حين يصبح الحجْر عملاً مسلّياً
أمام هذا الحجر المنزلي الذي نعيشه اليوم لا يأتي على بالي سوى مذكرات آن فرانك التي دوّنتها في المهجع حيث كانت لاجئة هي وعائلتها، لما كانت تقضي وقت عمل عمال معمل التوابل في قراءة الكتب لئلا يشعر أحد بوجود أشخاصٍ في المخبأ.
ما يحصل اليوم معي هو اختباءٌ شبيه باختباء آن، لن نأتي على ذكر الظروف المختلفة للحالتين بقدر ما سأجد في اختبائي القسري هذا ما يمكن أن نعتبره استغلالاً كافياً للوقت، ففي البيت، لأقل في الغرفة التي أعيش فيها، أقوم بالعديد من الأعمال التي بإمكانها أن تريحني من ثقل مضيّ الوقت، فغرفتي وإن بدت هندسياً تتمةً لمنزل العائلة، غير أنّني قمت عبر السنوات الماضية بإضفاء بصمتي عليها وسلخ أجوائها عن أجواء البيت العامة، فباتت أقرب إلى بيت مستقلّ لي، لا أغادرها إلا حين أريد تعبئة زجاجة المياه أو جلب بعض الطعام.
هذه العزلة التي رسمتها لنفسي في غرفتي لم تمنعني أن أقيم علاقات جميلة مع باقي أفراد العائلة، أمّي وشقيقاتي الثلاث، هذه العلاقة الفطرية التي تنبع كوني كبير العائلة والرجل الراشد في المنزل، غير أنّه لا يمكن لهنّ أن يتمكنّ من اختراق خصوصياتي، واليوم ومع هذه الحالة الطارئة التي أجبرتني على وضع مسافةٍ بيني وبينهنّ كتدابير احترازية فقد اتسعت دائرة عزلتي عنهنّ وبات من الممكن أن يطلق عليّ اسم “المستأجر الذي لا مغادرة له”.
هذا الوقت لا بد أنّه سيمضي، لا خلاف هنا، لكن لكل شخصٍ في هذا العالم أساليبه الخاصة في تمضية هذا الوقت، أما عن نفسي فلديّ العدة الكافية لتطبّق عليّ عبارة خليل حاوي الشهيرة “يا معاد الثلج لن أخشاك/لي خمرٌ وزادٌ للمعاد”. لديّ مكتبتان، واحدة ورقية وأخرى إلكترونية، وتحوي الكثير من الكتب التي جمعتها على مدار ستّ سنواتٍ من هنا وهناك وباللغتين العربية والفرنسية. هذه المكتبة التي تملأ وقتي وتجعله ذا قيمة، غير أنّها ليست زادي الوحيد لهذه العزلة، فأنا رجلٌ يكتشف السينما مؤخراً، ومع توفّر خدمة “Netflix” وبرنامج “EgyBest” باتت لديّ قاعدة مميزة لمشاهدة أفلامٍ أقوم باختيارها عبر القرعة، مجموعة أوراقٍ تحمل أسماء أفلامٍ مختلفةٍ أضعها في مرطبانٍ كان لمخلّل اللفت، فلا أستغرب أن تأتي أفلامي مالحةً بعض الشيء. كما أنّني أحبّ سماع الموسيقى واختيارها بنفس الطريقة التي أختار بها الأفلام وأداعب بين حينٍ وآخر غيتاري حسب قدرتي في العزف.
سأقول إن غرفتي اليوم باتت سجناً، سجنٌ يتلاعب بي في مشهدٍ فانتازيّ مثير، تراه يضيق تارةً ويتّسع طوراً حسب انعكاس الذات داخلي، هذا العالم الذي كان مفتوحاً لي ذات يومٍ إذ بي أراه محدوداً ضمن مساحةٍ لا تتجاوز العشرة أمتار مربعة خلق لي علاقةً جديدةً مع الأصوات المنبعثة من الخارج والداخل، بل تخيّلت أحياناً لو أنّني أفهم بالتأليف الموسيقي لكانت هذه الأصوات اليوم كونشيرتو موسيقي جديد، ولكن…
أسمع بين الحين والآخر عن شعور الفرد بالتهديد جراء ما يحصل اليوم من انتشار هذا الفايروس المستجد، أحاول أن أعود قليلاً لفلسفة التهديد بتذكري لفيلم “The Great Train Robbery” لإدوين بورتر، أتذكّر شخصية المهدِد قاطع الطريق جاستن بارنز وقسمات وجهه. هذا الفايروس اليوم قد تراه الأغلبية العظمى تهديداً حقيقياً للبشرية، قد أجد نفسي أشاركهم هذا الشعور لكنّني لا أحس بضعفٍ أمام قوّة بيولوجيّة لا سابق لي في مواجهتها، ولا بقوّة لركوني في المنزل واستراحتي من أعباء كثيرةٍ متفرغاً لأشياء أحبها، ما أشعر به فقط هو شعور كافة السجناء في هذا العالم، عدميّة مفروضة عليّ.
أفتح درج مكتبي حيث أضع بعض ألبومات الصور القديمة لي، أقلّبها وأعاود تذكّر تفاصيل من حياتي الفائتة، فأجد تعريفاً واضحاً لي بأنّني رجلُ الأحلام الميّتة، فكلّما كنت أكبر كانت أحلامي وطموحاتي تنزلق عن جسدي بدل أن تتسلق عمري الطويل، لأجد نفسي اليوم أحلم حلماً تافهاً، ألا وهو أن أغادر هذه الغرفة نحو عالم مدينتي الواسع، وأن أواعد صديقتي بلقاءٍ على فنجانٍ من الشاي ونزهة على الكورنيش في المينا، وزيارة جديدة لمكتبةٍ قديمة وسرقة ما تيسّر من الكتب. فقط هكذا.
سيتحدّثون باستفاضة عن أنّ هذا الوباء المرعب ما هو إلا مكيدة ومؤامرة عالميّة لها أغراضها وأهدافها الاقتصادية والسياسيّة.. الخ، وسيأتي الهجوم المضاد من آخرين سيقولون إنّ هذا ما هو إلا ضربٌ من ضروب غضب الأرض علينا جراء تفشّي وباء التلوّث فيها. وستأتي الآراء الدينية القائلة كغضبٍ إلهي على البشر لإلحادهم والآراء الإلحاديّة التي ستثبت عدم وجود الإله لأنه لو وجد فعلاً لكان قد جنّب الأبرياء هذا الخطر.. هذا الكلام لا يعنيني إطلاقاً ولست ممن يصطفّون ضمن طابور رأي محدد، ما يعنيني فقط هو سلامة أهلي وأصدقائي، أكان هذا الأمر حقيقةً أم فبركة.
لطالما كان للبشر مع الأوبئة تاريخ طويل، بحكم تخصّصي في التاريخ والميثولوجيا فقد درست عن تاريخ الأوبئة وأثرها على العالم، فيعود إلى ذاكرتي طاعون أثينا في اليونان، طاعون عمواس في فلسطين وسوريا، الموت الأسود الذي اجتاح العالم القديم بين 1338 و1351، التيفوس الغرناطي عام 1489، الملاريا الأميركية بين 1600 و1650، الحصبة البوسطنية عام 1657، حمى برشلونة الصفراء عام 1821 وغيرها الكثير من الأوبئة التي ذكرها التاريخ بقديمه ووسيطه وحديثه. بيد أنّ كلّ ما يعود إلى ذاكرتي في هذا الوقت هو بعض الأفلام التي وضعتها كقائمة خاصة لمشاهدتها ومنها ما شاهدته ومنها ما لم أشاهده بعد، أذكر منها “the Happening, Warm Bodies”، “the Day after Tomorrow”، “World War Z”، “the Andromida Strain”، “the Seventh Seal”، “Death in Venice”، “Outbreak”، “28 Days Later”، “the Last Man of Earth”، “Mimic”.
ولربّما ما أفعله بمشاهدتي لهذه الأفلام هو محاولة منّي لتخيّل نهاية لهذا الكابوس، لا أعلم مدى قدرات العلم على الإسراع في إنهاء هذه الظاهرة وأشكك في فعالية هذا الحجر الذي يعيشه العالم، لكنني متفائل دائماً منذ سمعت جوليا تقول “بكرا بيخلص هالكابوس وبدل الشمس بتضوي شموس”.