خزان الذكريات

الاثنين 2021/03/01
لوحة: وليد نظمي

ذات ظهيرة

قررت ذات ظهيرة أن أغلق هاتفي المحمول، وأغلق التلفزيون، وأطفئ الأضواء، ثم أدخل إلى خزان الذكريات. تذكرت لحظة الولادة، مهلاً، ما سمعته منذ وعيت الحياة عن لحظة ولادتي، كانوا يخططون لسحب الحياة من المولودة، إلا أن الأمومة انتصرت، ثم تذكرت مرحلة الشباب الأولى، محوت كل الذكريات إلا ذكرى الحب الأولى عصت علي، احتفظت بها وقلت لا بأس.

انتقلت إلى طبقة الشباب التي تزهر بذكريات كثيرة، محوتها، لكن ذكرياتي مع الصديقات لا تقبل قراري المتهور، فظلت قابعة في مكانها، تركتها وانتقلت إلى طبقة أخرى من ذكريات عمري، فتذكرت مرحلة الابتعاد عن الوطن، فرحت قليلاً، إلا أنني عدت إلى ذاتي فوجدت عقلي يمحو كثيراً من ذكرياتي الخاصة، أخذ يمحو مرحلة رسائل الحب، الذي لم يكن حبا، ما أعظمك يا عقلي، بالفعل أنا مزقتها يوماً ما عندما أدركت عقمها. إلى أن يسير بي عقلي، أريد خزان الذكريات. أريده مليئاً مكتظاً بالحياة، ألقها وفشلها، لكن عقلي يمحو فشلها، ويحتفظ بحلوها، دخلت إلى دهليز الكهولة، أيّ كهولة يا فتاة!

كهلت وأنا في الثلاثين، ولا أريد إلا أن يروني كهلة ودّعت الشباب مبكراً، ها هنا نزف الخزان وأبرق وأرعد وأحتج وأوصد المزلاج ليمنع تدفق الذكريات! أدركتُ لحظتئذٍ أنني لست أنا، أنا هي التي ليست أنا.

كابوس النوم

 موت مؤقت يجتاحني ليلياً عند منتصف الليل، أدخل في صراع خفي مع الحياة، لكن الموت يغشاني بعد دقائق، أذهب بعيداً في غفوتي وأراقب انتظام تنفسي، أغوص عميقاً في اللاوعي وأنهاه عن تذكر ما جرى، أنجح أحياناً وأخفق مرات قليلة، لا أرغب في محاسبة الذات، فما حصل قد حصل، ولا مجال لإعادة الزمن. الزمن عذبني كثيراً فيما ما مضى، لكنني هزمته بالتغاضي، فقد اكتشفت متأخرة أن الزمن عدوّ الإنسان الأول، يتسرب من بين أناملنا هنيهة هنيهة، دون أن ندرك خطورة الهنيهات الذاهبة إلى العدم. قررت ذات موت أن أهزم ما جرى في لحظات الحياة المنصرمة، وهكذا كان، وعقدت سلاماً مع خلايا النسيان الرائعة التي تتخفى في المخ، آه من المخ، هو المايسترو الذي ينظم لنا ما نحن فيه، لكنه يخطئ عندما يحاسبنا في غفلةٍ من غفلاتنا على زلاتنا. أدّبتُ مخي وأنبته على أفعالة الغريبة، ونهرته أكثر من مرة أن يكفّ عن عد الهفوات، وتذكيري بها كلما حاولتُ أن أغفو غفوتي اليومية عند منتصف الليل، ليلي أنا لي وحدي، هي الساعات الوحيدة التي تخصني، لهذا لا أريد ولا أرغب أن يتفضل السيد المخ ويذكرني بما مضى من يومي، لهذا أعلنت التمرد عليه وحشرته في زاوية النسيان البديعة لأموت ساعات معدودة، أعود بعدها لكابوس الحياة.

كابوس الجوع

جعت لفكرة تملأ عقلي بالشبع، بحثت في تلافيف الدماغ “تلفيفة تلفيفة”، فلم أهتدِ لواحدة، قلت لذاتي: لنشبع جوع الجسد ليستيقظ شبع الفكر، بعد لأي أمتدّ لثوانٍ فلكية، هبطت الفكرة من عليائها وحطت في محطة العقل، فقال العقل للجسد. أيها الصافي، لماذا تتغول على أبيك خالقك القادر على إلغائك ساعة يريد، تبسم الجسد باستهزاء على تعالي العقل، ليذكره أنه لولا مرور تلك الشرايين بالغذاء اللازم إليك لما انتعشت ذاكراتك، لماذا تتعالى على من وهبك الحياة؟

انتفض العقل ولم يرضَ بهذه الإهانة الجسدية الخبيثة، وذكّر الجسد الفاني: أنا من يمنح قلبك القدرة على النبض، ولولا أوامري المتشددة لما استطاعت شرايينك الهشة حمل الغذاء إليّ. أنا من يجعلك تحسّ بالجوع والشبع والعطش والارتواء، أنا ربك الأعلى، أنا المسيطر مانح الأوامر والنواهي، أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، أنا القادر على إنشاد الشعر ومنحك الرغبة في الحب، أنا من يأمرك أن تكره جارك أو تمنح حبل الود له. اهدأ أيها الفاني، الأخرق الذي يقع إذا هبط السكر في دمه. ذُهل الجسد وخاف على نفسه من جبروت الدماغ، فوضع يده على جبينه وصاح: سمعاً وطاعة يا دماغي، أرجوك ارحمني وامنحني نعمة الشبع والارتواء، ولا تخذلني في طريقي وأنا أبحث عن فكرة تنقذني من الاستعباد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.