خارج جدار الإنكار
بحسب ما ورد في تقديم “اعترافات” أنسي الحاج، المنشورة في مجلة “الجديد” (فبراير 2019)، تكشف عن فهمه “للشعر وطبيعة عمله على نصه”، وعن بعض “مصادره ومراجعه بكثير من الجرأة والحرية”. والحق أن الاعترافات عند صاحب “لن” أوجه وأصوات، وهي جزء من سياق الشاعر ومساره، أو جزء من الجنون الذي يستعمله في مقدمة “لن”، الجنون بتفسيره هو “اللاّعادي واللاّمألوف والضد المتعارف عليه”، هو “عصيان القوانين، أي هو الحرية”.
“الاعترافات” بمجملها تذكرنا بقول للحاج لمجلة “فكر” التونسية في أواخر ستينات القرن العشرين “لم أكن وحدي لكنني كنت وحدي. غامرت بكل شيء. أنا متمرد. أقول هذا من باب تبرير الأمر الواقع. ‘معي’ تمرّد كأن تقول ‘معك’ صداع أو ألف دينار”.
لكن للشاعر نزوع آخر قاله لاحقاً، فقد نشر في مجلة أسبوعية وأشار فيه إلى أثر عاصي الرحباني عليه حيث يقول “ليتني ما عرفتك ذلك اليوم قبل ثلاثة وعشرين عاماً (أي في العام 1963) فقد كنت قبلك، كتلة بغض وقوة. وظللت أنت، بشفافيتك ودفئك وصور فيروزك، تنخر في بغضي حتى شددتني من عالمي وجعلتني أصدّق أن الخير أفضل من الشر والمحبة أفضل من الكراهية والطيبة أفضل من اللؤم”.
في موضع آخر، وإذا ما تأملنا حال تمرد أنسي الحاج ومساره، فهو بات مألوفاً، تساءل في مقدمة “لن”: “هل يمكن لمحاولة أدبية أن تتنفس؟” فيجيب بالسلب، لكنه يستدرك بالإشارة إلى أن هذه المحاولة، “إن لم تختنق فستجنّ”، هل للجنون هنا معنى الحرية؟ وماذا بعد أن تنفست “قصيدة النثر” الصعداء، وباتت متداولة وغير محاربة بل سائدة وانتقلت من الهامش إلى المتن (مع التذكير بهامشية الشعر كله الآن)، هل نتمرد ونعود إلى قصيدة الوزن؟ يقول الحاج “لقد ظنوا أنني أريد أن ألغي الشعر الموزون غير أن العكس هو الصحيح، فأنا أحب أن أقرأ الشعر الموزون، لكنني كنت أريد أن أجعل ‘قصيدة النثر’ صعبة حتى لا تبتذل. لقد كنت أحاول أن أرسّخ وأصعِّب شروط قصيدة النثر”. ويسأل “لماذا كنت أريد أن تكون قصيدة النثر صعبة؟ ببساطة لأن تلك الأيام شهدت قولاً شائعاً يرى في القصيدة الجديدة ردّ فعل على صعوبة الوزن، الأمر الذي ألجأهم إلى النثر. وإنها نوع من الاستسهال. وكان جوابنا أن نمعن في تصعيب شروط القصيدة”.
أنسي الحاج الحداثوي الذي لا يحب الوزن العربي الفراهيدي لم يكتب قصيدة نثر واحدة “إلا وفيها إيقاع″، وقصائده “تتوافر على الوزن”، يسمّيها “أوزانا غير تقليدية كما هو الحال مع بحور الخليل”، وهذه يمكن أن نسميها “أوزانا شخصية” غير أنها تبقى “أوزانا في النهاية”
هنا مقاربة تقوم على الدوران والزوغان، فما المعنى بأن يكون الشعر صعباً أو غامضاً أو طلسما؟ هل الصعوبة تنقذ الشعر من الابتذال؟ هل سهولة قصائد جاك بريفير عاطلة؟ ويصل الحاج إلى فكرة قد تكون حافلة بالالتباس″ليس مهما في أيّ شكل تكتب، ولكن المهم أن يكون ما تكتبه شعراً”، والفكرة تطرح أسئلة أخرى، ما الذي يجعل الشعر شعراً، هل هو قول ما لا يقال؟ أم فهم ما لا يقال؟ هل هو الموسيقى الداخلية وانفجار اللغة والانزياح المجازي؟
واعترافات أنسي الحاج التي نشرها الشاعر نوري الجراح، هي تبديد للكثير من المزاعم الثقافية المتداولة والرتيبة النمطية والمعهودة، حول مجموعات الحاج الشعرية وقصيدة النثر وشروطها وبداياتها العربية وأركانها، وفي الوقت نفسه نزوع (الشاعر)، بجانب من الجوانب، نحو “القصص الأسطوري” للقول إن قصائده هذه جاءت من فرادة خاصة، فإحساس الشاعر بأنه يقدم على “كتابة عمل لم يكتب سابقاً”. وإن أصابت قصائده بعض التأثيرات من هنا وهناك، وقصيدة الحاج “المتلعثمة” كما سمّتها خالدة سعيد، أتت بحسب قص صاحبها، وكأنها لحظة إلهام “العراف” أو “النبي” بالمعنى الشعري، وجرأة الشاعر وحريته في القول عن نفسه، لا تبدد القصص الأسطوري، وإن كان الشاعر يعري بعض خصومه الذين يسخرون من قصيدته ولا يقرأونها “عندما أقرأ ما يكتب عنّي لا أجد إلا الشتائم أو الإسقاطات والاتهامات التي تعكس رغبات كاتبيها. لم يدخل أحد إلى تجربتي ذاتها”.
بعض مريدي الشاعر ملكيّون أكثر من الملك، الملك يتحدث بطريقة حسية عن كتابته، وبعض المريدين يصنمون أعماله، يعطونه توصيفاً يفوق الواقع، ربما هي سطوة الشاعر وكاريزماه وينابيع لغته وحرائقه وغيومه، على أن الذين يكتبون نقداً أو تأريخاً ثقافيا وشعرياً يربطون بشكل أوتوماتيكي بين أنسي الحاج وقصيدة النثر، والشاعر ينفي الزعم المنسوب إليه أو إلى أدونيس، “بدأت في كتابة هذا الشكل الشعري قبل أن نطلق عليه تسمية ‘قصيدة النثر’، وهنا محاولة للقول بالفرادة الخاصة…”، والشكل الذي يكتبه لم يكن مقرراً نسبه إلى قصيدة النثر، وإن كان تقصّد أن يخرج عن الوزن العربي، وجاء من خلال دراسته أولا وقراءة للشعر العربي ثانيا، “كنت أعبّر عن نفسي بصورة تلقائية من خلال هذا الشكل الشعري وأنا لا أزال على مقاعد الدرس″، فقد كان يرتاح فيه ويجد نفسه من خلاله.
وأنسي الحاج الحداثوي الذي لا يحب الوزن العربي الفراهيدي لم يكتب قصيدة نثر واحدة “إلا وفيها إيقاع″، وقصائده “تتوافر على الوزن”، يسمّيها “أوزانا غير تقليدية كما هو الحال مع بحور الخليل”، وهذه يمكن أن نسميها “أوزانا شخصية” غير أنها تبقى “أوزانا في النهاية”.
ومثلما يقول إنه كتب قصيدته النثرية قبل أن يتعرف إلى قصيدة النثر، فهو كتب قصيدة موزونة بأوزانه خاصة، لأنه تمرد على الوزن التقليدي، و”لم تكن خارج الإيقاع الموسيقي تماما، ولا هي عزوف نهائي عن الموسيقى، ولا هي ثورة تجهز على الموسيقى، وإنما هي موسيقى أخرى” سماها في ذلك الوقت “الموسيقى الداخلية”.
ومثلما ينفي صلته في البدايات بقصيدة النثر، ينفي “تأثره بالقصيدة الغربية الجديدة والفرنسية تحديدا”، و”لم أكن قرأت قصيدة نثر أجنبية واحدة”، و”عندما بدأت كتابة قصيدتي لم تكن مجلة ‘شعر’ قد وجدت بعد”، ويربط الحاج تأثيرات الآخرين بسياق خاص وتمردي أيضاً “كنت أبحث عن الكتّاب المتوترين لأنني شخص ملول جدا، لا أحب الكتابة المرتخية”.
ويذكر أنه تأثر بفؤاد سليمان وإلياس خليل زخريا وهو “شاعر وكاتب مغمور ومظلوم، وكتاباته النثرية، هي شعر، فعلا”، رغم أنه كان يرى في كتاباته تلك كتابات نثرية فحسب. باختصار ومن دون الخوض كثيرا في التفاصيل يقول أنسي الحاج “إن جذوري الشعرية والأدبية هي جذور عربية ليست لها علاقة إطلاقا بالقصيدة الأجنبية”.
وينبه أنسي الحاج إلى حقيقة أن اطلاعه على القصيدة الفرنسية الحديثة جاء بعد أن نشرتُ في مجلة “شعر” وليس قبل ذلك. “لكن الذين كتبوا عني لم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث”، يقول في حوار آخر حول علاقته بقصيدة النثر “أنا أختلف مع أدونيس في هذا الموضوع، فهو يريد أن يجد جدودًا له في الشعر العربي، وكأنه متّهم. أنا لا أشعر أني متّهم. وإذا كنت متهمًا -وقد كنت، وربما لا أزال- فأنا لا أتبرّأ من تهمة اختراع نوع أدبي لم يكن موجودًا في التراث العربي”. أنا لست في حاجة إلى أن أجد “أبًا” قبل ألف سنة لأقول أنا عربي. وهل هو عربي أكثر مني؟”.
واستدراكا في هذا المجال، في كل ما كتب من شعر موزون وغير موزون، ينبِّه الشاعر العراقي سركون بولص إلى وجوب التأني في وصف قصيدته بقصيدة نثر على وفق المفهوم الشائع، أو حتى الأكاديمي المستنبط، إن لم نقل المنسوخ عن التنظيرات الفرنسية في هذا المجال، وتحديداً لدى سوزان برنار. لهذا يؤكد أنه لا يوافق أنسي الحاج في مقدمة ديوانه “لن”(…)، ويذهب إلى ما قبل سوزان برنار. إلى ما قبل قصائد رامبو وبودلير وسواهما في الشعر الفرنسي، ويرجح النموذج الأنكلوسكسوني في البناء المقطعي، ويعلن انحيازه إلى التشطير الذي يمتلك إيقاعاً نفسياً وليس وزناً رياضياً صارماً، ويتمّ تشطيره بصرياً بما يشبه قصيدة التفعيلة، وهو أمر ظهر حتى في قصيدة النثر الفرنسية نفسها “فقبل كل هذه القصائد الفرنسية قصيدة أخرى هي قصيدة والت ويتمان المقطَّعة شعرياً ولها إيقاعها الذي ما زال يسحر الأذن، وقبله كان شكسبير الذي كتب شعراً غير موزون لكنه شعر مقطَّع″. ويرى سركون بولص أن قصيدة النثر في العربية شيء آخر، لا علاقة لها بقصيدة النثر الغربية.
من منظور سركون فإنَّ “قصيدة النثر العربية” تعاني مما يسميه “ركام الآراء والاستجابات الخاطئة التي تكونت في الماضي وما زالت تطبق على القراءة”.
وأنسي الحاج الذي “لا يحب النظريات والتنظير”، يقول “أعتقد أن شعري هو شعر شخصيّ جدا”. ويربط قصيدته بصفة الـ”لقيطة”، و”عفوية. وأخذت “المقدمة” (مقدمة لن) حيزاً كبيراً من النقاش والتعليقات، سرقت الأضواء من قصيدته نفسها، كأن قضية الاعتراف بالقصيدة وشرعنتها ثقافياً، أهمّ من القصيدة.
اعترافات أنسي الحاج تشكل تفرداً خاصا في الحوار خارج جدار الإنكار، وكان ينبغي أن يكون للاعترافات أجزاء أخرى تطال تجربة أنسي الحاج في الخواتم، والكتابة القريبة من موروث نشيد الأناشيد
والاعتراف الأقوى والأشد دلالة وعبرة لأنسي الحاج قوله “لولا صدور كتابي الأول عن دار مجلة ‘شعر’ وقد كنت أحد أركان هذه المجلة لما أخذ ‘لن’ كل هذا الدويّ”، وذلك “بحكم المناخ الذي خلفته وبحكم علاقاتها العربية”. ويزيد من توكيد قوله “هذا الكتاب المتمرد، الشرس، المشاغب، المجنون لو صدر عن شخص مفرد، دون أي رابط بجماعة أدبية معينة لكان ظلا مركونا في الزاوية”. و”هذا هو فضل مجلة ‘شعر’ عليّ وعلى جميع من عمل فيها، وهو أمر ينبغي الاعتراف به”. و”ربما لولا مجلة ‘شعر’ لكانوا اعتبروني شاعرا وجدانيا!”.
هنا هجاء التجربة ومدحها في الوقت نفسه، أو توصيف “لن” بأن أسطورته نتيجة مرحلة أو جماعة شعر، ولو كان في خارج جماعة ربما كان أهمل، وفي الوقت نفسه يصف ما كتبه أو أقدم على كتابته “لم يكتب سابقا”. يعرّي نفسه، يفكّك الأسطورة التي رسمت حول “لن”، يعرّي من أسطره، والمرحلة التي أفضت إلى تلك المقالات ويربط المجد بمجلة شعر والمناخ الذي أوجدته. لكن هذا سرعان ما يتبدد، فالشاعر يقدّم اعترافاً آخر، ربما يبدد الاعتراف الأول “إنني أثناء عملي على كتاب ‘لن’ لم يفارقني الشعور بأنني إنما أقدم على أمر خطير”.
صوت أنسي الحاج يعلو ويصعد “أتذكر أن كثيرين غيري كتبوا نصوصاً مماثلة لما نطلق عليه الآن قصيدة نثر، ويحضرني الآن اسم أحد أولئك وهو نقولا قربان الذي لا يكبرني إلا بقليل، فقد كان قربان من بين عديدين كتبوا مثل هذه النصوص ولم يفكروا إلى أي نوع أدبي تنتمي كتاباتهم”.
وقد يتساءل المرء: لماذا تركّزت الضجة على ما كتبه أنسي الحاج، رغم أن كثيرين كتبوا إلى هذا الحد أو ذاك مثل ما كتبت؟ الجواب، في رأيي، بسيط وهو أن أولئك الأشخاص الذين كتبوا نصوصهم تجنبوا الصراع على التسمية، بينما صارعت أنا ليس من أجل اعتباره شعرا، بل وقصيدة أيضا”، وهنا يعتبر أنسي الحاج أنه انتزع شرعيته انتزاعاً، هو صاحب القصيدة الأقلوية كان في مواجهة من قصيدة الأكثرية.
لقد ظل أنسي الحاج “لن” و”الرأس المقطوع″، شاعراً صدامياً تجاه جدار اللغة، ممتثلاً لمبدئه في كون الشاعر “خالق لغة”. يقول “واجهت الصنمين: صنم اللغة المحنطة وصنم الوزن التقليدي”. لكن “لن” أيضاً، دخل في دائرة التصنيم الحداثوية من قبل البعض.
باختصار، ومن دون شك، اعترافات أنسي الحاج تشكل تفرداً خاصا في الحوار خارج جدار الإنكار، وكان ينبغي أن يكون للاعترافات أجزاء أخرى تطال تجربة أنسي الحاج في الخواتم، والكتابة القريبة من موروث نشيد الأناشيد.