حول المسألة
بالرغم من سيطرة الرواية على أذواق القراء واهتماماتهم على مدى العقود الأربعة الماضية، فإن هذا الأمر، حسب اعتقادي، ليس مرتبطا بطبيعة الشكل الأدبي عند المقارنة بين الشعر والرواية، بل إنني أميل إلى الاعتقاد بأن الشعر ابتعد في فترة مّا عن مقدمة اهتمامات القراء ليس لعلة في طبيعته الفنية، أو لكونه لم يعد، كما كان عبر العصور، معبراً عن وجدان الشعوب وروح الأمم وعن اهتمامات الروح الإنسانية الأكثر جوهريةً، بل بسبب حصول فجوة ثقافية بين القراء وبحثهم عن المضامين الواضحة من جهة، والمبالغة في الجوانب اللغوية من ترميز وتجريد وإغراق في الإبهام لدى العديد من شعراء العقود الأربعة الأخيرة تحديداً. ولهذا علاقة بجوانب شخصية فردية أو لظروف موضوعية خارجية.
وفي هذا الصدد أتذكر كيف أن فترة الثمانينات في العراق تحديداً خلقت نمطاً من الكتابة الشعرية توصف من قبل النقاد والمتابعين بالغموض والتجريد والتركيز على الانثيالات اللغوية، وهي وسائل تعبير لجأ إليها العديد من الشعراء آنذاك لإخفاء مضامين الرفض والاحتجاج، بإزاء محاولات السلطة تحويل الخطاب الشعري إلى وسيلة دعائية لتسويق الحرب، وترسيخ دعائم الحكم، بكل ما كان يعنيه ذلك من تراجع وابتعاد عن جوهر الشعر ووظيفته الصافية المنزهة عن الغايات المسيسة.
عالمياً لم يكن الحديث عن تراجع الشعر وتصدر الرواية بهذا المستوى من السخونة.. وكانت العلاقة بين الشعر والرواية علاقة استفادة متبادلة. ولنا في الواقعية السحرية أمثلة على الروايات التي فتحت الباب واسعاً للشعر، فبقي في دائرة الاهتمام روحاً وجوهراً حتى لو تراجع الاهتمام به شكلاً مستقلاً.
ولعل في فوز الشعراء جوزيف برودسكي وديريك ولكوت وشيموس هيني ولويز غليك هذا العام بجائزة نوبل للآداب وفوز غيرهم على مدى العقود الثلاثة الماضية، بالإضافة إلى العديد من الجوائز الأخرى التي احتفت بالشعر والشعراء دليل على الاهتمام العالمي بالشعر وإعطائه المكانة التي يستحقها من التكريم.