خيري الذهبي حكاية دِمشق
ما بين حضارةٍ عريقة ووقائع راهنة دامية يُمكن للعمل السردي أن يضع تساؤلاته حول إشكالية التحولات والتبدُّلات، عن أزمة النكوص الحضاري والفكري، تصير الرواية حينئذٍ ضميرًا يُلهبه سؤال المصير والمآل بعدما تشرُع في دراسة وفحص التاريخ بُغية استنطاقه عن المآلات الراهنة وسؤاله عن آفاق مستقبل غائم، تستطيع الرواية آنذاك أن تُشكِّل مشروعًا فكريًا متكامل الأركان لاسيّما حينما يمتلك كاتبها ذلك الوعي الفني والفكري، وتلك التجربة الإبداعية الراسخة، وهو ما استطاع الروائي السوري خيري الذهبي تحقيقه عبر رحلة روائية امتدت لما يربو عن نصف قرن.
منذ روايته الأولى “ملكوت البسطاء” التي نُشِرت في السبعينات وحتى اللحظة الراهنة، يُقدِّم الذهبي عبر أعماله الروائية فضلًا عن الأعمال الدرامية البارزة التي كتب لها السيناريو، بانوراما لبلده سوريا وتحوّلاتها ومُشكلاتها المُستعصيّة، ورغم رفضه المُستمِر والمُتكرّر من أن تُوصف رواياته بأنها “تاريخية”، فقد تمكّن الذهبي عبر تنقيبه في التاريخ السوري واستيعابه لمُعطيات الواقع الراهن من أن يُقدِّم حكاية دمشق خلال قرن من الزمان، لاسيّما في ثلاثية “التحولات”، وفي خِضم الحكاية السوريّة يحضر البحث عن الهُوية المُستلبة والحضارة المنهوبة والسؤال عن الخنوع للاستبداد والارتكان للضعف، تساؤلات عدة قدّمها الذهبي عبر أعماله الروائية التي جاء أحدثها بعنوان “المكتبة السريّة والجنرال” ليُقدم فيها رؤيته لما حدث في وطنه سوريا خلال السنوات العشر الأخيرة.
تلك المسيرة الروائية الثريّة بما تطرحه من إشكاليات وقضايا على المستوى الفكري والفني كانت محورًا لهذا الحوار مع الذهبي في “الجديد” لاسيّما بعد أن نال مؤخرًا جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات عن كتابه “من دمشق إلى حيفا.. 300 يوم في الأسر الإسرائيلي” الذي كتبه بعد فوات ما يقرب من نصف قرن على تجربته في السجون الإسرائيلية، والذي يُقدِّم من خلاله صورة للفِكر الإسرائيلي أثناء الحرب الحاسمة بين العرب وإسرائيل؛ حرب أكتوبر/ تشرين الأول.
الجديد: تحمل العديد من أعمالك همًّا وسؤالًا حول علاقة المثقف والثقافة بالسلطة، في “المكتبة السريّة والجنرال” تُبنى الحبكة حول محاولات السُلطة استلاب الذاكرة والثقافة الأصيلة للشعب، وفي”صبوات ياسين” يأتي البطل المُثقف مشتتًا بين الإخلاص لمبادئه أو الاستجابة للسلطة، وفي “ليال عربية” هناك المثقف المنعزل والمهزوم.. كيف تشكّل لديك هذا الهم؟
خيري الذهبي: المثقف لا نيّة لديه مطلقاً إلا أن يكون مرآة لشعبه وهموم شعبه، نجد ذلك جلياً في كتابات الكُتَّاب الأوروبيين واللاتينيين والسوفييت… إلخ، فالمناخ العام الذي يعيش فيه الكاتب هو الذي يحدد قضاياه المُلِحّة والمصيرية في الكتابة. في “بلدان الموز العربية” أيّ شخص يفكر أكثر مما ينبغي خارج إطار كلمة “نعم” سيصطدم بقوة بجدار هيمنة الدولة الشمولية، سواء كان أستاذ جامعة أو عالما أو طبيبا أو لاعب كرة قدم، فما بالك بمثقف يقرأ معطيات التاريخ ويحلل الواقع ويبحث في آليات إنقاذ شعبه مما وقع فيه، الكاتب بشكل أو بآخر شاهد على عصره، ينقل نبض الناس وانكسارات الأمة ويُفلسِف وجهة نظره لتصبح وجهة نظر جمعية، وليست فردية، لذلك لا يمكن أن يكون الكاتب منفصلاً عن الأزمة الأولية التي يصاب بها وهي وعي المثقف وعجزه أمام السلطة، لاحظي تجارب الكتاب السوفييت وتجارب الكتاب الأميركيين في نفس الفترة التاريخية، سنجد اختلافاً هائلاً في المواضيع والهموم، فحين نرى رواية “المعلم ومارغريتا” لبولغاكوف المترعة بالرمزية ومناهضة القمع والاستبداد، سنرى مسرح آرثر ميلر وكتابات وليم فولكنر الغارقة في الواقعية الاجتماعية.
في بلداننا أتمنّى لو كنت أكتب عن مجتمع صحيح ومعافى وعن قضايا واقعية ذات تخييل كبير، ولكن كتب علينا تحرير المثقف قبل تحرير كتاباته، لذلك كان التركيز على المثقف كرافعة للعمل الإبداعي قبل إكمال التجربة في الأعمال اللاحقة في تعرية مشاكل المجتمع والأمة.
الحضارة السورية
الجديد: تُرسِّخ كتاباتك لتحولات وطنك سورية خلال خمسين عامًا لاسيّما في رواية “لو لم يكن اسمها فاطمة”، أيضًا ثلاثية التحولات: “حسيبة”، “فياض”، “هشام” نجد السؤال المؤرق عن تلك الحضارة القديمة التي انزوت وتوقفت عن العطاء.. ما الإشكالية الرئيسة برأيك التي تحكم الأزمة السورية تاريخيًا وحتى اللحظة الراهنة؟ كيف يمكن إعادة تلك الحضارة الأصيلة إلى رونقها من جديد؟
خيري الذهبي: مشكلة سوريا الطبيعية، أو بلاد الشام عموماً، والتي ورثتها بعد تقسيم سايكس بيكو، ما سميت لاحقاً بالجمهورية السورية، هي أنها كانت ممراً لصراع الأمم التي تعيش في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، سوريا الطبيعية بلد أنجب حضارات للعالم، أمّة كانت ممن أسهم في تكوين البشرية الأول، ولكن موقعها الجيوسياسي جعلها ساحة للصراع بين الفرس والروم والأناضول ومصر، ولعل تجربة دولة تدمر تدلل الكثير عن الحلم السوري، ولكن الأمة السورية لا تملك من مقومات الأمة/الدولة شيئاً، حدودها غير مُدرَكة مثل مصر أو الجزيرة العربية أو فارس، فيها تعدد عرقي ولغوي وثقافي وديني هائل، لذلك كانت كل تجارب الدول التي نهضت فيها تنتهي على يد الغزاة من جيرانها فيهدمون كل ما بناه السوريون، ولعل الصراع هذا يمتد حتى يومنا، ولا حل لتلك الأزمة إلا بالمواطنة والديمقراطية التي ستحمي حقوق الإنسان السوري وتشجعه على أن يسهم في بناء بلده بعد عقود من التهميش باسم القومية وشعارات لا دخل للسوريين بها، مغامرات القادة السياسيين الذين أودت بالبلاد إلى المجهول.
في رواية التحولات تحدثت عن ثيمة أساسية، ثيمة فلسفية وفكرية كانت نتاج تأمل وتمحيص في الحال السوري، فنحن في سوريا نعيش في مدن الواحات، أي تلك المدن التي نقضي عمرنا في الارتحال إليها وما هي إلا سراب، مدائن متفرقة متباعدة، ولننتبه إلى أن اسم الثلاثية الأساسي هو التحولات، تلك الكلمة المنحولة من الكلمة الإغريقية “ميتامورفوسيس” أي التناسخات، ببساطة الحضارة العربية المحلية كانت تتناسخ من بعضها البعض دون أيّ تجديد، أو تقدّم أو ولادة حقيقية جديدة، فأوروبا خرجت من الحضارة الإغريقية ومن الرومانية ومن العصور الوسطى الدينية ودخلت في ثورة حقوق الإنسان ومن ثم الثورة الصناعية والتكنولوجية وانتقلت إلى مرحلة جديدة بظهور أميركا، أما الحضارة العربية فقد دخلت المجمدة العثمانية، وبقيت هناك دون أيّ حراك مئات السنين، وأنا هنا ألوم شعوبنا على سلبيتهم، وعدم إدراكهم لأهمية الزمن والبقاء في خزائن التاريخ.
أمّتنا لن تتقدم إلا حينما ننسى أننا أبناء حضارة عريقة ونقف أمام مستقبلنا بكل وضوح، كفانا تباهيا بتاريخ أجدادنا ولنحاول لمرة واحد صناعة مستقبلنا ومواجهة حاضرنا، ولن يتحقّق ذلك برأيي إلا بدولة المواطنة المدنية التي تفصل الدين عن الدولة وتنتج تلقائياً ديمقراطية تحمي الناس وطموحات الناس، في رواية “لو لم يكن اسمها فاطمة” كانت فكرة المدن الميتة التي هي عليها بلادنا، المدن الميتة التي مر عليها غزاة الشرق والغرب، لن تنتهي هذه الفكرة إلا بقيامة بلادنا بقوانينها التي تحمي الإنسان أولاً وأخيراً.
سؤال الهوية
الجديد: تنشغل الرواية العربية منذ عقود بسؤال الهوية، وهو سؤال مُلِحّ لديك أيضًا، كيف يمكن أن تُفهم الهوية العربية في الوقت الراهن؟ وإلى أيّ مدى يُمكن التحكم في طبيعة العلاقة مع الآخر والانتقال من موقف الاستلاب والتبعية العمياء التي نخضع لها منذ عقود طويلة؟
خيري الذهبي: الهوية هي سؤال الرواية في العالم أجمعه، الرواية هي الفن الوحيد الذي يقف في وجه العولمة التي نعيشها اليوم، هي ببساطة محاولة لرواية تاريخ الشعوب وتاريخ البشر للآخر، الرواية المعاصرة هي تاريخ المهزومين، هي ذلك الفن الذي أتاح للمهزوم أن يكتب تاريخاً بديلاً، حقيقة أخرى، عالما آخر، أقل وطأة وأقل قسوة من الواقع الذي نعيش فيه، الرواية هي هوية المرأة المهمّشة في العالم، وهي صوت الضعفاء، من هنا تكمن أهمية إيجاد هوية حقيقية للرواية العربية، لولا روايات كتاب أميركا اللاتينية لما عرف العالم بهوية سكان البلاد الأصليين وقصصهم وأساطيرهم وهمومهم، ولما وصلنا على الأغلب سوى صدى العولمة الأميركية لديهم، كتّابهم أنفسهم يقاومون في سبيل تثبيت هوية تنجرف يومياً، جوزيه ساراماغو هو مسمار قوي أراد تثبيت هوية آيبيريا على حائط العالم، كذلك كتّاب الهند واليابان وتركيا وروسيا وأوروبا، وحتى كتّاب أميركا العظماء مثل وليم فولكنر وسالنجر، حاولوا إضفاء صفة إنسانية على بلادهم، صفة تنبض بالحياة بعيداً عن صورة الكولونيالية والعولمة الحديثة، وهنا تكمن أهمية الروائي، الذي يتقاطع مع المؤرخ في تلك الصفة التي ذكرتها، أي كتابة التاريخ البديل عن الرواية الرسمية.
أمّتنا لن تتقدم إلا حينما ننسى أننا أبناء حضارة عريقة ونقف أمام مستقبلنا بكل وضوح، كفانا تباهيا بتاريخ أجدادنا
في رواياتي ستجدين حكاية دمشق خلال مائة عام، وحتى آخر القرن العشرين، متجسدة في رواية “التحولات” مثلاً، وما حصل في سوريا خلال العقد الأخير ستجدينه في رواية “المكتبة السرية والجنرال”، وقبلها ستجدين التاريخ البديل لبيروت الحرب الأهلية اللبنانية في رواية “ليال عربية” والتاريخ البديل لمدينة مثل الرقة مثلاً في “المدينة الأخرى”، ستعرفين أكثر عن فترة إبراهيم باشا في رواية “الإصبع السادسة” ولكن من خلال تاريخ شعبي، جميع أعمالي هي عالم مواز للعالم الذي نعيشه، روايات تتدفق من نبع الموروث الشعبي الذي ينهل من هوية تقاوم من أجل وجودها.
يوميات الأسر
الجديد: في كتابك “من دمشق إلى حيفا.. 300 يوم في الأسر الإسرائيلي” تسرد يومياتك في التنقل ما بين عدد من السجون الإسرائيلية.. كيف تعاطيت مع تلك الفترة من الأسر آنذاك لاسيّما وأنها كانت بعد فترة من الوهن والجرح النرجسي العربي؟
خيري الذهبي: أحداث كتاب “300 يوم في إسرائيل” جرت في العام 1974، أي تقريباً منذ 46 عاماً، وبقيت تلك التجربة أسيرة بداخلي، ولم أجعلها تسيطر على تفكيري ومحتواي الإبداعي، ولكن بعد نصف قرن تقريباً من الكتابة والعشرات من الكتب والعمل في الأدب والصحافة والدراما والمحاضرات، قررت أن أستعيد تلك التجربة لتكون الشهادة الأولى من كاتب سوري وأعتقد من كاتب عربي، على تجربة حرب تشرين، ولكن من دون عنتريات وأناشيد تجييشية وقومية، إنها شهادة من الداخل الإسرائيلي الذي يحتل الجولان وفلسطين، على ما جرى في تلك الحرب الحاسمة بين العرب وإسرائيل، هناك كان الواقع مختلفاً، حيث نبض الحرب يختلف عمن عايش الحرب في دمشق أو القاهرة أو باقي البلدان العربية، دون أناشيد حماسية وخطب رنانة وأكاذيب الإذاعات العربية.
كنت أعلم أنني سأكون أحد الناطقين باسم هموم الناس وأحلامهم، ولكنني كنت أبحث عن شكل هذا التعبير، أو شكل الأداة التي ستنقل هذا التعبير
هناك كنّا كأسرى نرى لأول مرة ما كنا نجهله عن “دولة إسرائيل” كنا نعتقد كما علّمونا في المدارس والإعلام بأن اليهود كائنات شيطانية قادمة من الفضاء، وإذا بنا فجأة وجهاً لوجه مع الأعداء في الأسر، تعرفنا عليهم وعلى قسوتهم في التعامل مع العرب والأسرى عموماً، ولكننا شاهدنا تنظيمهم وعرفت حينها سبب هزيمتنا وسبب انتصارهم علينا، إن أردنا ألا نستمر في الكذب على أنفسنا وعلى الأمة فيجب علينا معرفة ذلك المحتل لأرضنا عن قرب، ونحدد نقاط قوته، ونعزّز ديمقراطيتنا التي ستمنحنا يوماً ما القدرة على الوقوف واستعادة ما فاتنا.
هناك في معتقلات حيفا ومجدو واللد، شاهدت الأسرى السوريين والمصريين واللبنانيين والفلسطينيين، وتعرفنا على اليهود العرب وأسباب تخليهم عن بلدانهم ولجوئهم إلى إسرائيل، تعرفت على فكرة التخطيط التي اشتغل عليها الإسرائيليون، وعلى مفكريهم السياسيين وعلى سؤالهم المُلحّ الدائم: كيف ترون دولة إسرائيل، وما هي مشاعركم تجاهها. اليوميات داخل المعتقلات الإسرائيلية مترعة بالتفاصيل اليومية التي تعكس كيف كنا نفكر، وربما ما نزال، وبين كيف كانوا هم يفكرون، وغالباً ما يزالون.. إن الصراع إذن هو صراع آليات التفكير بالدرجة الأولى.
حياة مُخططة
الجديد: كثيرًا ما يتحدث المُبدعون عن التأثير الطاغي لفترات الأسر والاعتقال على حياتهم بشكل كامل، إلى أيّ مدى أثّرت تجربة الأسر في السجون الإسرائيلية على توجهاتك وأفكارك ورؤيتك لحياتك المُقبِلة؟ هل غيّرتك أم عززت ووثقت ما رسمته لذاتك سلفًا؟
خيري الذهبي: على الإطلاق، لقد وضعت تجربة الأسر في إسرائيل والتي استمرت لمدة 300 يوم في صندوق رمادي، ودفنتها داخل أعماق صدري، وبدأت العمل على مشاريع روائية وأدبية وفكرية شغلتني في نصف القرن الممتد من الاعتقال وحتى اليوم، عملت على قضايا روائية غاية في الأهمية، كنت أؤرّخ روائياً لمدينة دمشق ومن ثم أرّخت لبلاد الشام والمنطقة روائياً، كتبت عن حياتي وعالمي الذي تربيت فيه، عن الناس وأحلامها وإحباطاتها وفرحها، ما قالوه وما لم يتسنّى لهم قوله، ومن ثم بدأت التنقيب في تاريخ المنطقة والبحث في الطبقات الجيوتاريخية التي شكّلت الإنسان العربي المقهور والمُعنّف حالياً، ووصلت لما وصلت إليه، ولو لم أقفل على تلك التجربة بالمفتاح، لكانت سيطرت عليّ بالكامل ولربما قضّيت عمري أسيراً لدى تلك التجربة، ولكنني صمّمت على تحرير نفسي من تلك التجربة تماماً حينما كنت أهبط سلّم الطائرة عائداً من حيفا إلى مطار المزّة العسكري، وحينما قلدت وسام الشجاعة من الجيش السوري وقتها، طلبوا مني الاستمرار في العمل في الجيش والترفيع العسكري، ولكنني رفضت رفضاً قاطعاً، كنت أريد بناء جدار بيني وبين تلك المرحلة التي فُرضت عليّ، وأعتقد أنني نجحت، رغم أن الكتاب حقق نجاحاً كبيراً حين صدوره بعد نصف قرن، ولكنني كنت مصمماً أن أقود حياتي كما خططت لها، وليس كما تريد الأهواء أن تتقاذفني.
فيروس الحكي
الجديد: بدأت الكتابة باكرًا في عقدك الثاني من العمر.. ما الدافع الذي قادك نحو كتابة الرواية؟ أيّ المحطات في حياتك كانت مؤسسة لحسّك الحكائي لاسيّما وأن شغفك بالعودة إلى التاريخ قد بدأ مع عملك الأول “ملكوت البسطاء”؟
خيري الذهبي: في بداياتي كنت أعلم أنني سأكون أحد الناطقين باسم هموم الناس وأحلامهم، ولكنني كنت أبحث عن شكل هذا التعبير، أو شكل الأداة التي ستنقل هذا التعبير، ذهبت لدراسة السينما في مصر، ولم أكمل، وذهبت لدراسة السينما في باريس ولم أكمل، وكتبت المسرحية ولم تشبع شغفي في التفاصيل، ومبكّراً تذكّرت أن “ألف ليلة وليلة” كانت وما تزال ديوان حكايا العرب، وتذكرت أن الرواية المعاصرة هي ديوان العالم الحديث وأن الفن هو الأكثر قدرة على تطويع الفنون في داخله، واحتواء الكون في جله بداخلها، كان هذا السقف المرتفع بالنسبة إلى شاب صغير مثلي حينها، مغرِ جداً، فكتبت الكثير من الروايات وأتلفت الكثير من الروايات التي لم تسمعوا عنها مطلقاً.
أؤكد مجدداً أنني لا أكتب الرواية التاريخية مطلقاً، فالرواية التاريخية هي مشابهة لأسلوب جورجي زيدان مثلاً، أما أنا فأكتب الرواية التي تكتب تاريخاً موازياً للتاريخ الحقيقي، أكتب رواية تستند على جزء من التاريخ المتعارف عليه لأبني لنفسي عالماً آخر، ولشخوص رواياتي حقيقة أخرى مدهشة تختلف عن التاريخ، لا يمكن مطلقاً أن تقرأ رواية “فخ الأسماء” وتعتبر أن هذا هو تاريخ المغول في الشرق، لكنها رؤيتي للمغول في شرقنا، ولا يمكن أن نعتبر أن قتل الأهالي لمن يملك إصبعاً سادساً في رواية “الإصبع السادسة” هو حقيقي بقدر ما هو مختلق وتخييلي.
يمكنني القول إن فن القص هو قدر من عاش قريباً من مقهى النوفرة في الخمسينات، لا يمكن لإنسان أن ينسى الدهشة والشغف والحب المرتسم على وجوه المستمعين للحكواتي في أزقة دمشق، أبوخليل القباني مثلاً هو حكّاء مدهش وروائي عظيم، اختلق القصص والروايات والحكايات ومسرحها، فهل نقول إن أبا خليل القباني ينتمي للمسرح التاريخي، الحكاية هي “DNA” متوارث في شوارع دمشق، وقد التقطت هذا الفيروس مبكراً، ربما هو الفيروس ذاته الذي أصاب أبا خليل القباني وحكواتية الشام عموماً.
توظيف التاريخ
الجديد: تؤكد دومًا أنك لا تكتب الرواية التاريخية لكنك توظف التاريخ روائيًا.. لمَ جاء هذا الخيار الدقيق في كتاباتك؟ هل هو محاولة لتجنب المُباشرة والمُحاسبة على دقة العمل من منظور تاريخي أم رغبة في مزج الواقعي بالخيالي تحقيقًا لقدر أكبر من الحرية لك ككاتب؟ وما رأيك في ذلك التوجه الكثيف من قِبل روائيين عرب نحو كتابة الرواية التاريخية خاصة بعد الثورات العربية؟
خيري الذهبي: التأمل في قصص الناس في المجتمع أمر مستمر، ولا يقتصر على الواقع، لكل حكاية وشخصية روائية بعد ملحمي، ألحّ في البحث عنه والتقصي فيه، من أجل هذا أعود إلى الأصول الحكائية، إلى جذر القضايا الاجتماعية التي أعمل عليها، في “صبوات ياسين” رجعت إلى جذر الطاغية المحلي، وحللت أصل مشكلة التبعية للمستبد، البعض يسمّي هذا غوصاً في التاريخ وأسميه عودة إلى الأصول من أجل إيجاد النبع الذي شربت منه كل الشخصيات التي أودّ الحديث عنها، السرد فعل عجيب، فما إن يفتح باب السرد حتى تتدفق قصص مترابطة عجيبة، هو مثل المشهد العجائبي في رواية “الدوران في المكان” حينما يفتح هشام الغطاء الحجري عن الفتحة في أرض المطبخ، ويشد الأوساخ فتخرج سلاسل غير منتيهة من تاريخ الأجداد، حكاياهم، سيئاتهم وحسناتهم، إنه تراكم يجب على أحد ما أن يفض تشابكه في كهوف نفوسنا، نحن مشبعون بالتاريخ، نحن شعوب تتفاخر بشجرة العائلة، وهذا تاريخ شخصي، وهناك من يتفاخر بالأنساب وهو تاريخ جمعي، التاريخ يتشعب ليصبح روايات متضاربة، أنا أسرد روايتي عن تلك الأحداث، لذلك هي ليست رواية تاريخية بالمعني التقني، بل رواية تستند إلى تاريخ ما.
في كل مرة وكل رواية، نرفع فيها الصخرة للأعلى ونعيد رميها للأسفل من جديد، بحث عبثي
أما الحديث عن كتبة روايات تاريخية، فلا أعتقد أن هنالك من يكتب رواية تاريخية، لأن الرواية التاريخية انتهت مع جورجي زيدان وجيله، أما من يكتب عن حادثة تاريخية ويحلق في التخييل فيها فلا مجال أن نسمي منجزه بالرواية التاريخية.
كتاب نقدي
الجديد: هل يمكن اعتبار كتابك “محاضرات في البحث عن الرواية” في الجانب الأكبر منه محاولة لرصد تجربتك الإبداعية في كتابة الرواية في مسيرة امتدت لما يقرب من خمسة عقود؟ أهي تجربتك الذاتية أم أنه عمل نقدي تنظيري؟
خيري الذهبي: كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية” هو مجموعة من المحاضرات كنت قد ألقيتها في عدد من الدول في العالم، هي تجارب مختبرية كان يمكن لها أن تكون روايات عظيمة ولكن لم يقدّر لي أن أكتبها وأستكملها، مثلاً محاضرة “سيد حامد أبوزيد” الأسير المرافق لسيرفانتس في سجنه في الجزائر، هي رواية مكتملة الأركان، شخصيات مركبة وتملك فرادة عجيبة، هي رواية بديلة عن رواية سيرفانتس، رواية الشرق لذات القصة، لم أنجزها كعمل روائي، بل تركتها في مختبري المفتوح أمام الراغبين في معرفة آليات عملي الروائي، وتفكيري في صناعة الرواية، يجب على شخصيات الرواية أن تكون ذات همّ حقيقي.
البحث عن الرواية هو فعل سيزيفي، ننجزه كروائيين في كل مرة وكل رواية، نرفع فيها الصخرة للأعلى ونعيد رميها للأسفل من جديد، بحث عبثي عن فن عبثي، لكن بالطبع كتاب “المحاضرات” هو كتاب نقدي تنظيري، يبحث في الأصول الحضارية لفن الرواية، يبحث في مأزق الرواية العربية، ومكامن ضعفها، نقاط قوتها وأصولها، محاضرة “الأمبوبايا” مثلاً هي نموذج في البحث عن الهوية كما تفضلتِ، وهي تسلسل بحثي يصف الرّوي في بلاد الشام مثلاً.. وبالمناسبة الجزء الثاني من كتاب المحاضرات بات جاهزاً تقريباً.
الشكل الفني
الجديد: مثلما نجد الاعتناء بالمضمون الروائي في كتاباتك، فثمة اهتمام مماثل بالشكل ممثلا في الاهتمام بتقنيات السرد وطرائقه سواء ما شاع منها غربيًا في البداية كتعدد الأصوات وتداعي الذاكرة أو الاهتمام بالتراث العربي في السرد والتأثر به بدرجة ما.. كيف تشكّل لديك هذا الوعي؟ هل جاء قصديًا أم نتاج تواشج غير واع بين روافدك المعرفية المتعددة؟
خيري الذهبي: المعمار الروائي أمر معقد وتفصيلي، وكما تولد الرواية يولد شكلها المعماري السردي، وتموضع الشخصيات. أنا أُقسِّم تجربتي الروائية إلى أربعة أقسام: في المرحلة الأولى جربت رواية الأصوات وتعددها: كما في “ملكوت البسطاء” و”طائر الأيام العجيبة” و”ليال عربية”، وغيرها. في المرحلة الثانية، جربت بالفعل تداعي الذاكرة والتدفق الأوتوماتيكي للحكاية الحدث، الزمن المتصل فنياً للقصة، كما في “حسيبة” و”فياض” و”الدوران في المكان”. في المرحلة الثالثة بدأت العمل على المونتاج الفني للزمن وعلى بنية الزمن المعقدة وتحقيق قفزات زمانية فنية في الحدث من أجل كسر إيهام القصة وفتح باب التأمل في الحدث واللغة قدر الإمكان بدلًا من انتظار التشويق والحبكة كما في “رقصة البهلون الأخيرة” و”فخ الأسماء”. أما في المرحلة الرابعة في الروايات المتأخرة عملت على الزمن الحلزوني المُعقد الذي قد يصل إلى نهاية وقد لا يصل إلى نتيجة متوقعة، بت أبحث عن معمار روائي يُلبي تعقيدات البنية السردية والتخييل، امتزجت الواقعية السحرية بالموروث الشعبي والقصصي كما في “صبوات ياسين” و”المكتبة السرية والجنرال” و”لو لم يكن اسمها فاطمة”.
أصف معماري الروائي حتى اليوم بالتجريبي، أحياناً أبني رواية بشكل هندسي بحت، متناظر ومتواز أدخل شخوصي من باب وأخرجها من باب آخر، وأحياناً أبني معماراً مشوهاً ولكنه متين، متناسب مع حدث القصة وحبكتها، ربما كان بالإمكان استنساخ معمار رواية سابقة لي، ولكن عشق التجريب يجعلني أبحث في كل مرة عن شكل جديد جداً علي، هنالك روائيون يعتمدون شكلاً روائياً واحداً ويسحبونه على مجمل أعمالهم، فيمكنك من خلالها معرفة اسم الكاتب من بداية الرواية، أما أنا فلا يمكنني أن أستنسخ نفسي مطلقاً في شكل الرواية، ولكنكم إن دخلتم إلى عالم روايات خيري الذهبي، ستجدون عمارات غير متناسقة منها المدبب ومنها المستطيل ومنها المدور، في تشكيل فني مدهش، ربما في عوالم روائيين آخرين، ستجدون أحياء سوفيتية مُسبقة الصنع متشابهة حد الملل.
قصدية الرواية
الجديد: في كتاب “التدريب على الرعب” تحدثت عن إنكار كثير من الكُتاب لمسألة القصدية في كتابة الرواية أو التخطيط المُسبق.. برأيك، ما السبب وراء كل هذا الفزع والإنكار الذي يمارسه معظم الكتاب في التعامل مع قصدية الكتابة؟
خيري الذهبي: في بلادنا كان وما يزال الفن الأكثر قرباً وسهولة من الراغبين في أن يكونوا كُتّاباً هو الشعر، وإذا ما فنّدنا أسماء الكثير من الكتاب وجدناهم بدأوا بكتابة الشعر ومن ثم انتقلوا إلى الرواية في مرحلة مُتقدمة، ربما هي الرهبة من دخول معمار هائل ومُنظّم هو الرواية، وربما كانت الرغبة في ألا يتلقوا نتيجة ما فعلوا إن هم اقتحموا عوالم الرواية، بالقول إنّ ما كنا نكتبه هو “نص مفتوح” أو تجربة روائية، الرواية فن بسيط يمكن لأيّ كان أن ينجزه، فتكون النتيجة بيتا بطابق واحد ونافذتين، كما في الأغاني الرعوية، ولربما وضع المتشبهون بالغرب فوقها قرميداً فأصبح بيتا مربعا بنافذتين، وفوقه مثلث أحمر اللون، فيكون بيتا، ببساطة روائية، مثل الرواية البسيطة، ولكن من الممكن أن تصبح الرواية معماراً عظيماً، ناطحة للسحاب مثلاً كأعمال بول أوستر، أو هرماً كما هي أعمال نجيب محفوظ، أو هرماً مدرجاً كأعمال ماركيز… إلخ، من هنا يكمن الاعتراف بقصدية البناء، حسب النتيجة، أفق التوقع غالباً ما يكون أكبر من الرواية نفسها.
القدر الروائي
الجديد: إلى أي مدى من الممكن أن يتغير المعمار الروائي المُتخيل لديك قبل الكتابة لاحقًا؟ هل هو تغيير في التفاصيل أم من الممكن أن تتغير الأسس ذاتها المُخطط لها مُستقبلا؟
خيري الذهبي: غالباً لا تقود الرواية نفسها لديّ. في أعمالي كل شيء مُقدّر ومُنسّق قبل الكتابة، أنا أمشي كثيراً، وكل من يعرفني يعرف أنّي مشّاء صبور، وفي أثناء المشي أبني العمل الروائي، أفكر فيه طويلاً، أفكر في شخصياته ودوافعها وأماكنها وحظوظها وإحباطاتها، أبني كل شيء، لا يمكن أن يحيد النص عمّا رسمت له، ربما قليلاً في النهايات أتفاوض مع الشخصيات على مصائرها، ولكنني في النهاية، آخذها حيث قدّر لها خالقها أن تكون، وخالقها الذي هو أنا، يعرف بالضبط في كتاباته أين ستنتهي، رغم محاولات تلك الشخصيات التفلّت والتمرد ولكن القدر الروائي أكبر من طموحات شخصية منفعلة.
لا يهمّني قُراء الكتب الأكثر مبيعاً، أنا أكتب لقارئ متأمل لديه وقت ليعيش معي رحلة فكرية سردية
القارئ الواعي
الجديد: ما هو الشكل الذي يربطك بقارئ أعمالك؟ إلى أيّ مدى يشغل حيزًا من تفكيرك أثناء الكتابة؟ وما طبيعة التلقي الذي تنتظره لأعمالك؟
خيري الذهبي: أنا كاتب أُفكر بالقارئ في كل سطر أنهيه، القارئ الحقيقي، هو القارئ الذي أتوجّه إليه، لا أتوجه إلى قُراء الجوائز مثلاً، ولا يهمّني قُراء الكتب الأكثر مبيعاً، أنا أكتب لقارئ متأمل لديه وقت ليعيش معي رحلة فكرية سردية، ستأخذه بعيداً عن مجلسه، ولكن ما يشغلني على الدوام هو القارئ الذي ينتمي لجيل أحفادي، وأسعى بشكل حثيث لتطويع كتابتي كي أجذبهم، لرغبة متبادلة لدينا في الإفادة والاستفادة، لأن نصوصي تنتمي لسنوات قادمة وليست لأحداث آنية، تسعدني جداً الطفرة البسيطة في عدد القرّاء مؤخراً في العالم العربي، ويسعدني انبثاق عدد من دور النشر في سوريا ومصر وأوروبا، ممن يمشون ضد التيار ويسعون لتقديم كتاب بديل، حتى ولو كان صعباً، يسعدني إيمان بعض الناشرين بالرواية العربية وبأنها ليست أقل أهمية من الرواية الأوروبية على سبيل المثال، هذا الأمر مشجع، ولكن قلة دور النشر وقلة عدد الكتب المنشورة في العالم العربي أمر يخيفني، هنالك مليارات تُصرف على الجيوش في جميع البلدان العربية، بينما مدن قائمة بأكملها تعيش من دون مكتبات، ومن دون نشر حرّ مدعوم من الدولة، يجب على القمم العربية مثلاً، أو القمة الخليجية دعم الكتاب العربي، ما الضير في طباعة مليون كتاب عربي خلال عشر سنوات، هل تعجز الدول العربية مجتمعة أن تموّل مشروع نشر مليون كتاب عربي في عشر سنوات. إنها صرخة ربيب مكتبات عاش بين الكتب لنصف قرن.
قِبلة العرب
الجديد: تلقيت تعليمك الجامعي في مصر خلال فترة الخمسينيات.. لم جاء هذا الاختيار؟ وكيف أثرت تلك الفترة على تكوينك الفكري والثقافي خاصة وأنها كانت من الفترات التي شهدت ازدهارًا جليًا في الثقافة المصرية؟
خيري الذهبي: في بداية الستينات كانت مصر قِبلة للعرب أجمعين، كانت تشهد في تلك الأيام ثورة ثقافية عارمة، أركانها عمالقة في البحث والاستقصاء، ثورة ثقافية مكتملة الأركان في المسرح والسينما والأدب والبحث والعمل الجامعي، والرواية والشعر والقصة القصيرة والأغاني، بينما كنا غارقين في انقلابات عسكرية لا تتيح للمجتمع أن يهدأ ويلملم نفسه حتى يعاود العسكر نسف كل شيء والبدء في بناء مجتمعهم من جديد، من اليمين إلى اليسار، ومن الرأسمالية إلى الاشتراكية، ضاعت الأجيال، دون أن يتسنّى للمدارس الأدبية أن تأخذ وقتها بالتشكل والازدهار، تجارب مسرحية هامة في المسرح الشعبي أجهضت، وأسماء هجرت من البلد، ومنع العمل في السينما إلا بأطر الدولة، والكُتّاب احتجزوا داخل نقابة وضع على رأسها ضابط مخابرات، وكذلك في كل الاتجاهات الثقافية، بينما في مصر تلك الأيام كانت قوة الدفع المنطلقة من الفترة الملكية ما تزال تدفع الحركة الفنية نحو الأمام بشكل قوي جداً.
في أثناء المشي أبني العمل الروائي، أفكر فيه طويلاً، أفكر في شخصياته ودوافعها وأماكنها وحظوظها وإحباطاتها
كنا كطلاب أمام أسماء من كبار مثقفي العالم حينها، طه حسين اسم كبير جداً في البحث الفكري والأدبي، لا يقل أبداً عن جان بول سارتر وأندريه جيد، زكي نجيب محمود ونجيب محفوظ ومحمود تيمور والعشرات من المفكرين المصريين كانوا ينشرون الوعي في كل أرجاء الحياة الثقافية المصرية، وكنت هناك ألتقط ما استطعت التقاطه من أفكار للكبار ومن كتب على الرصيف، بأسعار لا تذكر، بينما كنا في سوريا والعراق أمام مفكرين سياسيين، ما زالوا يبحثون عن شكل سياسي للبلد، ميشيل عفلق وصلاح البيطار والسباعي وأنطون سعادة وآخرين كانوا هم واجهة الفكر والعمل الجمعي، حينها لم تغرني السياسة أبداً، بل اجتذبتني الثقافة مثل فراشة تسير سيراً حثيثاً نحو النور.
تحولات دامية
الجديد: كيف تنظر إلى الوضع السوري راهنًا بعد ما يقرب من تسعة عقود من الثورة؟ ما المصير المُنتظر مُستقبلا برأيك في ظل تلك التحولات الدامية؟ وأيّ دور يُمكن أن يضطلع به المُثقف في تلك الأزمة؟
خيري الذهبي: لا مناص في المسألة السورية، سوى الديمقراطية، هي كلمة واحدة سحرية ستحلّ كل مشاكل البلد، الديمقراطية، التي ستولّد مجتمعاً مدنياً غير ديني وغير استبدادي، سيحمي الجميع. أما عن المثقف فهو زرقاء اليمامة الذي يتحدث بما يتوقعه ويراه دون أن يلتفت إليه أحد.
موجة جارفة
الجديد: في السياق، هناك العديد من الأعمال الإبداعية التي اتخذت من الثورة والأحداث التالية لها موضوعًا روائيًا.. كيف قرأت تلك الأعمال التي كُتبت أثناء فورة الحدث وطُغيانه؟ وهل تُخطط للكتابة عن تلك الفترة في وقت لاحق؟
خيري الذهبي: كل الأعمال التي خرجت عن الثورة، هي أعمال تناولت جانباً من تلك الموجة الجارفة، لكن التحولات التي تحدث لم تنته وبالتالي لا يمكن الكتابة بشمولية عن أمر غير منته التحقق، كل كتابة الآن هي فعل منفعل منطلق من مشاعر غضب أو إحباط أو دعم عاطفي، أو قهر أو ظلم، الرواية لا يمكن أن تبنى إلا على إلا على العقل، والعقل مغيّب تحت طبقات الغضب حالياً.
كتابة السيناريو
الجديد: ما الذي أضافته الدراما إلى مسيرتك الإبداعية؟ وإلى أيّ مدى يمكن اعتبارها قد عززت تواصل المُتلقي العربي مع أعمالك الروائية؟
خيري الذهبي: السيناريو فن مختلف عن الرواية جملة وتفصيلاً، حاولت في البداية أن أصنع دراما روائية، ولكن التيار جرف الجميع نحو الإبهار والسرعة، نحن في عصر سريع جداً، لا يؤمن بطول البال والتأني، ولكن فيما يخص السيناريو، وأنا قد كتبت ما يزيد عن 15 عملاً بين التلفزيون والسينما، فإني أفتخر بما أنجزته في هذا المجال، لأنني جئت إلى هذا العالم كي أروي قصصاً وروايات للناس، عن الناس، ومن أجل الناس.
مسيرة روائية
الجديد: كيف تُحاكم مسيرتك الروائية حتى اللحظة الراهنة؟ ما الذي ندمت على فواته؟ وما الذي يُشكِّل مصدر فخر بالنسبة إليك تعتز به دومًا؟
خيري الذهبي: لديّ رغبة أن أكتب عشرين كتابا في السنوات القادمة، أرجو أن يحالفني القدر والزمن والصحة في إنجاز ذلك، فأنا أملك العشرات من الروايات في عقلي والعشرات من الأبحاث والكتب في ذهني، لكنني فخور جداً بما أنجزت، لقد كتبت لنصف قرن، بين الرواية والقصة والصحافة والسيناريو والأبحاث ما يزيد عن وزني بضعفين من الورق، ولم أقل بعد نصف ما لديّ من حكايات.أعمل حالياً على كتابين “الجنة المفقودة” و”فانتازيا ما وراء الموت”. وأعتقد أنهما سيجدان طريقهما إلى النشر في 2020.