي وكاتب عراقي

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.