حوار الرواية والتاريخ
تطرح العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ جملة من الأسئلة المنهجية والبنيوية حول طبيعة هذه العلاقة وحدودها، نظرا للتداخل الحاصل بينهما على مستوى الشكل والوظيفة من جهة، وعجز هذه الثنائية عن تقديم هوية سردية جامعة من جهة ثانية. يتم التعبير عن هذه الإشكالية من خلال الجدل المستمر حول المصطلح الدال على هذا النوع من الرواية بين كتاب الرواية والنقاد والدارسين.
يتنازع مصطلح الرواية التاريخية طرفان مختلفان في الرؤية والمفهوم هما الرواية والتاريخ، فالرواية التي هي عمل ذاتي وفني وتخييلي يتميز عن الكتابة التاريخية التي تدعي الموضوعية وتعمل على تفسير التاريخ. من هنا كان الجدل وما زال مفتوحا بين النقاد والدارسين حول هذا المصطلح الملتبس والإشكالي وقدرته على التعبير عن واقع الرواية التي تظل محكومة بتأثير التاريخ عليها. إن هذه الإشكالية تتركز في جانب هام وأساسي منها في مستوى العلاقة مع الزمن بوصفه الفضاء الحيوي لأيّ نشاط إنساني كان أو ما سيكون، فإذا كانت الرواية كما يقول الأخوان فونكور هي تاريخ ما كان يمكن أن يكون، فإن التاريخ هو رواية ما كان أو حدث في الماضي، ولذلك قيل عن الروائي بأنه مؤرخ الحاضر والرواية هي سرد ما كان يمكن أن يقع. وستتضح دلالة هذه العلاقة أولا في الانتقال الذي حدث من كتابة التاريخ إلى الرواية، وهو ما جعل الروائي الفرنسي بلزاك يصف نفسه بأنه مؤرخ العصر الذي كان يعيش فيه، في حين اعتبر أندريه مالرو كاتب الرواية التاريخية المعاصرة التي تستمد أحداثها من الزمن الذي تستمد وقائع مادتها الروائية منه.
إنّ ما يجمع بين الرواية والتاريخ من مشتركات على مستوى الأحداث والزمان والأمكنة والشخصيات والشكل والوظيفة هو ما يثير الالتباس في هذه العلاقة، خاصة أن الرواية هي أقرب الفنون إلى التاريخ والأكثر تأثيرا للتاريخ عليها، ما يجعل من الصعب عليها أن تتحرر من هذا الأثر، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود اختلافات تتجلى بصورة أساسية في أن الرواية هي قبل أي شيء آخر عمل تخييلي فني يتخذ من التاريخ فضاء له أو هو يستلهم منه أحداثه، ولهذا يتسم الكاتب الروائي بأنه هو من يقوم بفعل الحكي وتحويل التاريخ إلى حكاية يتولى الراوي مهمة روايتها، بينما يقوم المؤرخ على خلاف ذلك بمهمة تفسير هذا التاريخ.
في المصطلح والمفهوم
إن هذا التداخل القائم بين الرواية والتاريخ وما ينجم عنه من التباس على أكثر من مستوى هو الذي جعل الجدل يظل يدور بين النقاد والدارسين، ويتخذ دلالته ما نجده في تعدد المصطلحات التي ينحتها كل طرف منهم باعتبارها الأكثر دلالة على توصيف هذه العلاقة وتعبيرا عنها. ويعدّ مصطلح الرواية التاريخية الذي ينطوي على التباسات واضحة في المصطلح والمفهوم من أكثر هذه المصطلحات إثارة للجدل، لكن البعض من كتاب الرواية اعتبره انتقاصا من قيمة العمل الروائي باعتباره مصطلحا نشأ مع بدايات الكتابة الروائية.
إن التاريخ الذي هو رواية لأحداث ووقائع جرت في الماضي يحاول المؤرخ تفسيرها وإبراز دلالاتها، تختلف عن الوظيفة التي يقوم بها الروائي، لأن الرواية التي تتخذ من التاريخ وأحداثه خلفية لها تظل تعكس في بنية أحداثها وعي الحاضر بالماضي. لذلك لا يدعي الروائي واقعية ما يقدمه من أحداث وشخصيات روائية، نظرا لأن الرواية هي عمل فني تخييلي يقوم الروائي فيه بإعادة بناء وقائع التاريخ في سياق بنية حكائية سردية تقوم على الترابط وإنتاج الدلالة والمعنى.
إن مصطلح الرواية التاريخية كما يراه خصومه يقوم على الإيحاء بالمطابقة بين الرواية والتاريخ انطلاقا مما يقولونه حول الترابط العضوي القائم بين التاريخ والرواية. لكن الرواية بوصفها عملا يقوم على التخييل لا تسعى لاستنساخ التاريخ وتفسير أحداثه والبحث عن الحقيقة فيه كما يفعل المؤرخ ذلك، بل هي تتخذ من أحداثه خلفية لها أو فضاء تظل تتحرك فيه وهي تعيد بناء وقائعه على نحو دال ووفقا للاحتياجات الفنية للعمل الروائي. ويذهب بعض الدارسين إلى القول بأن الرواية على خلاف التأريخ تظل معنية بالبحث في الفجوات الموجودة بين أحدث التاريخ أو في المسكوت عنه، إضافة إلى المغيب أو المهمل في هذه السردية للتاريخ.
ويعد مصطلح التخييل التاريخي الذي اقترحه الناقد العراقي عبدالله إبراهيم بديلا عن مصطلح الرواية التاريخية محاولة لتفكيك ثنائية الرواية والتاريخ من خلال دمجهما معا في هوية سردية جديدة، تعمل على إزاحة مقدار الخضوع الذي يمكن للتخييل السردي أن يعاني منه تحت ضغط سلطة المرجعيات التاريخية عليه. ويبرر الناقد طرح هذا المصطلح على أساس أنه يمثل تخطيا لمشكلة التجنيس الأدبي وتجاوزا لحدودها ووظائفها، إضافة إلى أنه يعمل على تحرير ذاكرة المصطلح مما علق بها من مفاهيم ظهرت مع روايات جورجي زيدان وأمثاله، خاصة وأن مصطلح الرواية التاريخية استنفد طاقته الوصفية الدالة. ويجمل الناقد دلالة المصطلح الذي صكه بأنه مادة تاريخية انفصلت عن سياقاتها الحقيقية عندما تشكلت بواسطة السرد وتحولت إلى وظيفة جمالية ورمزية.
التاريخي والواقعي
يقوم التاريخ على منهج موضوعي يدعي الواقعية والبحث عن الحقيقة، بينما تقوم الرواية على منهج ذاتي تخييلي محكوم بسلطة الخيال وفنية الكتابة التي تحاول البحث في الفجوات الموجودة بين أحداث التاريخ أو المغيب والمسكوت عنه فيها، الأمر الذي يجعل عمل المؤرخ مختلفا عن عمل الروائي وإن كانت الرواية تقوم على فكرة من التاريخ كما يراها غولدمان. إن الرواية التي لا تستطيع أن تتحرر من أثر التاريخ الذي تعمل على استلهامه وإعادة بناء وقائعه تظل مسكونة به طالما أنها تكتب في زمن محدّد سوف يصبح بعد زمن ماضيا.
إن هذه العلاقة بين الرواية والتاريخ والواقع وما يحدث من تداخل بينها تكشف عن أن الرواية الواقعية تعدّ رواية التاريخ الاجتماعي، وهو ما نجده ظاهرا في كثير من الأعمال الروائية التي حاولت أن تتمثل الواقع بأبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية وتحولاته الدالة. ولذلك لعبت هذه الرواية دور مهما في تمثيل الواقع سرديا بكفاءة فنية وقدرة على التخييل. ولذلك وكما يقول باختين فإن كل واقعة اجتماعية هي واقعة تاريخية ولكن مع التخلي عن مفهومي الاجتماع والتاريخ المجردين. من هنا اكتسبت ثلاثية نجيب محفوظ التي نال عليها جائزة نوبل قيمتها الواقعية والجمالية لأنها عبّرت من خلال سيرورة السرد فيها عن مرحلة هامة من التحولات التاريخية والاجتماعية في تاريخ مصر الحديث.
بين المؤرخ والروائي
تجاوزت إشكالية العلاقة بين الكتابة الروائية والتاريخ حدود الالتباس القائم بينهما بسبب المشتركات الموجدة بينهما إلى مسألة أخرى أكثر أهمية تتعلق بالعلاقة القائمة بين المؤرخ والروائي. إن محاولة الروائي إعادة جمع أحداث التاريخ ووصل ما انقطع بينها أو غاب عنها أو إعادة تفسيره من جديد قد شكل تحديا كبيرا لوظيفة المؤرخ الذي وجد في الروائي منافسا له في هذه الوظيفة، على الرغم من الاختلاف الموجود بين عمل الروائي والمؤرخ أو بين الكتابة التاريخية والرواية التي تتخذ من التاريخ فضاء لها.
يختار الروائي من التاريخ ما يجده جديرا بإعادة القراءة والتمحيص من خلال ما يطرحه على الوعي الروائي من أسئلة معلقة في فضاء الكتابة التاريخية، أو بسبب ما يجده جديرا بالاستعادة نظرا لما يحمله من دلالات تنطبق على الواقع المعاصر أو تكشف عن المسكوت عنه في هذا التاريخ. لذلك تتميّز وظيفة الكاتب الروائي بسبب اختلاف الدوافع والرؤية إلى التاريخ إضافة إلى الخصوصية الفنية والتخييل الذي يحكم هذه الكتابة ويجردها من موضوعيتها. لكن هذا الاختلاف في الرؤية والمفهوم لم يمنع الروائي من أن ينافس المؤرخ في وظيفته عندما يعيد ملء الفجوات المتروكة في التاريخ أو يقوم بإعادة تأويل أحداثه واستقراءها في ضوء رؤية جديدة لكنها لا تقدم نفسها بوصفها بديلا عن عمل المؤرخ وإن كانت سلطة التاريخ تظل تفرض نفسها على كتابة الرواية التي تظل تهجس بالتاريخ.
لقد اتخذت هذه الإشكالية في العلاقة بين الرواية التاريخ بعدا آخر في التجربة الروائية العربية الحديثة عندما حاولت بعض التجارب الروائية استعادة العلاقة بين الرواية وأشكال السرد التاريخي من خلال توظيفها في الرواية بهدف تأصيل هذه الرواية وتعميق علاقة اتصالها بالتراث. لذلك تتسع حدود هذه الإشكالية في العلاقة، بين الرواية والتاريخ، كما تتسع معها مشكلة المصطلح الدال الذي يمكن أن يحيل على هذا التنوع والاختلاف في التجارب، خاصة وأن هذه الرواية ما زالت تحاول التجريب والبحث عن هوية خاصة بها. إن الجدل المستمر حول مسألة المصطلح هو انعكاس لواقع التجربة الروائية العربية وتنوع تجاربها وتعدد مرجعياتها، إضافة إلى أن مصطلح المعاصر أو الراهن سيغدو بعد زمن ماضيا ولذلك يبقى السؤال: ما هي حدود التاريخي هنا وما هي حدود الراهن في الكتابة الروائية حتى نسم هذه الرواية بأنها تاريخية أو رواية عن زمننا الراهن بعيدا عن زمن قراءتها الراهن؟