خالد رؤوف: عرب ويونانيون
الترجمة جسر يربط بين ثقافتين، وحبل مودة وتآلف بين مختلفين، ونافذة منفتحة على مروج المعارف وبدائع التدوين. بها ينتقل العلم من مكان إلى آخر، وعبرها تتسع المعرفة وتتنوع مذاقات الكتابة ويتمدد الخيال. وهي قرينة السلام والسمو والتقدم، منها تولد النهضة، وليس أدل على ذلك من أن بدايات مشروعات التحديث في العالم العربي بدأت بالترجمة. ولا شك أن الثقافة اليونانية واحدة من أهم الثقافات تأثيرا في الفكر العالمي، علميا، فلسفيا، وجماليا، وهي الأقرب للعرب في العالم الغربي، ربما بحكم القرب الجغرافي والتشابه الاجتماعي والتداخل المجتمعي عبر الهجرات المتبادلة. لذلك فترجمة نصوص الإبداع والفكر اليونانيين إلى العربية، وترجمة الكتابات العربية إلى اللغة اليونانية يمثل زواجا ناجحا ومثمرا يحقق مصالح الطرفين، ويفتح مسارات جديدة للثقافة العربية، وهي تكابد وتكافح الانغلاق والتطرف، والتعصب الديني. يُعدّ المصري خالد رؤوف من أهم المترجمين المتخصصين في الترجمة من اللغة اليونانية، قدم ترجمات لنحو خمسة وعشرين من الكتاب اليونانين الكبار، بينهم نيكوس كازانزاكيس، يانيس ريتسوس، ذيمتيريس ذيميترياذيس، كوزماس بوليتيس، ستراتيس تسيركاس، ثيوذوروس غريغورياذيس، بيرسا كوموتسي، بانوس يوانيذيس، وغيرهم. كما ترجم عن الإنكليزية بعض الأعمال المسرحية إلى اللغة العربية، من بينها أعمال لبرنارد شو، تينسي ويليامز، صمويل بيكت، ودراسة عن المسرح والعرض المسرحي الأفريقي لكين إيجوينو. تخرج رؤوف في جامعة أثينا، وحصل على دبلوم ترجمة ودبلوم المسرح القومي، والدراما من اليونان، كما حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة شيكاغو في تاريخ الفن الكلاسيكي (اليوناني/الروماني). ويعمل حاليًا منسقًا عامًا للنشاط الثقافي والتعليمي بمؤسسة الثقافة اليونانية ـ فرع الإسكندرية. من المهم التعرف على رؤاه وتصوراته بشأن التواصل والتشابك بين الثقافات العربية والثقافة اليونانية، لا بحثا عن المشترك فقط، وإنما هو استقراء لألوان جديدة من الإبداع، والبحث عن مسارات مستحدثة للدهشة والمتعة.
الجديد: الترجمة جسر تواصل بين الثقافات المختلفة، فمن خلالها يُمكن تبادل المنافع والرؤى الإنسانية والأفكار المُدهشة والتعرف على مواطن الجمال الفني، كما يُمكن بواسطتها غرس فكرة التعدد والاختلاف وقبول الآخر، فإلى أي مدى تتفق أو تختلف مع هذا التصور؟
خالد رؤوف: الدور الأساسي الذي تقوم به الترجمة نراه واضحاً من خلال النظرية التي تقول إن للحضارة أطواراً ومراحل، وإنّ لكلّ طور ومرحلة شعباً من الشعوب يحمل مشعل الحضارة، تماماً كما في سباق الماراثون، إذ ليس باستطاعة أيّ شعب أن يحمل هذا المشعل إلى الأبد، بل هو يأخذه من شعب سابق ويسلمه إلى شعب لاحق، يأخذ ويعطي، مستفيداً من مجمل الإنجازات التي توصلت إليها الشعوب الأخرى قبله، وناقلاً ما وصل إليه وما استطاع أن يطوره بإمكاناته الذاتية إلى ما بعده، وعملية النقل هنا تعتمد اعتماداً رئيسياً على الترجمة.
بالتالي، فالترجمة تؤسس وتجذر المعرفة التي من فضائلها فهم الآخر بشكل أعمق، من هنا يأتي قبول الآخر، فالمعرفة تمنحنا التواضع وقبول فكرة أنه ليس هناك شخص يحتكر المعرفة أو الحكمة أو الحقيقة المطلقة. كما أن التعرف على فكر الآخرين يجعلنا نرى أنفسنا من على مسافة متعقلة محايدة، فنكتسب سمة النقد الذاتي البناء أي التفكير النقدي العقلاني، وإذا سرنا في الطريق الصحيح للمعرفة والتعلم والبحث عن الحقيقة فلن نتناقش في بديهيات إنسانية مثل التعدد والاختلاف وقبول الآخر، وكل ما سبق تلعب الترجمة فيه دورًا أساسيًا.
تصحيح المسار
الجديد: إلى أي مدى يتحقق ذلك في عالمنا العربي، وما هو تقييمك لواقع الترجمة الثقافية في العالم العربي، ولماذا تتسع الترجمات من الإنكليزية والفرنسية وتقل وربما تندر في اللغات الأخرى مثل التركية، الصينية، الكورية، اليابانية، الفارسية، الأوردو، واليونانية؟
خالد رؤوف: أنا واثق أننا على الطريق، ربما في بداياته، ربما تصادفنا الكثير من العراقيل لكن لا أستطيع أن أنكر أن هناك محاولات صادقة ونية خالصة لتصحيح المسار الذي فقدناه أو تاه منا بفعل فاعل أو بأيدينا لا يهم، لكن التطور الحضاري ولاسيما الثقافي سوف يستمر. وما نصبو إليه لن يتحقق بالنيات ولكن بالسياسات الثقافية والتعليمية وكل الجهود تبقى في طور المحاولات إذ يعوزها التنسيق بين كل الجهات المعنية في كل البلدان العربية.
هذا يقودنا إلى السؤال عن اتساع الترجمات عن اللغات الكبيرة وندرتها عن اللغات الصغيرة، والأمر بالطبع خاضع لاعتبارات كثيرة، أهمها في رأيي حضور سياسات واستراتيجيات ثقافية واضحة للدول الناطقة عن الإنكليزية والفرنسية والإسبانية وتفعيلها، إذ يشغلهم كثيرًا أن تنشر لغاتهم وثقافاتهم ولذا هم يُفَعّلون هذا الانشغال والاهتمام إلى سياسات تعليمية وثقافية واضحة. وهناك لغات وثقافات وقوى أخرى بدأت تدرك الأمر وتعمل على نفس النهج، مثل الصين وتركيا، وبنظرة سريعة على الواقع الثقافي في السنوات الأخيرة على المستوى العالمي تجد لهم حضورا واسعا على المستويين الثقافي والتعليمي، أما اللغات الأخرى، وأضع العربية بينهم، تتباين أسباب ندرة الانتشار بين غياب الرؤى والسياسات والاستراتيجيات الثقافية وبين المشاكل الاقتصادية التي لا يمكن أن نغفلها أيضًا.
بصمات يونانية
الجديد: عاش الكثير من اليونانيين في المدن العربية الكبرى، مثل الإسكندرية والقاهرة وتركوا بصمات خالدة على العمارة والفن والحياة، وباعتبارك من أبناء الإسكندرية الساحلية إلى أيّ مدى تغيّرت أفكار البشر وتصوّراتهم وتطوّرت في المدينة الكبيرة باحتكاكهم بالجالية اليونانية، وما هي أبرز التأثيرات الباقية لهم؟
خالد رؤوف: اليونانيون وغيرهم من الذين عاشوا في مصر تركوا بالفعل بصمات قوية، لكن بدأ أغلبها يتلاشى مع الوقت وعدم الوعي الذي يتراكم منذ عقود، فالإسكندرية مثل أغلب المدن الساحلية المطلة على البحر المتوسط ترى البحر، وتنظر إلى أفق واسع ممتد، وهو ما ينعكس بشكل واضح على روح المدينة وأهلها وفكرهم ووعيهم، ولا شك أن هذا أمر طبيعي في رأيي.
أما عن الإسكندرية بشكل خاص فبصفتي “سكندري” (من أبناء الإسكندرية) يحب هذه المدينة، فيمكنني بكل بساطة أن أجيب بشوفينية كبيرة ربما يتميز بها “السكندريون” من فرط عشقهم للمدينة، ويمكنني أن أملأ صفحات بكلام كبير وفضفاض يُدمي حسرة ونوستالجيا عن جمال التعددية الثقافية وقبول الآخر وعظمة المكان والاحتواء والكوزموبوليتانية (تعدد الثقافات وتنوعها) العريقة العميقة وأردد كلمات للاستهلاك الذاتي المحلي، لكنه ليس حقيقيا في رأيي الشخصي، فالإسكندرية التي كانت ترى البحر منذ عقود طويلة تنظر الآن إلى الصحراء، وهذا هو مدى تغيير الأفكار والتصورات بالنسبة إلى البشر الذين يعيشون في هذه المدينة.
أما عن الجالية اليونانية فعددهم صار قليلًا جدا، وهم متقوقعون في أماكنهم، يدورون حول أنفسهم تمامًا مثل جموع المثقفين في المدينة، يحاولون الاقتراب من بعضهم البعض لكن بلا تغيير مجتمعي، وبشكل عام فإن أبرز التأثيرات الباقية للجالية هي حضورها التاريخي، وبعض المحاولات التي تتم من قبل مؤسسة الثقافة اليونانية بالإسكندرية، وهي جهة حكومية يونانية تأسست في تسعينات القرن الماضي تسعى لنشر الثقافة اليونانية وإدارة منزل كفافيس والتنسيق مع الجالية اليونانية بمصر في أنشطة ثقافية مختلفة.
تأثيرات يونانية
الجديد: الثقافة اليونانية من الثقافات القريبة من العالم العربي بحكم الجغرافيا والتاريخ، هل تلحظ تأثيرات من نوع مّا لها في الابداع الشعري العربي الحديث أو الأدبي والفكري عموما؟
خالد رؤوف: الثقافة اليونانية، هي ثقافة عالمية، وبالطبع لها تأثير على الإبداع الشعري والأدبي والفكري العالمي بشكل عام، وأكثر التأثيرات تنبع من الفكر والأدب اليوناني القديم كالفلسفة والمسرح الإغريق، أما الأدب الحديث فبالتأكيد هناك تأثير لأدباء وشعراء يونانيين من المعاصرين على الشعر والأدب العربي، ومن وجهة نظري هناك تأثير واضح على النتاج الأدبي والشعري العربي لكل من كازانتزاكيس وريتسوس وكفافيس على سبيل المثال لا الحصر.
مغادرة مصر
الجديد: تاريخيا.. ما السبب في تراجع أعداد الجاليات اليونانية في العالم العربي، وهل ساهمت الانقلابات العسكرية أولا، ومن ثم صعود التيارات الدينية في العالم العربي في توقف هجرات اليونانيين للمدن العربية، بمعنى لم تعد المجتمعات مرحبة بوجودهم ومستوعبة لهم؟
خالد رؤوف: بشكل مّا فإن تواجد الجاليات في أيّ مجتمع يرتبط ارتباطا شرطياً بالهجرة التي هي إما هجرة اقتصادية أو سياسية، وفي حالة الجاليات اليونانية فقد كانت الهجرة لأسباب اقتصادية بشكل كبير، ولا أظن أن مغادرتهم مصر على وجه الخصوص كانت لأسباب سياسية بحتة كما يحلو للبعض أن يرى أو يتحدث، فالسبب الأساسي لهجرتهم الثانية من وطنهم الثاني وعودتهم إلى اليونان أو إلى بلدان أخرى، مثل الولايات المتحدة أو أستراليا أو دول في أميركا اللاتينية، أو حتى جنوب أفريقيا، كان اقتصاديا أيضًا، من هنا فالطابع السياسي الذي تصبغ به تلك المغادرة أو مثلما يغالط الكثيرون ويسمونها تهجيرا أو إجلاء يحتاج إلى مراجعة، ففي العهد الناصري (فترة حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر) مثلا فإن التأميم كان يسري على الجميع من المصريين والأجانب، لكن الأجانب وبالأخص رجال الأعمال منهم لم يرق لهم الأمر وروجوا للأمر بعكس ذلك، وأشاعوا الرعب بين أبناء الجاليات وساعدوهم على المغادرة، وهم الذين كانوا يعملون في شركاتهم ومصانعهم، علاوة على فقدان الأجانب للكثير من الامتيازات التي كانت متاحة لهم في العهد الملكي (قبل ثورة 23 يوليو 1952). وهناك تفاصيل أكثر تظهر في دراسة لباحث يوناني متميز بعنوان “جالية جامحة.. رحيل اليونانيون عن مصر” وقمت بترجمتها مؤخرًا وسوف ستصدر قريبًا.
باب الحب
الجديد: لماذا اخترت التخصص في الثقافة واللغة اليونانية، ما الذي جذبك إليهما وحببك فيهما؟
خالد رؤوف: الاختيار جاء من باب الحب، فعشق اللغة والثقافة والأدب اليوناني وشغف الترجمة والرغبة في تقديم الأدب اليوناني الحديث للقارئ العربي دفعني دفعا للتخصص في اللغة اليونانية، وهي دون شك لغة ثرية للغاية وشعرية بالمقام الأول، غير أنها لغة المنطق كما يقول أهل اللغويات، هذا أول ما جذبني إلى هذا العالم السحري.
بوابة بيرسا كوموتسي
الجديد: هل اقتصرت معرفة اليونانيين بالأدب العربي الحديث على نتاج الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ، وأشير هنا إلى جهود الروائية والمترجمة بيرسا كوموتسي، هل توجد حركة ترجمة ومتابعة للروايات العربية لاسيما التي كتبت وصدرت بعد ثورات الربيع العربي؟
خالد رؤوف: كنت أتمنى أن أعطي إجابة مغايرة لهذا السؤال، لكن إلى حد كبير إجابتي نعم. فعلى الرغم من المجهودات الجبارة التي قامت وتقوم بها السيدة بيرسا كوموتسي التي هي بمثابة مؤسسة، إذ نقلت ما يزيد عن أربعين عنوانًا عن العربية دون أيّ دعم من أيّ جهة رسمية عربية أو غير رسمية، فإننا لا يمكن أن نتحدث عن حركة ترجمة وأدبنا لا يُدرس في الجامعات اليونانية بشكل كبير. ورغم ذلك ثمة شغف لدى القارئ اليوناني بالأدب العربي وما قدمته السيدة بيرسا كوموتسي من ترجمات، فقد قدمت كُتابا مثل طه حسين وصنع الله إبراهيم مؤخرًا، وإبراهيم عبدالمجيد، كما قدمت أيضًا مجموعة من الشعراء الشباب من العالم العربي في أنطولوجيا شعرية لاقت نجاحًا واستحسانًا لدى القارئ اليوناني، كما حازت على جائزة جمعية الكتّاب والمترجمين اليونانية. والأمر ليس مرتبطا فقط بما بعد ما يسمى “بالربيع العربي”، لكن بما نريد أن يترجم عنا إلى لغات أخرى، وإذا ما كنا ندعم هذا كدول ونطرح ونرشح الأعمال التي تستحق ونطرح على العالم أدبنا وشعرنا وثقافتنا، أم لا.
محفوظ باليونانية
الجديد: إلى أيّ مدى أثّر نجيب محفوظ في حركة الأدب اليوناني المعاصر، وما سرّ الافتتان الشديد بإبداعه؟
خالد رؤوف: بالطبع نجيب محفوظ عالمي، وتأثيره في نفوس القراء قوي على مستوى العالم، وهذا شأن أيّ كاتب عالمي، في حجم محفوظ وكازانتزاكيس وكامو وتولستوي إلخ.. فالكاتب الحقيقي يمس البشر على اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم هذه هي الحقيقية أو السرّ إن شئت. وأعتقد أن هناك تأثيرا ما بين بعض الكتاب الشباب في اليونان بعالم محفوظ لكنه لم يرتق بعد لأن يصبح ظاهرة، والأمر يحتاج إلى وقت كي يُدرس أو ينظر إليه.
لا شرقية ولا غربية
الجديد: قمت بترجمة رواية “ألف عاشق وعاشق” للروائي اليوناني جريجور ياذيس، وتضمنت السؤال الملحّ ما إذا كانت أثينا مدينة شرقية أم غربية؟ بعيدا عن طرح الرواية نفسها، ما تصورك أنت وقد عشت فيها عقداً من الزمن؟
خالد رؤوف: أثينا بالنسبة إليّ مدينة عريقة وتاريخية ومن أكثر المدن التي أحبها في العالم، وهي لا شرقية ولا غربية كحال اليونان ذاته ليس بلدا شرقيا ولا غربيا، اليونان وهذا يكفي، كانت وبعدها جاءت أوروبا بشرقها وغربها، هكذا هي حتى الآن، المدينة التي تحمل عبق التاريخ وثقله وتسير به متطلعة نحو مستقبل هو بالتأكيد مشرق لكل المدن التي تحارب الموت منذ قرون ولا تزال باقية.
ترجمة كازانتزاكيس
الجديد: ترجمت رواية “زوربا” لكازنتزاكس إلى اللغة العربية، رغم وجود ترجمات عديدة سابقة، ما الذي دعاك لإعادة الترجمة مرة أخرى، أهي عيوب كانت في النسخ السابقة، وكيف يمكن للقارئ غير الملم بلغة العمل المترجم أن يعرف الفارق بين ترجمة وأخرى؟
خالد رؤوف: كان ولا يزال لديّ حُلم بترجمة أعمال كازانتزاكيس عن اللغة الأصلية، لأن الترجمة عن اللغة الأصلية تختلف كثيرًا، وهي أصل الترجمة لأنها تنقل عن اللغة الأصلية عبق اللغة والثقافة، والمترجم لا يترجم ولا ينقل من لغة إلى لغة، وإنما ينقل المترجم ثقافة كاملة، لذا فيجب أن يكون ملمًا بالثقافتين مثلما يُلم باللغتين المصدر والهدف حتى يتسنى له أن يقدم فكر الكاتب كاملًا في بيئة أخرى. وهذا بالضبط ما دعاني لإعادة ترجمة أعمال كازانتزاكيس عن اليونانية مباشرة، فقد قرأت ترجمات عديدة للأدب اليوناني ولكتاب وشعراء يونانيين مبكرا، لكن عندما قرأت ذات الأعمال باللغة الأصلية أصابتني صدمة كبيرة، فالبون واسع بين الأصل والنسخة المترجمة.
الجديد: لماذا في ظنك حملت شخصية “زوربا” كل هذا التأثير في أجيال من المبدعين العرب؟
خالد رؤوف: أعتقد أن هذا التأثير الذي تتحدث عنه ليس في شخصية زوربا الروائية، وإن كان بها من الحقيقة كما يقول كازانتزاكيس نفسه، لكنه تأثير كاتب ومفكر وفيلسوف بعظمة نيكوس كازانتزاكيس الذي استطاع أن ينقل فكره الحر عبر شخصية متحررة من كل أعباء الزمن والنفس البشرية وحب الحياة، وأعتقد أن فكر كازانتزاكيس وشخصية زوربا لهما كل هذا التأثير ليس فقط على أجيال المبدعين من العرب ولكن على بشر كثيرين حول العالم.
كافافي عن الأصل
الجديد: يمثل الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس الذي عاش وتوفي بمصر رافدا عظيما من روافد التلاقي الثقافي والإبداعي بين اليونان والعالم العربي، وقد ترجمت أشعاره إلى العربية ثلاث ترجمات على الأقل، الأولى لنعيم عطية، والثانية لسعدي يوسف، والثالثة للشاعر رفعت سلام، كيف تُقيّم هذه الترجمات وإلى أيّ مدى تتغير المعاني والصور بين ترجمة مترجم، وترجمة شاعر، ولمن تنتصر، ولماذا؟ وهل الترجمة تستلزم النقل الدقيق للكلام أم يُمكن اعادة التعبير عن النص بكلمات أقرب للبيئة المترجم إليها، وهل أنت مع ترجمة الشعر عبر لغة ثالثة كما فعل سعدي يوسف الذي ترجم مختارات لكافافيس عن الإنكليزية؟
خالد رؤوف: بالتأكيد كفافيس شاعر عظيم وعالمي ويسعدني دائمًا وصفه بالسكندري في كل المحافل العالمية، أنا شخصيًا مع تعدد الترجمات وبخاصة عندما نكون بصدد شاعر أو كاتب عالمي، لأن الأمر يصبّ في مصلحة القارئ والمعرفة دومًا وأرى أن كل الأعمال الكلاسيكية العالمية الهامة يجب أن تترجم مرة أخرى، على الأقل مرة كل عقد أو عقدين، لأن اللغة الهدف في حد ذاتها تتغير كما أن فهمنا واستيعابنا يتطور، فمن الرائع أن نرى كيف يستقبل تطور اللغة الهدف وتطورنا واستيعابنا هذه النصوص الرائعة.
والأصل كما ذكرت بالنسبة إليّ هو الترجمة عن اللغة الأصلية ولا أحب تقييم أعمال المترجمين بشكل عام، لكن بما أن هناك نُدرة في المترجمين عن اليونانية فأنا أقرأ كل ما يُطرح، إنني أحب بالطبع وأرشح دائمًا ترجمة د. نعيم عطية، لأنها الأدق والأهم في وجهة نظري، كما أحترم كثيرًا ترجمة الشاعر الكبير والمترجم الراحل رفعت سلام، لأنه شاعر فذ فقد نقل شيئا من عذوبة كفافيس وشعريته وعكف على دراسته وترجمته لعدة سنوات.
وهناك ترجمات لكتاب أو شعراء أشعر فيها أنهم يعيدون إنتاج أنفسهم من خلال اسم أو عالم شاعر آخر كبير. وهنا فإنني أكرر بأن الأصل هو الترجمة عن اللغة الأصلية وإلمام المترجم باللغة والثقافة المصدر، وإذا كنا نتحدث عن الشعر فالأمر هنا يحمل أهمية أكبر.
لغتان يونانيتان
الجديد: إلى أيّ مدى تغيرت اللغة الأدبية المستخدمة في اليونان في الأعمال الحديثة عن تلك الشائعة في الكلاسيكيات؟
خالد رؤوف: هي لغة أخرى لها نفس الحروف والجذور. فاللغة اليونانية القديمة، لغة الكلاسيكيات تطورت وتغيرت عبر العصور إلى أن وصلنا إلى اللغة اليونانية الحديثة التي كانت هي لغة الشعب لسنوات وقد كانت لديهم ورطة الفصحى والعامية، إلا أنهم استقروا أخيرًا على توحيد اللغة التي تكتب ويتحدثون بها اليوم. وبالطبع فبالنسبة إلى المترجم هو أمر محمود جدًا أن يكون على دراية بجذور اللغة القديمة لأنها الأصل، والأمر هنا أشبه بلغة الشعر الجاهلي (اليوناني القديم) على سبيل المثال والعامية التي يتحدثها اليوناني الحديث.
جسر الترجمة
الجديد: كيف يمكن مد المزيد من جسور التواصل والتلاقي بين الثقافات العربية وثقافة اليونان، وإلى أيّ مدى يمكن الاستفادة من ذلك في مواجهة النكوص الفكري والاجتماعي الذي يعاند سنن التطور والانتقال بالمجتمعات نحو الحداثة؟
خالد رؤوف: الترجمة كانت وما تزال الوسيلة الأهم لتحقيق ذلك التواصل بين الشعوب، فمنذ عرف الإنسان الأبجدية محققاً بذلك قفزة تاريخية في مضمار التطور، ومنذ بدأ يكتب ما يعرفه ويدوّن تاريخه وأفكاره كانت الترجمة بمثابة الرديف المباشر لذلك التطور، فالبشر سلسلة متصلة الحلقات رابطتها اللغة وقوام تلك الرابطة هو الترجمة.
والترجمة محرّض ثقافي بالضرورة، كما أنها تجسّر الهوة القائمة بين الشعوب الأرفع حضارة والشعوب الأدنى حضارة وهي الوسيلة الأساسية للتعريف بالعلوم والتكنولوجيا وهي العنصر الأساسي في عملية التربية والتعليم، وهي الأداة التي يمكننا بها مواكبة الحركة الفكرية والثقافية في العالم، وهي أيضًا وسيلة لإثراء اللغة وتطويرها وعصرنتها. الترجمة هي عنصر أساسي فيما يسمى بالتواصل الثقافي، كما أن للترجمة دورا هاما في تطوير الأجناس الأدبية ولاسيما في الثقافة العربية في الشعر والقصة والرواية والمسرح.
بالتالي فالترجمة تعد حاجة ملحة لمواكبة التقدم الحضاري والخروج من النكوص الفكري والتأخر الذي يضرب أركان أمتنا العربية. فكيف يحدث هذا؟ يجب أن تكون لدينا رؤية واضحة لما نريد أن نكون عليه مستقبلًا ومن ثم إرساء سياسات ثقافية فعَالة للوصول إلى هدفنا.
الجديد: ترجمت “جيران العالم” للشاعر يانيس ريتسوس إلى العربية مباشرة من اليونانية، هل ترجمة الشعر تستلزم بخلاف إتقان الترجمة ذائقة شعرية؟ وهل يمكن لأيّ مترجم اكتسابها؟
خالد رؤوف: لا أدري إذا كان يمكن لأحد اكتسابها إن لم تكن لديه بالفعل، ما أثق به هو أنه يتحتم على المترجم أن يتدرب ويطور من أدواته بشكل مستمر.
ذائقة المترجم
الجديد: باعتبارك من المترجمين المحترفين، ما الذي يرشح عملا مّا للترجمة، وهل هناك محددات ترجح كفة عمل عن آخر، وبمعنى أوضح كيف تختار عملا بعينه لتترجمه من اليونانية إلى العربية؟ هل تضع في حساباتك كونه مناسبا للعقلية العربية أم أنك تطرح العمل بسبب إبداعيته بغض النظر عن أيّ مسائل أخرى؟
خالد رؤوف: لا أضع في الاعتبار أيّ شيء سوى اقتناعي بأن العمل جيد وهام ويعد إضافة إلى المكتبة العربية والقارئ العربي. وبالطبع هناك ثلاثة أنواع من الترجمة، ما يحبه ويختاره المترجم، وما يرى المترجم أن له أهمية ليقدم للقارئ، وما قد يرشحه الناشر أو يكلف به المترجم. وفي حالتي يبقى المعيار واحدا في كل الأحوال، وهو اقتناعي الشخصي بالعمل.
تنسيق عربي
الجديد: كيف ترى مؤسسات الترجمة الحكومية في العالم العربي، وما هي أوجه قصورها؟ وكيف يمكن تطوير عملها؟
خالد رؤوف: كل المؤسسات الحكومية تحاول بذل جهد في هذا الصدد، لكن تغييب الرؤية التي إن وجدت يعوزها التنسيق بين كل الجهات، ولا أتحدث عن التنسيق بين الجهات في بلد مّا، إذ أنني أرى أن التنسيق بين الجهات والمؤسسات المعنية بالترجمة وبالثقافة العربية بشكل عام يجب أن يكون على مستوى البلاد العربية.
أفق يوناني عربي
الجديد: هل يمكن الحديث عن بدايات حركة ترجمة من اليونانية وإليها، ومن هم المترجمون والمترجمات الذين يشتغلون اليوم في هذا الحقل، وهل تظن أن هناك ضرورة اليوم لتكون لهم جمعية، أو مانيفستو يجمعهم، أو ندوة أو مؤتمر بما يمكن أن يتيح خطوات أبعد ويجعل جسر العلاقة بين العرب واليونان والحركة عليه أكثر نشاطا وديمومة؟
خالد رؤوف: المحاولات كانت دائمًا فردية. فعن العربية لليونانية أهم تجربة هي تجربة الكاتبة والمترجمة اليونانية الكبيرة ابنة القاهرة بيرسا كوموتسي، وكل ما سبقها كانت محاولات قليلة للغاية وكلها عن لغات وسيطة أغلبها عن اللغة الإنكليزية ولم تلق رواجًا كبيرًا. وعن اليونانية إلى العربية بدأت في أوائل تسعينات القرن الفائت بدعم من “أبي الدبلوماسية الثقافية اليونانية” الشاعر والملحق الثقافي آنذاك كوستيس موسكوف والدكتور نعيم عطية ومن بعده صمويل بشارة ويانيس ميلاخرينوذيس في تجارب معدودة والدكتور حمدي إبراهيم.
الآن أيضًا، تظل المحاولات الفردية والجهود الكبيرة من مترجمين لا ترتقي لتكون حركة ترجمة من اليونانية وإليها، ففي اليونان هناك بيرسا كوموتسي التي تترجم عن العربية مباشرة وتحدثنا عمَّ تبذله من جهود أغلبها دون مقابل سوى شغفها وعشقها للأدب والثقافة العربية.
وأنا على وشك فقدان الأمل في تكوين أيّ جمعية أو نقابة للمترجمين بشكل عام على المستوى المحلي. أما أن يكون هناك كيان للمترجمين بين الثقافتين اليونانية والعربية فهناك محاولات في الآونة الأخير بمبادرة من بيرسا كوموتسي التي أسست مركزا للثقافة والأدب اليوناني والعربي، ونستطيع من خلاله أن نرسم بعض الرؤى ونعمل ونحلم بأنه يومًا مّا سوف يحدث شيء مختلف عمّا نعيشه الآن في واقعنا الثقافي اليوناني – العربي.
وتقام بين الحين والآخر مؤتمرات وندوات تخرج بتوصيات تبقى في حيز التوصيات ولا تفعل أبدًا، ومرة أخرى يجب أن تكون هناك رؤية واستراتيجية واضحة لتكوين جسور علاقات بين العرب واليونان وكل الثقافات الأخرى، وتنسيق على مستوى رفيع بين كل الجهات المعنية وإلا سنظل نتحدث ونتحدث لسنوات قادمة في الشأن نفسه.