حينما تصير الكتابة قارب نجاة
لم أخطط يومًا أن أصبح كاتبًا، ولم أسع حتى إلى أن أكون قارئًا متميزًا. حينما قرأت مصادفة الكتاب الأول في حياتي “البؤساء” لفيكتور هوغو شعرت بأن ثمة حالة من النجاة أو لنقل العزاء من حالة البؤس التي كنا نعيشها في القرية. وكان لهوغو -بالطبع- تلك القدرة المتفردة بأن جعلني أفهم قريتي عبر عوالم المدينة، فأجد متكئي فيما كتب. لم أكن أعي أن هذه إحدى أدوات البراعة في الكتابة. أشَبّه ذلك الأمر في تلك الأيام بمن ظل يعاني وجعًا مبرحًا وعلى نحو مفاجِئ وجد عقارًا يسكن هذا الألم لوقت قصير، فهرعت إلى المكتبة العامة في “مادبا” وحصلت على بطاقة تؤهلني لاستعارة الكتب لأجدُني واحدًا من مدمني القراءة. ليس عيبًا أن أعترف أنني كنت في تلك الأيام أمارس التهام الكتب بنَفسِ مدمن يود الخلاص من شيء يؤرقه.
مع الأيام أخذت أشعر بأن متعة ما تتحقق لي غير تمزيق صور بائسة تلوح في مخيلتي خلال القراءة كأداةِ مُجابهة؛ إنها متعة التحليق. لكن هذا التحليق أخذني إلى مرتقى يطل على سماء أخرى ما كان عليّ بلوغها إلا انطلاقًا من رأس الصفحة البيضاء وعبر القلم كأنه مكوك فضائي سريع الانطلاق. وحينما كتبت أخذت دون أن أعي أكتبني؛ إذ كنت قد اشتريت دفترًا ورحت عند نهاية كل يوم أدون ما رأيت وما سمعت وما حدث لي خلال اليوم. أكتب بجرأةِ متيقن أن ما من أحد سوف يقرأ ما أكتب من اعترافات. أكتب أسراري، رغباتي، شكوكي، رأيي بأبي، بشيخ المسجد، بمدير المدرسة، وبكل الظروف التي منعتني من دراسة الطب في أوروبا، وأخيرًا بمسؤول المعهد العسكري الذي درست به هندسة الطيران والنجوم تتكاثر على كتفيه كأنه يمجد فكرة الليل الذي أميل إلى سكونه ومقدرته على أن يعزلني عما يزعجني في النهار.
حينما حملتني الطائرة العسكرية إلى الصحراء الأردنية الشرقية ليلة 13-12-1990، وحلقت بي على علو شاهق فوق المطار، الذي لم أكن أدري أني سأمكث فيه ستة عشر عامًا تساءلت بسخرية “هل هذه البقعة الرمادية هي المكان الذي سأنام فيه هذه الليلة؟”.
كان الوقت يتكاثر بشراهة وهو يقتاد نوعًا غريبا من الحزن ويدسهما في روحي. بقيت في اليوم الأول أراقب سقف الثكنة التي خصص مكان فيها لسريري ولصندوق معدني أضع فيه أغراضي. كان عليّ أن أحمل معي ولو صفحة من جريدة. هكذا كنت ألوم نفسي أمام ما أحس به. وكان الجنود يغطون بنوم عميق. لا صوت إلا صوت شخير بعضهم، وصوت تكات عقارب ساعة يدي وقد تجاوزت الثانية عشرة منتصف الليل بدقيقة فأوغلنا في عام جديد. كانت الريح خارج الثكنة تتحرك على نحو أثار الوحشة بي بعدما أنفقت ساعات من مهادنتها إلى أن غفت وهي تعدني بالعودة. حينها ألحّت عليّ الكتابة كمن يحتاج الماء في نهار صحراوي تموزي فكتبت مستعينًا بمسمار على الجدار “الريح خارج غرفتي تعوي كطفل أضاع الجهات وأقعى ينتحب”، ثم نمت. لم أتأمل ما حدث ليلتها؛ لماذا كتبت؟ ولماذا شعرت بشيء من الراحة فنمت.
في تلك الايام كانت محطات التلفزة والإذاعات العربية والعالمية لا تتوقف عن الحديث عن قصف جوي وشيك ضد العراق تحت اسم “عاصفة الصحراء”. في الصباح وحينما يممنا شطر عملنا كان معظم زملائي يحملون راديو ترانزستور صغير صنع في العراق مكتوب عليه بالعربية “القيثارة”، وينصتون للأنباء بكل ترقب. كانت مشاعري أيامها مزدوجة؛ حزين على اجتياح الكويت، وحزين على ما سوف تفعله قوات التحالف بالعراق وما يمكن أن تسفر عنه مستقبلًا كل تلك الأحداث. تدبّرت أمري وحصلت على دفتر وأقلام لأعود لكتابة يومياتي لكنني وجدتُني أكتب شعرًا. أكتب وأخبئ الأوراق كأنني أدون يومياتي التي عليّ أن أداريها عن الناس.
في 17 كانون الثاني من ذلك العام بدأت حرب الخليج بقصف جوي ضد العراق من قبل قوات التحالف في “عملية عاصفة الصحراء. أيامها كنا لا ننام إلا ساعات قليلة وكل منا يلتزم موقعه في عمله. كان في جيبي راديو “القيثارة” الذي استعرته من زميلي، وفي جيبي الأخرى قلم وعدد قليل من الأوراق كل ما وجدت قليلًا من الدقائق أكتب وأنا أقاوم المشاهد التي تمدّها لي يد الذاكرة من بلدين عربيين طالهما الوجع. وكلما سمعت نبأ عبر الراديو أتذكر مقولة تيسير سبول “هل نحن حشية قش يتدربون عليها؟”.
مرت السنين كما تمرّ سكين مهترئة بجسد فتي، وصارت الكتابة عندي عادة يومية جنبًا إلى جنب مع القراءة، وصار لي غرفتي الخاصة في عملي وعزلة أستمتع بها؛ الأمر الذي جعلني أواظب على الكتابة اليومية. في تلك الأيام كنت قد زرت معتقل الجفر الصحراوي الذي أغلقته الدولة عام 2005 وُوجه إلى أن يكون مدرسة مهنية. كانت مشاعري متداخلة بشكل غريب؛ إذ أن والدي كان أحد حراس المعتقل، وعدد من أبناء مادبا معتقلون فيه. ثمة جندي هناك أعرفه أخذني في جولة في زنازين المعتقل. كنت وأنا أمشي نحو الزنازين أنظر تارة إلى البرج المخصص للحراسة وصورة أبي تجتاح مخيلتي، وأنظر إلى الزنازين تارة أخرى في يوم كانت الريح فيها تنوح وتثير بي الوحشة من جديد. في المساء عكفت على الكتابة بنهم غريب كأنني محموم، دون أن أدري أنني أكتب رواية في نهاية فصلها الأول نهضت وسألت نفسي وأنا أراقب الأوراق عن بعد كأن أحدًا يتنبه فجأة لخطيئة أوغل فيها منذ زمن: لماذا أكتب؟
في صيف عام 2007 انتهى عملي في الصحراء، وأصبحت مواطنًا بالصبغة المدنية دون أن أدري حينها أنني أحمل الصحراء التي أحببت ليلها معي، وأنني كتبت شعرًا عبر كل تلك السنين عن الأيائل والماء والاخضرار والنساء الجميلات رفضًا للقحط. بعد مدة حينما تفقدت أغراضي التي حملتها معي وجدت مخطوطات شعرية وقصصية ومقالات، وفصلا من رواية لم تنشر. فسألت نفسي من جديد عندما فكرت بالنشر: لماذا أكتب؟
هل أكتب لأرمم جبين العالم مما سقط عليه من قذائف الحروب؟ هل أكتب لأعزي امرأة وحيدة في ليلة شتاء باردة؟ هل أكتب ليشار إليّ بالبنان، ولأحظى بعشيقات يشاركنني سرير الحرمان ولأطعم جسدي امرأة تصبر على رجل يعاني جوعًا مزمنًا لنساء خلقن من نار؟
في الحقيقة -وهذا اعتراف- أنني أكتشف في ذلك العام أني أمضيت سنين في الكتابة لأردم هوة ما في روحي. اكتشفت أنني أكتب لنفسي حتى لو كتبت عن عشبة على كوكب لم يكتشف بعد. لقد كانت كتابة ذاتية دفعتني للنشر كأنني لا أرى ضيرًا من أن أشج صدري وأُري الناس ما فيه. وتوالت الكتابة والنشر دون أن أسمي نفسي كاتبًا. أضحك في دواخلي عندما يصافحني قارئ وينادني “أستاذ”. قارئ لا يعرف أنني إن تخليت عن الكتابة سأمشي أعرج، ذلك العرج الذي لا يراه أحد غيري. وبالفعل حدث لي أن عجزت عن القراءة والكتابة لثلاثة أعوام متتالية لسبب أجهله؛ تلك الحالة التي جعلتني أشعر بمشارفتي على النهاية إلى أن صحوت ذات ليلة وجلست وراء طاولتي وبقيت أكتب حتى الصباح كأن أحدًا ورائي يمسك بكتفي وهو يهمس لي “عليك أن تعيش”.