خبيرة شائعات
حصلت أخيراً على وظيفة جديدة، محترمة وعلى درجة من الأهمية. الأهمية تكمن في حصولي على وظيفة في وقت قياسي أقل قليلاً من ثلاثة أيام وأكثر من إغفاءة قيلولة مزعجة، مع أن معظم الوظائف التي خسرتها في الماضي كنت حصلت عليها بشق الأنفس. ثم مرّت السنين فتحولت إلى أحلام غير مكتملة تزورني جميعها مرة واحدة في الشهر، تطلعني على أطرافها المبتورة وزواياها المهترئة قبل أن تزوّدني بصورها الأخيرة بعد بلوغها سن التقاعد القانونية، ثم تذهب للنوم. حالماً تغط الوظائف القديمة في نومها، يحين دوري فأستيقظ في ساعات الفجر الأولى عندما أكون خالية من العمل الذي يدرّ مالاً. أقطع الوقت بالقلق واليأس وتسويد بيانات شخصية للتقديم لوظيفة جديدة.
بالأمس، حصلت مصادفة على عرض يبدو جيداً؛ خبيرة شائعات، هكذا ظهرت شروط العمل المطلوبة:
“خبرة لا تقل عن عشر سنوات في محاربة الشائعات، القدرة على التمييز بين الشائعات الرمادية والسوداء، الاستعداد للعمل في ساعات إضافية خاصة بعد منتصف الليل، ولمزيد من الحوافز تتطلب مهام الوظيفة كتمان الأسرار، التوقف عن الضحك أثناء العمل والامتناع عن شرب القهوة والسجائر”!.
لم يشترط أصحاب العمل سنّا معينة أو لون بشرة محددا ويبدو أنهم لا يهتمون كثيراً بالمظهر الخارجي؛ فالظرف العام في هذه الأيام يسمح بالعمل من المنزل. أغلب الأعمال المنزلية تسمح بالضحك والشاي والقهوة والسجائر وحتى الرقص والتخلص من بعض قطع الملابس، لكن هذه الوظيفة الجديدة تبدو صعبة المراس عدا أنها تتطلب رأساً صالحة للتفكير والمراوغة وهذا أمر عسير، فحجرات رأسي مليئة بالأفكار القديمة وبعض التجارب غير المكتملة وهي أيضاً كانت وما زالت مرتعاً خصباً لذكريات مزعجة وهفوات والكثير من سوء التفاهم.
بدأت قبل ساعات في محاولات جادة لتنظيم إحدى الحجرات الواسعة في رأسي وتعفيرها من الغبار وإزاحة الأثاث المتهالك منها، سأحاول أيضاً أن أعرّضها قليلاً للشمس كي تبدو غرفة مناسبة للتفكير في متطلبات الوظيفة الجديدة؛ ستتسع بالتأكيد لعدد كبير من الشائعات الرمادية ولحظات اليقين القصيرة وربما يصح لي شراء جهاز افتراضي أستطيع أن أضعه في إحدى زوايا هذه الغرفة لغرض التقاط ذبذبات الشائعات التي تتجول في الصحف ونشرات الأخبار، وتدور على ألسنة بعض المارة والمتسوقين الحذرين في الشوارع الموبوءة.
عدد كبير من الشائعات هذه الأيام يبدو رمادياً، حتى تلك التي ترتدي كمامة بفتحات تهوية جانبية، أما الشائعات التي تستعين بالقفازات في لمس الأسطح المصابة بالفايروسات فلا تمتلك لوناً محدداً، فهي تتقلب بين الألوان صباحاً ومساءً ولهذا تبدو مهمتي شبه مستحيلة.
سأبدأ العمل مساء الغد في أول شفت مسائي، جهزت بيجاما مناسبة ذات خطوط بيضاء رفيعة ومقلمة على خلفية بالأزرق الفاتح.. هذا لوني المفضل وهو مناسب تماماً لبداية من هذا النوع، أيضاً سأجهز أبريق قهوة وأضعه برفق تحت الطاولة إلى الجدار قليلاً وأغطيه بطرف الستارة، أما علبة السجائر فيمكنها الاختباء مؤقتاً في محلها المعتاد قرب نافذة المطبخ ولن يتمكن أصحاب العمل من التقاط نفثات الدخان إذا ما فكرت بتجريب سيجارة بين شائعة وأخرى، فهي بعيدة تماماً عن مكان عملي حيث أضع جهاز الكمبيوتر على الطاولة في غرفة نومي في الطابق العلوي.
اصطياد الشائعات لن يتطلب وقتاً طويلاً؛ إذا ستكون واحدة كبيرة الحجم وثقيلة بانتظاري حتماً في نشرة أخبار التاسعة؛ الشائعة التي تقول بأن الحياة بعد كورونا لا تشبه الحياة قبل كورونا، هذه الشائعة الغبية التي بدأ المجتمع السفسطائي بترديدها منذ وقت قصير.. على الأغلب هي أشبه بالنكتة، فحياة أغلب الناس لن تتبدل كثيراً، إذ ما زال قليل الحيلة يموت ويفلس ويخسر وظيفته ويتعثر في سداد ديونه ويراقب أحلامه وهي تموت بطيئاً تماماً كما هو الأمر في السابق.
لم يفعل كورونا شيئاً إضافيا سوى تحريك شريط حياة الناس بصورة أسرع، مثل بكرة فيلم رديء الصنع، سيصدر الشريط أصواتاً نشازا وربما يحدث شرخاً في الوسط أثناء الإعادة لكن في النهاية، في الوقت المناسب، سيتمزق الشريط إلى قطع كثيرة يصعب تجميعها ثانية.
ما زلت في ساعات الليل الأولى من يوم عملي الأول، لم أتناول سوى ثلاثة فناجين من القهوة ونصف سيجارة، ألوان البيجامة الفاترة تدفعني للتثاؤب ورائحة الشائعة التي التقطتها تواً من الشباك كانت قوية جداً، تسببت في خمس عطسات متواصلة. كنت أغطي أنفي كي لا يلاحظ صاحب العمل بأني على وشك أن أمرض وأنا ما زلت في يومي الأول، هذا فأل سيء وسيعجّل بتسريحي من الوظيفة حتى دون مبلغ مكافأة مناسبة.
تسببت شائعة أخرى في احمرار أنفي بصورة فظيعة. صرت أفركه بين لحظة وأخرى وأصرف المناديل الورقية طوال ساعات العمل حتى الصباح، وعندما توقفت أخيراً، حصلت على ثلاث شائعات بألوان مختلفة؛ واحدة خضراء تقول إن الصيف سيقتل الفايروس، وأخرى رمادية مراوغة تقول إنه لا لقاح لهذا المرض في الوقت الحاضر وربما إلى أبد الآبدين. أما الشائعة السوداء التي حصلت عليها بعد أن أبعدت أبريق القهوة عن النافذة، فكانت تقول: لا تصدق حكاية بعيدة المنال، بيجاما زرقاء بأقلام رفيعة لا تصلح زياً لعمل محترم، والحياة قبل كورونا هي بالتأكيد مثل الحياة بعد كورونا.