حياة الربّ وموته
خلال ربيع وصيف 1980، اجتاحت العالم شائعة فريدة من نوعها. في البداية ظلّت محصورة في أوساط الحكومات والدوائر العلمية في واشنطن ولندن وموسكو، وسرعان ما انتشرت في أفريقيا وأميركا الجنوبية والشرق الأقصى، وبين الناس من كلّ مشارب الحياة، من مربّي المواشي في أستراليا إلى مضيفات النوادي الليلية في طوكيو ومضاربي سوق المال في بورصة باريس. نادراً ما مرّ يوم دون أن تصل الشائعة إلى الصفحات الأولى من عشرة صحف على الأقلّ حول العالم.
في بلدان قليلة، خصوصاً في كندا والبرازيل، تسبّبت الشائعة بهبوط حادّ في أسعار السلع، وأصدرت الحكومة في حينه بيانات نفي قاطعة. في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، عيّنت الأمانة العامة لجنة من العلماء البارزين ورجال الكنيسة وقادة الأعمال بهدف وحيد هو كبح الحمّى التي بدأت الشائعة بتوليدها في نهاية الربيع. هذا، بالطبع، أقنع الجميع ببساطة أنّ شيئاً ما ذا أهمية كونية سوف يُكشف عنه عمّا قريب.
لمرّة، لقيت حكومات الغرب، موقفاً متعاطفاً من الاتحاد السوفييتي، ومن بلدان مثل كوبا وليبيا وكوريا الشمالية، التي لطالما استغلّت في الماضي أيّ فرصة توفّرها الشائعات لها. لكنْ حتى هذا لم يمنع اندلاع الفوضى في قطاع الصناعة، والشراء بدافع الذعر. فتبدّدت ملايين الباوندات في سوق لندن للأوراق المالية بعد الإعلان عن أنّ أسقف كانتربوري سيزور الأراضي المقدّسة. واجتاح العالم وباء التغيّب عن العمل عشية انتشار الشائعة. وفي مناطق نائية مثل معامل السيارات في ديترويت والفولاذ في الرور، فقد العمال كلّ اهتمام بالوظائف وتدفّقوا خارجين من المعامل، وجعلوا يحدّقون بصمت بالسماء.
لحسن الحظّ، فقد ظلّت تأثيرات الشائعة سلمية الطابع. في الشرق الأوسط وآسيا، حيث عقائد راسخة منذ قرون، بالكاد أثارت الشائعة أيّ اهتمام، ولم تكن هناك جلبة إلا في أكثر الحكومات والأوساط العلمية تطوّراً. بلا ريب، كان تأثير الشائعة أعظم في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. وللمفارقة، فقد شهدت انتشاراً أكبر في الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين زعمتا لسنوات أنّ مجتمعاتهما قائمة كلياً على المثل التي تعبّر عنها.
خلال هذه الفترة، فإنّ نوعاً واحداً من المؤسسات ظلّ بمنأى عن هذه التخمينات: كنائس العالم ودياناته. وهذا لا يعني أنها كانت بأيّ شكل من الأشكال سلبية أو لا مبالية، لكنّ موقفها أشار إلى ريبة ما، إن لم يكن تناقضاً جلياً. على الرغم من أنها لا تستطيع إنكار الشائعة، فإنّ رجال الدين في كلّ مكان، أوصوا بضرورة أن يلزم رعاياهم جانب الحيطة، والتريّث في استخلاص الاستنتاجات.
غير أنّ تطوّراً لافتاً وغير متوقّع سرعان ما حدث. في إعلان موحّد، التقى ممثلو أعظم ديانات العالم، في روما ومكة والقدس، وأعلنوا قرارهم التخلي عن خلافاتهم وصراعاتهم. وبأنهم سوف يوحّدون جهودهم في معبد جديد أعظم سوف يُطلق عليه اسم الجمعية المتحدة للأديان، وستكون الجمعية دوليّة الطابع عابرة للطوائف، وستضمّ العناصر الجوهرية في العقائد كافة في عقيدة واحدة موحّدة.
وقد أجبرت أنباء هذا التطوّر الاستثنائي حكومات العالم أخيراً على اتخاذ القرار. وفي الثامن والعشرين من أغسطس التأمت الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي ضجة دعائية تجاوزت كلّ ما هو مألوف حتى من قبل المنظمة نفسها، كان هناك حضور غير مسبوق للوفود من الأمم كافة. وأمام أنظار وأسماع المعلقين من مئات القنوات التلفزيونية العالمية، فإنّ وفداً ضخماً ضمّ علماء ورجال دولة وأكاديميين، يرأسه ممثلون عن الجمعية المتحدة للأديان، دخل الأمم المتحدة واتخذ أعضاؤه مقاعدهم.
حين بدأ الاجتماع دعا أمين عام الأمم المتحدة، سلسلة من العلماء البارزين، يتقدّمهم مدير مرصد جورديل في بريطانيا. وبعد ديباجة ذكر فيها سعي العلماء إلى مبدأ موحّد خلف كلّ شكّ ظاهر وخلف تقلّبات الطبيعة، وصف العمل البحثي المذهل الذي شهدته السنوات الأخيرة عبر تلسكوبي جورديل وأيرسيبو في بورتريكو، بأنه شبيه بالكشف عن جسيمات أصغر داخل الذرّة، فقد كشف هذان التلسكوبان أنّ كلّ الإشعاعات الإلكترومغناطيسية تتضمّن في الواقع منظومة من تردّدات أصغر. تلك الموجات الفائقة الدقّة، مثلما أطلق عليها، متغلغلة في كلّ مادة وحيّز.
بيد أنه، واصل المتكلم، فإنّ اكتشافاً ثانياً وأهم تُوصِّل إليه عند تحليل بنية تلك الموجات الفائقة الدقّة بواسطة الكمبيوتر. فقد أظهر هذا النظام الإلكترومغناطيسي غير الملموس بصورة لا تحتمل اللبس بنية رياضية معقّدة ودائمة التغيّر، فيها كلّ سمات الذكاء. لإعطاء مثل واحد فحسب، فقد تجاوبت تلك البنية مع سلوك المراقب البشري وأبدت حساسية تجاه أفكاره، بما فيها تلك التي لم ينطق بها. وأكّدت سلسلة دراسات مكثّفة على الظاهرة بما لا يدع مجالاً للشك أنّ هذا الكائن الحسّاس، مثلما يفترض تسميته، يعمّ العالم كله. على نحو أدقّ، إنه يوفّر الركيزة الأساسية التي يتشكّل منها الكون. الهواء نفسه الذي نتنفّسه في هذه اللحظات، عقولنا وأجسادنا، تشكّلت من قبل هذا الكائن الذكيّ ذي الأبعاد اللامتناهية.
في ختام البيان ساد صمت عميق الجمعية العامة، وانتقل منها إلى العالم بأسره. في مدن العالم وبلداته، هُجرت الشوارع وتعطّلت حركة السير في حين قبع الناس بصمت وترقّب أمام شاشات التلفزيون. نهض أمين عام الأمم المتحدة وتلا إعلاناً موقّعاً من قبل ثلاثمائة عالم ورجل دين. بعد عامين من الاختبارات المكثّفة فإنّ وجود إله سامٍ قد ثبُت بما لا يحتمل الشك. إيمان البشر القديم بالخالق قد أُثبت أخيراً علمياً، لتبدأ فصول حقبة جديدة من تاريخ البشر بالتكشّف أمام أعينهم.
في اليوم التالي حملت صحف العالم مئات التنويعات على العنوان نفسه:
الربّ موجود
كائن أعلى يحكم العالم
خلال الأسابيع التالية، صارت أحداث الحياة اليومية مهملة. في جميع أنحاء العالم أُقيمت صلوات الشكر، وملأت المواكب الدينية الشوارع. وتدفّقت حشود التائبين إلى المدن المقدّسة حول العالم. وباتت موسكو ونيويورك وطوكيو ولندن، أشبه بمدن القرون الوسطى في يوم جميع القدّيسين. ارتفعت الرؤوس نحو السماء، وركع الملايين في الشوارع، أو مشوا في مواكب بطيئة حاملين الصلبان والماندالات. واضطرّت كاتدرائيات القديس بطرس ونوتردام والقديس باتريك، إلى إقامة صلوات متواصلة، لتلبية طلب الحشود الهائلة التي تدفّقت عبر أبوابها. نُسيت النزاعات الدينية. وتبادل الكهنة من الجمعية المتحدة للأديان العباءات وترأسوا صلوات بعضهم البعض. وتعمّد البوذيون، وركع المسيحيون مصلين مثلما ركع اليهود أمام تماثيل كريشنا وزرادشت.
تبع ذلك المزيد من الفوائد العملية. ففي كلّ مكان سجّل الأطباء انخفاضاً حادّاً في أعداد المرضى. واختفت الأمراض العصبية والعقلية الأخرى بين ليلة وضحاها، إذ أدّى اكتشاف وجود الربّ إلى تأثير مباشر على المرضى. وفي جميع أنحاء العالم حُلّت قوّات الشرطة. وسُرّح عناصر القوّات المسلحة، وفُتحت الحدود التي كانت مقفلة منذ أزمنة طويلة. جدار برلين هُدم. وفي كلّ مكان تصرّف الناس كأنّ نصراً عظيماً حصل ضدّ عدو لا مرئي. هنا وهناك، بين الأعداء خصوصاً، مثل الولايات المتحدة وكوبا، ومصر وإسرائيل، وُقّعت معاهدات صداقة دائمة. أُرسلت الطائرات القتالية والأساطيل البحريّة إلى ساحات الخردة ودُمّرت مخزونات الأسلحة (وإن احتُفظ بعدد قليل من أسلحة الصيد بعد أن تسبّبت روح الأخوّة العالمية بوقوع أولى ضحاياها، وهو مهندس سويدي حاول معانقة نمر في البنغال. وصدرت إنذارات بأنّ إدراك وجود الربّ يجب أن يمتدّ إلى الأعضاء الدنيا في مملكة الحيوان، حيث لا يزال النضال من أجل الحياة في الوقت الحالي بلا رحمة مثلما كان دوماً).
في البداية، كان مثل هذه الحوادث المعزولة بالكاد ظاهراً في خضمّ النشوة العالمية العارمة. تجمّع آلاف النظّارة حول التلسكوبات الضخمة في جورديل وأرسيبو، فضلاً عن عدد من هوائيات القنوات التلفزيونية التجارية وغيرها من البُنى التي تشبه على نحو غامض هوائيات الإذاعات، وذلك بانتظار رسالة مباشرة من الربّ. تدريجياً، عاد الناس إلى أشغالهم، أو على نحو أدقّ، عاد أولئك الذين اعتبروا أنّ عملهم مفيد أخلاقيّاً. استطاعت الصناعات الاستمرار في العمل، لكنّ الوكالات المسؤولة عن بيع المنتجات للجمهور وجدت نفسها في حيرة من أمرها. فعناصر الخداع والمبالغة لدى بيع كلّ المنتجات، سواء على مستوى شركات الإعلانات الوطنية، أو الباعة الجوّالين، لم تعد مقبولة في ظلّ الوضع الحالي، غير أنه لم تُستنبط آلية بديلة للبيع.
بدا التواني المحتوم في التجارة والصناعة غير ذي أهمية خلال تلك الأسابيع الأولى. فغالبية سكان أوروبا والولايات المتحدة، ما انفكّوا يحتفلون بمملكة الإنسان الجديدة، بداية الألفية الجديدة الحقيقية. تغيّر أساس الحياة الخاصة قاطبة، ومعه المواقف تجاه الجنس والأخلاق وكلّ العلاقات بين البشر. تحوّلت أبواب وبرامج الصحف والتلفزيونات من الوجبة السابقة المليئة بالجرائم والنميمة البوليسية، والوسترن والمسلسلات الدرامية الطويلة، إلى الطروحات الرصينة والبرامج التي تحلّل خلفية اكتشاف وجود الربّ.
وأدّى هذا الاهتمام المتزايد بطبيعة الربّ إلى درس أكثر تمحيصاً في طبيعته الخالدة المفترضة. وعلى الرغم من تعميمات العلماء ورجال الدين، سرعان ما صار واضحاً أنّ أبعاد الكائن الخارق كبيرة بما فيه الكفاية لقبول أيّ تفسير قد يبتدعه المرء. على الرغم من أنّ الهدف الأخلاقيّ الشامل للربّ يمكن افتراضه من التناغم والنقاء والتوازي الذي كشفت عنه التحليلات الرياضية – سمات أكثر وضوحاً في التجاوب مع الأفعال المتناغمة والإبداعية مما في الأفعال العشوائية أو التدميرية – تلك الخصائص بدت أكثر تحديداً بقليل ربطاً بالإنسان وسلوكياته اليومية مما في المبادئ الموسيقية الضمنية. بلا شك، فإنّ ذكاء أعلى قائم ومتغلغل في نسيج الكون بأسره، يتدفّق في موجات لا تعدّ ولا تحصى عبر عقولهم وأجسادهم مع مطالب وتوجيهات أكثر تحديداً مما انطوت عليه التجليات السابقة لذلك الذكاء.
لحسن الحظّ، فالربّ لم يكن غيوراً ولا انتقامياً. لم تسقط الصواعق من السماء. وأوّل المخاوف من يوم الحساب، من المشانق التي تملأ الأرض المظلمة، انحسرت بأمان. لم تجد كوابيس الرسّامَين التشكيليين بوش وبروغل مجالاً لكي تتجسّد على أرض الواقع. ولمرّة لم تعد البشرية بحاجة إلى مهاميز تحثّها على تنظيم أفعالها. الخيانات الزوجية، والزنا والطلاق اختفت كلها تقريباً. ومن اللافت أنّ نسبة الزيجات لم تنخفض، ربما بسبب شعور عام بأنّ نوعاً من المملكة الألفية بات قاب قوسين أو أدنى.
كشفت الفكرة الشائعة عن نفسها في طرق عدة. فقد عدد كبير من العمال في أوروبا وأميركا الشمالية اهتمامهم بالوظائف وجلسوا على عتبات منازلهم مع جيرانهم ناظرين إلى السماء ومستمعين إلى النشرات الإخبارية. وفي نهاية الصيف حصد المزارعون محاصيلهم لكنهم بدوا أقلّ حماسة للتحضير للموسم المقبل. سيل التصريحات وأوّل التأويلات المتباينة، من لجان رجال الدين والعلماء الذين ما زالوا يحقّقون في ظاهرة الإله، وشت بأنه سيكون من غير الحصيف التخطيط بعناية شديدة بناء على مستقبل غير معلوم.
وفي غضون شهرين من ثبوت الشائعة العالمية بوجود الربّ، برزت أولى المؤشّرات على قلق الحكومات من العواقب. فقد تأثّر قطاعا الصناعة والزراعة، وإن أقلّ من التجارة والسياسة والإعلانات. وفي كلّ مكان، صارت نتائج هذا الحسّ الأخلاقيّ الجديد، الحسّ بالفضيلة والحقيقة والخير، ملموسة. وجد جيش من المشرفين والمراقبين والمفتشين، نفسه بلا عمل. وأفلست وكالات الإعلانات الرّاسخة منذ زمن طويل. أما الإعلانات التلفزيونية، التي تقبّلت الطلب العام على الصدق التام، وخشية من الزبون الأعلى في السماء، فقد انتهت غالبيتها مع النصح بعدم شراء المنتجات التي تروّج لها.
أما بالنسبة إلى السياسة العالمية، فإنّ سبب وجودها برمّته، الجاذبية التي تمثّلها عبر تأكيد الذات والدسائس ومحاباة الأقربين، قد دُمّر. ووجدت عشرات البرلمانات، من الكونغرس الأميركي إلى مجلس السوفييت الأعلى إلى بيت العموم البريطاني، نفسها محرومة من علّة وجودها.
كما واجهت الجمعية المتحدة للأديان قدراً موازياً من المشكلات. على الرغم من أنّ الناس ظلّوا يقصدون أماكن العبادة بأعداد تفوق الأعداد السابقة، فقد باتوا يفعلون ذلك في أوقات مختلفة عن الطقوس السابقة، متواصلين مباشرة مع الربّ القدير أكثر من لعب دور الأشخاص العاديين الخاضعين إلى مراسم تحتاج وساطة الكهّان.
الأعضاء المسيحيون السابقون، في الجمعية، الذين يتذكّرون الإصلاح الذي أتت به ثورة مارتن لوثر ضدّ الطبقة الدينية التي كانت تزعم علاقة خاصة مع الكائن الأعلى، أربكتهم بالطبع هذه التطوّرات. فظلّوا متردّدين في قبول الوصف الرياضي للإله الذي قدّمه علماء العالم، لكنهم افتقروا إلى بديل يقدّموه في وضعيتهم الدفاعية الحالية. أما علماء الفيزياء، على عكسهم، فسارعوا إلى تذكير رجال الدين بأنّ رموزهم الفارغة، الصليب والقربان والماندالا، هي محض أخيلة أكثر مما حقائق علمية، تلك الحقائق النابعة منهم. الخوف القديم من كلّ الكنائس بأنّ تجلي الربّ قد يأتي عبر المعرفة لا الإيمان، بات له ما يبرّره أخيراً.
بدأ التغير المستمر في جوهر الحياة على جانبي الأطلسي يقلق الأعضاء البارزين في الحكومات وقطاعات الصناعة. وبدأت الظروف في الولايات المتحدة وأميركا الشمالية تشبه تلك التي في الهند والشرق الأقصى، حيث جيوش من المتسوّلين تطوف الشوارع دون أيّ تفكير في الغد. مملكة الربّ قد تكون في متناول اليد، لكنّ اليد باتت فارغة.
لم يحدث الكثير خلال شهر أكتوبر، وفي نهاية الشهر عُقد اجتماع ثان للجمعية المتحدة للأديان في القدس، حيث تحدّى أسقف بارز علانية النظرة العلمية للربّ بأنه كائن ذو ذكاء فائق وإنما حياديّ، مؤكداً أنّ هذه النظرة تقوم على فكرة مفرطة في التبسيط بناء على ما اعترف العلماء بأنفسهم بأنها مناهج خام للتثبّت. هل الإله سلبي بالكامل، أم أنه مثل البحر، يكشف عن نفسه في أشكال وحالات شتى؟ وبعد أن أكّد الأسقف أنه لا يخجل من الإشارة إلى المانوية، شدّد على أنّ ثنائية الخير والشر لطالما وجدت في الإنسان وفي الطبيعة، وسوف تستمرّ في المستقبل. وهذا ليس بهدف القول إنّ الشر هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان، أو إنّ هذا الأخير غير قادر على التوبة، لكنّ هذا التأمل السلبي في ربّ غير مرئي لا يجب أن يعميهم عن التضادات الحتمية في ذواتهم، أو بطبيعة الحال عن عيوبهم. فالإنجازات العظيمة للبشرية في مجالات التجارة والفنون والصناعة، قامت على فهم صحيح للطبيعة الثنائية للبشرية ودوافعها. وما الانحدار الحالي للحياة المدنية سوى عارض ناجم عن رفض رؤية البشر أنفسهم على طبيعتها، وهو بمثابة الإنذار حول المخاطر الناجمة عن رؤية البشر لذواتهم بوصفهم مشابهين للربّ. فالقدرة على الخطيئة شرط لازم للتوبة.
بعدها بفترة قصيرة، وكأنما بإشارة من هذا الأسقف، وقعت سلسلة من الجرائم المدهشة حول العالم. في الغرب الأميركي الأوسط، حصل عدد من عمليات سرقة المصارف على نحو يوازي تلك التي شهدتها ثلاثينات القرن العشرين. وفي لندن وقع هجوم مسلّح على جواهر التاج المحفوظة في البرج. تبع ذلك عدد من الجرائم الأصغر التي لم تُرتكب جميعها بهدف ربح المال. في باريس شقّ مهووس لوحة الموناليزا في اللوفر، أما في كولونيا فدنّس مخرّبون المذبح الأعلى في الكاتدرائية، احتجاجاً على وجود الربّ نفسه.
جاء تجاوب الجمعية المتحدة للأديان على تلك الجرائم مفاجئاً. فقد حيّتها بتسامح وصبر، كأنّها ارتاحت لرؤية تلك الأمثلة المألوفة على هشاشة البشر. وبعد اعتقال رجل مشهور بتهمة قتل زوجته في الألزاس، أعلن قسّ محلي أنّ ذنب الرجل هو في حقيقة الأمر شهادة على براءته، علامة على قدرته على طلب التوبة لاحقاً.
هذا التناقض المقلق تلقّى قدراً كبيراً من الدعاية. بدأ عدد من الساسة الأقلّ وسوسة، بتشكيل مفاهيم مماثلة. فاقترح مرشح للكونغرس، في منطقة بكاليفورنيا كانت تُعرف بتصنيع الطائرات، وتضرّرت بقوة جرّاء الركود الاقتصادي، أنّ فكرة الإله الكليّ هي إساءة للخيار الحرّ والتعدّدية في نشاط البشر. وقد أدّى الإحساس بعالم مقفل إلى تقليص قدرة الإنسان على المبادرة والاعتماد على الذات، وهي الصفات التي قامت عليها الديمقراطيات وشكّلت أساس عظمتها.
سرعان ما تبع ذلك خطاب لعالم معروف في علوم الماورائيات خلال حضوره مؤتمراً في زيوريخ، أشار فيه إلى تعدّدية الكون وظواهره المطلقة. ففي رأيه، لكي تشتمل الألوهية على الاحتمالات كافة، عليها احتواء احتمال عدم وجود الإله ذاته. بكلمات أخرى، فالألوهية تنتمي إلى البُنى المفتوحة النهايات التي يستحيل تعريف شكلها ومداها وهويّتها. مصطلح الألوهية كان بلا معنى في حقيقة الأمر.
طُلب من العلماء في مرصدي جورديل وأرسيبو الذين تعرّفوا القدير في البداية، إعادة النظر في اكتشافاتهم الأولى. جلسات الاستماع المتلفزة في واشنطن، التي تعرّض فيها علماء الفيزياء الفلكية المتعبين، للاستفزاز والتحقيق من قبل المحامين ورجال الدين، استدعت إلى الذهن محاكم التفتيش في عصور سابقة. في جورديل وأرسيبو استُدعي الجيش لحماية المرصدين من حشود المتحوّلين دينياً بسرعة فائقة.
تابعت الجماهير السجالات المحمومة التي تبعت ذلك باهتمام فائق. بهذا الوقت، في مطلع ديسمبر، كان موسم أعياد الميلاد قد بدأ، إنما من دون الحماسة السابقة، لسبب واحد، وهو أنّ قلة من المتاجر كان لديها ما تبيعه. علاوة على ذلك، لم يكن هناك مال لصرفه على تلك الأمور. فقد طُبّق نظام توزيع الحصص على المواد الأساسية. في أشكال عدّة، أصبحت الحياة لا تطاق. وغدت الفنادق والمطاعم خارج الخدمة، أما السيارات فصارت دائمة الأعطال.
تواصل السجال في كلّ مكان، ولجأ الناس إلى الجمعية المتحدة للأديان. غير أنه بصورة غامضة، ظلت أبواب جميع المعابد موصدة أمام الجمهور المضطرب. وبات يتم اختيار رعايا الطوائف بصرامة تشبه اختيار الأعضاء في النوادي الأكثر حصرية، وصارت الطلبات تُقدّم فقط في حال وافق الأفراد على القبول بإرشاد الكنيسة في كافة المسائل الروحية، وسلطتها المطلقة على كافة الشؤون الدينية. سرت شائعة بأنّ إعلاناً عالمياً سوف يتمّ بعد فترة قصيرة، لكنه سيكون مخصّصاً هذه المرّة للمؤمنين فحسب.
أجواء الاضطراب والقلق المتزايدة، خفّفت منها لبضعة أيام، أخبار العديد من الكوارث الطبيعيّة؛ فقتل انهيار أرضي في شمال البيرو نحو ألف قروي. وفي يوغوسلافيا، دمّرت هزة أرضية عاصمة أحد الأقاليم. وأغرقت جبال جليديّة ناقلة عملاقة في الأطلسي. السؤال الذي طرحته صحيفة نيويورك تايمز:
هل الربّ موجود؟
جمعية الأديان تلقي شكوكاً حول الخالق
كان محلّه الصفحة الأخيرة.
قبل أعياد الميلاد بثلاثة أسابيع اندلعت حرب بين مصر وإسرائيل. واجتاح الصينيون النيبال، مطالبين بأرض تخلّوا عنها في الفترة الأخيرة بينما كانوا تحت سحر ما أسموه دسيسة نيوكولونيالية. بعد أسبوع قامت ثورة في إيطاليا بدعم من الكنيسة والجيش، وأُطيح النظام الليبرالي القائم. بدأت الصناعة تنتعش في الولايات المتحدة وأوروبا. ورُصدت غواصات روسية تقوم بمناورات في شمال الأطلسي. عشية الميلاد سجّلت أجهزة قياس الزلازل العالمية انفجاراً ضخماً في صحراء غوبي، وأعلن راديو بكين، عن نجاح اختبار قنبلة هيدروجينية بقوة مئة طن. ظهرت زينة الميلاد أخيراً في الشوارع، وعُلّقت الأشكال المألوفة لبابا نويل وحيوانات الرنّة، فوق آلاف المتاجر. أُقيمت قداديس الميلاد أمام الجمهور في مئات الكاتدرائيات.
في خضمّ هذه الاحتفالات كلها، قلّة من الجمهور انتبهت إلى إعلان الناطق باسم الجمعية المتحدة للأديان، والذي وصفه بأنه الأكثر ثورية حتى الآن، بأنّ رسالة الميلاد لهذا العام هي بعنوان: “موت الربّ”….
1976