خِفّة في الروح، ثِقَل في القلب
في الحديث عن تجربتي القصصية، أودّ التمييز بين مستويين من التجربة؛ مستوى الكتابة كفعل ذاتي، ومستواها كممارسة ثقافية.
عن تجربة الكتابة كفعل أدبي ذاتي، لطالما وجدتُني منشبكة مع هذا الفعل رغبوياً وقهرياً، في آنٍ واحد. أي إنني، في لحظة الكتابة، أكتب بدافع من رغبة عميقة في التعبير الحُرّ، ما يمنحني الشعور بأنني المبادرة والمتحكمة في العلاقة بيني وبين فعل الكتابة. وفي الوقت نفسه، أكتب تحت سيف شعور قهري بوجوب التعبير. شعور كهذا يجعلني رهينة لفعل الكتابة، ويُعلّقُ اعتباري لذاتي وإدراكي لها على الدوام بحجم المسافة التي تفصلني عن هذا الفعل. وبالطبع فإنّ هذا يحملُ مجازفةً في العلاقة مع النفس.
لا نظام ثابتا لي في الكتابة، ولا طقوسا خاصّة. متى حضرت الكتابة فإنها تصنعُ نظامها وطقوسها. مع هذا، يمكنني القول إنّ معظم الدفق الذهني يتملّكني ليلا، وأحبّ ما كتبتُ إلى قلبي، خططتهُ غالباً في ساعات الليل المتأخرة إلى الفجر. أكرهُ استدعاء الكتابة قسرا، برغم اضطراري في أحيان كثيرة لفعل هذا. وما زلتُ أدهشُ للمقولات التي تحثّ على الكتابة اليومية، فممّا يميّز العمل المبدع برأيي عن سائر ما في الأيام من أعمال هو انبجاسه المفاجئ من تحت بلادة الاعتياد. بإمكاني احتمال مرور أيام، قد تصل إلى شهر، من غير أن يطرق بابي خاطرُ الكتابة، أمّا مُجافاة أطول من هذه، فترمي بي غالباً في بئر الاكتئاب ومشاعر اللاجدوى، وحينها، تصبحُ أبسط المهامّ اليومية أصعب من أن أقدر عليها.
برغم أنّ توجّهاتي الأدبية في بداية تكوّنها كانت تنحو إلى الشعر، إلاّ أنّ المقام لم يطُل بي حتى وجّهتُ بوصلتي إلى القصة القصيرة. لا أدري سبباً لهذا، لكنني أرى في الشعر منهجَ الحالمين، وقد كنتُ حالمةً حقاً في مرحلةٍ ما، وربما أنني وقتَ أن تعبتُ من الحُلُم والحِلم معاً استيقظتُ فوجدتُني أتجهُ عفوياً إلى القصة، التي تحتملُ واقعيةً أكبر، هذا إن لم يكن مبدؤها الأساسي هو الواقعية.
صدور مجموعتي القصصية الأولى “الأسياد يحبّون العسل”، أوغاريت للنشر، رام الله 2013، شكّل لي اجتيازاً للعتبة الأهم في مشواري الأدبي، ولعلّ من حظّي آنذاك أنّ المجموعة صدرت عن دار نشر محلية تتعامل بحرفية ومسؤولية تجاه عملية النشر (من سخرية المرحلة أنها أغلقت أبوابها لانعدام التمويل). بعد هذا التاريخ وحتى اليوم، صدرت أعمالي الأخرى (قصص قصيرة، وأعمال لليافعين) عن دور نشر عربية، من عمّان إلى بيروت إلى كندا. وليست لي نيّة مُستقبلية في التعامل مع دور نشر محلية في هذا الخصوص.
مجموعتي القصصية الثانية “معطفُ السيّدة”، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان 2017، هي بالنسبة إليّ مجموعة اللّهو. إذ أنّ كتابتي لغالبية قصصها كانت أشبه بلعبة خفّة وتحدّ أمام الذات في القدرة على استحداث أشكال متنوعة للقصّ. خصوصاً أنني كتبت المجموعة خلال مدىً زمني فضفاض، ما كان يمنحني الفرصة لانتظار الفيض القصصي على مهله، وتشكيله بكامل أريحية. هذه المجموعة كنتُ قد فزتُ عنها بجائزة الكاتب الفلسطيني الشاب لعام 2015، عن فئة القصة القصيرة.
أمّا مجموعتي القصصية الثالثة، فهي ناجزة منذ مدّة، ولم تخرج إلى النور بعد لانشغالي عنها بكتابات أخرى. إنها تقبع الآن في ركنٍ قصيّ من الحاسوب، أتذكرها فأبتسم، فهي تمنحني الشعور بالأمان القصصي، إن جاز التعبير، أي القُرب وعدم الانقطاع عن كتابة القصة. أحتاج إلى هذا الأمان كلما أمعنتُ في انصرافي عن القصّة إلى صالح كتابة النصوص الطويلة. أتخيل مجموعتي هذه في انتظاري عند المحطة بكامل لهفتها واستعدادها للسفر، بينما أنا القطارُ الذي يضيع عنها في سكك أخرى. لا أظنني سأفلتُ في هذه المجموعة من حالة اللهو التي جرفتني في مجموعة “معطف السيدة”، بل إنني هنا أيضاً سألهو ثمّ ألهو. إذ أنني لا أجد حتى اللحظة مُستَوعَباً أسلوبياً لهذه الجدّية من مأساتنا الوجودية، سوى بالاستخفاف الفنّي.
يرى كثيرون أنّ فنّ القصة القصيرة ينحسر منذ أعوام لصالح سطوة الرواية. قد تكون هذه الرؤية في محلّها إن كان المقصود هو السطوة الكمية للرواية، فما أراه بخصوص الرواية محليّاً هو سطوة للكمّ وليس للمحتوى، لهذا، فليس من قلقٍ لديّ على مستقبل القصّة كنوع أدبي. مع هذا، فإنها تحزنني مراقبة العديد من كتّاب القصة وكاتباتها، وأنا من بينهم، ينصرفون، بصورة مؤقتة أو دائمة، إلى فنون أدبية أخرى بسبب اعتبارات السوق ومانشيتاته التي تُصدّرُ لفنون بعينها أكثر من غيرها. فلا يختلف اثنان على أنّ رهن الإبداع للسوق هو ضربٌ له في مقتل.
شخصيا، وبعد تجربتي في كتابة نصوص طويلة (لليافعين)، قد أكون أبلي حسناً هناك، لكنني لا أتحصّل عند كتابة النص الطويل على المردود الوجداني الذي أتحصّل عليه عند كتابة القصة القصيرة. فمثلا، بإمكان إنجازي لقصة من صفحة واحدة منحي طاقةَ وإقبالاً على الحياة ضِعف ما تمنحني إياه كتابة رواية مكونة من مئة وخمسين صفحة. فعند كتابة القصة القصيرة أختبرُ تجلّياً ذهنياً حادّاً، يجعلني أنساقُ في التدوين بانسيابية عالية، ومن غير تدخّل واعي في أحيان كثيرة. انسيابية يمتزج فيها النفسي بالتخيّلي، فينزلقان معاً في توليف القصة وصولاً إلى لحظة الدهشة. بخلاف تجربتي مع كتابة النصّ الطويل، التي أعتمد فيها على الاستكشاف الواعي بصورة أكبر، تجربة أشبه إلى العمل في منجرة.
هذه التجربة الذاتية في الكتابة، المكثّفة جدّاً مع النفس، هي ما أعتبرها تجربتي الشفافة الحقيقية، التي أبذل لها وتبذل لي. بخلاف تجربتي في المستوى الآخر، أي تجربة الكتابة كممارسة ثقافية. ففي هذا المستوى، لا أخجل من الاعتراف بأنّ إحساساً بعدم الألفة لا ينفكّ يسيطر عليّ كلمّا حاولتُ التفكير بنفسي كخيط في نسيج ثقافي عامّ. فالثغرات الموضوعية الكثيرة لهذا النسيج، والتي أفقدته هيبته، تفوق قدرتي على الاحتمال. ولعلّ فقداني الثقة برغبة المجتمع الثقافي في الحفاظ على مسيرة نزيهة للأدب، هو ما يجعلني أجفل وألوذ بنفسي عن أشكال تجمّعه المختلفة.
في هذه المرحلة من ثقافتنا الفلسطينية، ومن موقعي ككاتبة وقارئة ومطّلعة على ما يُزكّى للقرّاء من نصوصٍ؛ نشراً أو إشهاراً أو نقداً، يرعبني ما أراه من ذاتية عالية في التعامل مع الإنتاجات الأدبية، ومن ممارسات صريحة لتزييف الوعي والهبوط بالذائقة. هذه الممارسات تجد منها ما هو فردي، تتولاه عناصر ذات ثقل أكاديمي/ثقافي، كما تجد منها ما هو مؤسساتي، تتولاه مؤسسات ثقافية معروفة. ممارساتٌ جريئة، بعضها، خصوصاً تلك الفردية، تغذّيها ذكورية ذات نَفَس استعلائي – استغبائي تجاه المتلقّي. وبعضها الآخر، خصوصاً المؤسّساتية، تغذيها الرغبة بصبغ الثقافة بألوان تيارات فكرية دون غيرها. أو يغذّيها الغباء، وانعدام المسؤولية تجاه الدّور.
وكما أنّ الفئات الأضعف في المجتمع هي في العادة من تدفع أبهظ الأثمان في حضرة الاستبداد، فإنّ هذه المعادلة تنطبق على مجتمع الثقافة أيضا. فالمرأة الكاتبة لدينا تدفعُ ثمناً لذكورية المجتمع الثقافي وانتقائيته أضعاف ما يدفعه زميلها الكاتب. خصوصاً إذا ما أضفت إلى هذه الذكورية العورات المرافقة الأخرى لهذا المجتمع، من شللية واستفراد وعلاقات قائمة على مبدأ “حُكّ لي فأحكّ لك”. والخيارات هنا للكاتبة محدودة؛ فإمّا التساوق أو الانزواء، أو ممارسة الفِعل الثقافي على حَرْف. وهذا الخيار الثالث هو ما قصدتُ إليه منذ عام، عبر تأسيس “مبادرة القصّة الفلسطينية”. فما هذه المبادرة المتواضعة سوى محاولة لتقديم قدر يسير من الإسناد للطاقات الأدبية – الشبابية خاصّة التي تتشظّى تحت وطأة التحالفات المُتسيّدة للمشهد.
صحيحٌ أنّ الكلام عن ذكورية تفرض شروطها وعنجهّيتها في ساحتنا الثقافية هو حديث يتكرّر منذ عقود إلى حدّ أن صار مبتذلا، إلاّ أنه حديث لا يمكن بحالٍ تغافله طالما أنه ما يزال يعبّر عمّا هو موجود ومستمر. فثقافتنا الحالية، العربية عامّة والفلسطينية كجزء منها، هي نتاج بيئات تتطوّر في شكلها المادي السطحي بينما تغوص في أعماقها إلى مستويات داعشية. والداعشية لا تشير بالضرورة إلى اليمين، فلليسار أيضاً داعشيته الإقصائية الإلغائية. بل إنّ داعشية اليسار أشدّ وطأة على النفوس، لأنّ الادعاء لديه بقيم النزاهة والمساواة والقَبول أعلى ممّا هو لدى اليمين. كما أنّ الداعشية ليست محصورة بالموقف الفكري الأيديولوجي، بل إنّ السلوكيات الاجتماعية، من بينها التوجهات الذكورية التي أشير إليها، تعبّر برأيي عن نماذج صارخة للداعشية.
لا شكّ أن تجربتي في الممارسة الثقافية ما تزال في طور النشوء، ما يجعلُ إصداري لأحكام عامّة عليها قد يبدو للبعض تسرّعاً، لهذا سأتأنّى وأقول إنها (إلى الآن) تجربة مقيتة، في خضمّ توصيفي لوسط ثقافي محلّي حرقني إبداعياً مرّات عديدة، في الوقت الذي كانت تُرفع فيه القُبّعات للرداءات المُنتسبة زيفاً للأدب. ووقودي الذي أنهلُ منه للاستمرار في الكتابة هذه الأيام منشؤه ذاتي بحت، يُذكيه بين الحين والآخر دعمٌ خالص النوايا، من قرّاء بسطاء أحبّة، أجلاّء عن المسمّيات الكبيرة (ومن يكتب للناس يكفيه هذا للمواصلة). وأمّا بالنسبة إلى الأجسام الثقافية الكبيرة، فباستثناء دار النشر المحلية الأولى التي ذكرتُها، كانت وماتزالُ تجاربي التي أمتنّ لها، خارج الوطن.