دائرة الخطاب ودائرة السلطة
كلما ذُكرت السلطة يُفهم أن الأمر يتعلق بسلطة الحُكام. غير أن السلطة لا تحتاج فقط إلى الأنظمة والمؤسسات والأوامر من الساسة حتى تُخلق بوصفها ممارسة واقعية ونشاطا إنسانيا. إنها مفعول قِيمي مجرد متاح لكل ذات واعية، ويتجه إلى نوعين من الأهداف: إخضاع الوعي والتحكم في الوجدان. وليس من الضروري أن تُنتج في نطاق رفيع المستوى، بل في كل نطاق يحتضن تواصلا إنسانيا هناك ممارسة سلطوية. إن السلطة التي نسائلها هنا لا تقتصر على السيطرة السياسية، بل هي سلطة اللغة المتاحة للفاعل السياسي، والداعية، والأب أو الأم في الأسرة، والمدير في المصرف، والصوت الإعلامي..؛ إنها سلطة كل السلط. بيد أن ما نقصده باللغة الآن لا يعني الفهوم المتوارثة منذ بنيوية سوسير وحتى لحظة تخطي حدود الجملة مع دراسات علم اللغة النصي وتحليل الخطاب، حيث عُرفت بأنها ملكة لغوية أو المادةُ الخام التي يقتطع منها كل لسان ما يؤسس نظامه من العلامات والرموز الكفيلة بإنجاح عملية الكلام.
نخوض هنا في الحديث عن اللغة بمنظور أكثر شمولية، أي الممارسة الخِطابية التي تنخرط والأبنية الاجتماعية في علاقة جدلية قِوامها التحكم؛ سواء أكانت هذه الممارسة في صيغة خطاب أم تخاطب أم خطابة. إن للغة علاقاتٍ ممتدة تتخطى مفاهيمَها لدى النماذج البنيوية والتوليدية، وهي علاقات أوسع من أن تُصَوْرَنَ بإجراءات وأدوات رياضية أو منطقية، ومرتبطة بخبرة الإنسان، والزمن، والثقافة، والإدراك الاجتماعي المشترك. إذ ترسم هذه العناصر دائرة يكون فيها الخطاب مركزا، وتحققاتُ أغراض مستخدميها ووظائفها محيطاً. فاللغة هي المُنْجِزُ الفعليُّ لأطماع السلطة، وبوساطتها تُفرض الهيمنة في ساحة الخطاب. فتكون المحركَ الرئيس لدائرتين: دائرة الخطاب ودائرة السلطة.
دائرة الخطاب
الخطاب والسلطة أوسع من أن نسند إليهما وصفَ “البنية”، لأن البنية تضم عناصرَ أو أجزاءً تشكل كلاّ متجانسا. أما الخطاب والسلطة فيضم كل منهما بنى عديدة بعناصرها، وليس بنية واحدة منعزلة. لذلك، حري بنا أن نقول: “بنى الخطاب” و”بنى السلطة”. فلماذا “بنى الخطاب” و”بنى السلطة” بالجمع؟ نُؤثر إطلاق مصطلح “البنى” بالجمع لأن الخطاب والسلطة معا منطقتان مختلفتان من جهة كون الأولى وجودا ماديا، وكون الثانية وجودا مجردا. وعموما، فهما منطقتان -ماديا أو تجريدا- ليستا محددتين بنمط واحد من المستويات. فالخطاب تضام من البنى المختلفة والمتضافرة التي تصطف لتترجم الفحوى، والفحوى نفسه قد يكون مخادعا أو بريئا؛ فبراءته أو تلاعبه يصعُب على التلقي العامي أن يفصل بينهما عبر التواصل السطحي. إن المستويات اللغوية للخطاب تُضمِر حقيقته وقصدَ صانعه من وراء البنى المصطفة، وحتى المتخصص في تحليل الخطاب عاجز عن الحسم في هذا الفصل كذلك، إن لم يدرك نسق التداخل الذي يحكمه.
الاصطفاف المتحدث عنه أعلاه هو البناء الداخلي للخطاب، والقائم على عدد غير معلن من البنى الموظفة التي يستدعيها منشئه؛ فليس بمقدور أي تحليل أن يصل إلى حقيقة الخطاب ونية صانعه الفعلية من الطريق الضيق المقتصر على التفكيك البنيوي للمستويات اللسانية وشبكة العلاقات النحوية للنصوص (فان دايك توين، الخطاب والسلطة: 57). ففضح الخطاب أحوج ما يكون إلى الوعي بقيامه – بالإضافة إلى الوعي ببنية اللغة وبنية النص- على بنى أخرى غير لغوية، ولكنها منصهرة في الخطاب؛ نقصد بنية السياق التاريخي، وبنية المعرفة (الجماعية والفردية)، فبنية المجتمع، ثم بنية الثقافة (يطاوي محمد، المرجعية اللسانية في التحليل النقدي للخطاب: 357).
إن اصطفاف هذه البنى الأربع مع بنية اللغة (لسانيا) وبنية النص (تبعا لعلم اللغة النصي) بالتفاعل والتآزر يشكل ما نطلق عليه: دائرة الخطاب. كما أن هذا التفاعل بين هذه البنى بعناصرها ذات الطبائع المتباينة، هو ما يضمن لصناع الخطاب نثر أفكار مراجعهم الأيديولوجية واستهداف الجمهور بأطماعهم السلطوية؛ كل ذلك عبر المواربة والتلاعب والتورية، ونهج استراتيجيات الإضمار المقصود.
تشكل هذه البنى اللغوية وغير اللغوية مداخل السيطرة على الخطاب، وتفرض أنماط الحديث فيه، وتعيد بناء الأحداث الاجتماعية وفق مقاسات منتخبة. لكن السؤال الملح هنا، هو: كيف تتم عملية إعادة بناء الأحداث الاجتماعية في الخطاب؟ يجيب ثِيو فان لوفين (Theo Van Leeven) بأن الممارسة اللسانية (النصية والخطابية) تتكفل بإعادة صياغة سياق الممارسة الاجتماعي، أو عملية التسييق (“Recontextualization “Theo Van Leeven, discourse and practice: 05)؛ ومعناها أن صناع الخطاب يوظفون اللغة الطبيعية وما تتيحه من إمكانات نحوية وأسلوبية ونظمية في التحويل الدلالي للممارسة الاجتماعية موضوع الخطاب، وتكييفها حسب مقاصد مرجعهم الأيديولوجي. إن أول ما يستهدفه الخطاب هو التمثيلات العقلية بخصوص موضوع الحدث التواصلي، فالوعي الاجتماعي المشترك لدى أفراد المجتمع الواحد يختزن مواقف مسبقة وجاهزة، ولكن الخطابات تستهدف تعديلها أو إثباتها أو هدمها حسب علاقتها مع وجهات نظر الصُنَّاع؛ هنا تتدخل عملية إعادة صياغة السياق للتصرف في هذه التمثيلات العقلية، وتغيير معالم الممارسة الاجتماعية لغويا على مستوى التلقي الإدراكي.
أبرز ما يتوق إليه أي خطاب يعتمد اللغة الطبيعية لفرض الهيمنة الاجتماعية هو ترسيخ أفكار مرجعه الأيديولوجي السياسي، أو العقدي، أو التربوي، أو الاقتصادي، أو الإعلامي، في عقول النماذج الإدراكية للأفراد والجمهور. ومؤدى ذلك أن كل خطاب يستهدف ما تختزنه العقول من المعارف الاجتماعية، بغرض إخضاعها إلى الوعي الجديد والخادم للأيديولوجيا المتحكمة في عملية التواصل. ولتحقيق غرض الإخضاع على أكمل وجه، تُنسَّق الخطابات سياقيا ومعرفيا واجتماعيا وثقافيا، بهدف فرض معرفة اجتماعية بديلة وتبويئها منزلة الحق والصواب، أو كما يسميها نورمان فيركلف (Norman Fairclough) بالمنطق السليم (فيركلف نورمان، اللغة والسلطة: 111). فتضمن هذه المعرفة الاجتماعية البديلة إخراجا جديدا لمسلسل علاقات السلطة بين منشئ الخطاب والجمهور المستهدف، جوهرها هو التسليم بالوضع الاجتماعي الجديد، أو امتلاك إدراك اجتماعي مُعَدٍّ ومنسق؛ أو كما يقول فيليب بروطون (Philippe Breton) تفويض المعرفة (بروطون فيليب، الحجاج في التواصل: 83).
تتشكل -إذن- دائرة الخطاب بناء على اصطفاف بنى اللغة، والنص، والسياق التاريخي، والإدراك الاجتماعي، والثقافة، بالتضافر والتآزر. ولا يمكن الحديث عن فهم أقرب إلى الدقة للخطاب بعدِّه بنية لغوية منعزلة، بل إن فهما كهذا لا يفي بأغراض التحليل التواق إلى كشف السلطة وأطماع الهيمنة. كما لا يمكن لأي تحليل أن يفلح في مسعاه إلا إذا انطلق من إدراك واعٍ بهذه البنى واتخاذها مداخل أساسية لعملية التفسير.
دائرة السلطة
الحق أن الحديث عن السلطة دون استحضار دائرة الخطاب أمر مستعصٍ، فالسلطة بمفهومها العام -وليس السياسي فقط- تُمارس باللغة الممهدة للهيمنة على الجماهير بوصفها نماذج إدراكية اجتماعية تتقاطع في الحد الأقصى من السمات الفكرية والثقافية والاجتماعية. إن الهيمنة على العقول لا تتأتى إلا من خلال التحكم في مداخل الخطاب وفرض نمطه وتصميمه المخاتل، وتلك استراتيجيات خِطابية لا تكون مطيعة إلا بالاستعمال اللغوي المخادع. وبالنسبة إلى دائرة السلطة، فبناها هي كذلك عديدة، بل إن بناها “دعامات” تقوم عليها.
أول ما يراهن عليه صناع الخطاب في دائرة السلطة هو الدعامة الرمزية، ويطلق عليها فان دايك (Van Dijk) مسمّى “النخب الرمزية”؛ إذ يقول “لا تقتصر سلطة النخب.. على صيغ التعبير فحسب، بل تمتد -أيضا- إلى السيطرة على الخطاب العام، أي قد تتحكم النخب الرمزية في ترتيب أهمية الموضوعات الخاضعة للمناقشة العامة وموضوعات السلطة، وتنظيم كم معلومات الخطاب ونوعه، لا سيما ما يُصوَّر للجمهور..” (فان دايك توين، الخطاب والسلطة: 87). تُجتذب -إذن- عقول الجماهير خصوصا بالذوات الرمزية، لأن لها قيمة اعتقادية متأصلة في المعرفة الاجتماعية المشتركة لدى الجماعة البشرية الواحدة، فتُرغم الجمهور المتلقي للخطاب على التسليم بما يُرفق بها من معلومات، أو ما استُشهد لأجله بها. على سبيل المثال اليسير، فالمكانة الاعتبارية لرئيس الحزب مثلا، أو رئيس المؤسسة الجامعية، أو الشيخ الداعية، أو الممثل الأكثر شهرة، أو الملاكم كثير الألقاب، في مجتمع واحد أو مجتمعات متصلة مكانيا أو دينيا أو ثقافيا أو إعلاميا، ترفع من أسهم الخطاب الذي يستثمر قيمة تلك الذات الرمزية بشكل مباشر أو غير مباشر، وتضفي عليه طابع المصداقية، وتجعله حاسما ومُحْكما قبضتَه على البنى الإدراكية التي تتلقى الأيديولوجية باطمئنان وتفويض. لذا، فالنخب الرمزية تمثل وحدها إحدى بنى دائرة السلطة.
من جهة أخرى، يجب ألا نقصُر بنية النخب الرمزية على الذات أو الفرد الأكثر تأثيرا فقط، بل إن مفهوم الرمز هنا يشمل الموضوع كذلك. هنا نخالف فان دايك في اقتصاره -عند حديثه عن النخب الرمزية – على النخب المثقفة؛ فنذهب إلى أن الرمز المنتخب قد يكون مكانا، أو ملحمة تاريخية، أو طقسا محليا، أو عرفا، أو خرافة شائعة. وعموما، فإن أي ما تتحلق حوله النماذج الإدراكية المكونة للجمهور، يستحق أن يسمى رمزا منتخبا، وواحدا من عناصر بنية الدعامة الرمزية.
ثانيةُ الدعاماتِ التي يحتاجها صُنَّاع الخطاب السلطوي، هي المرجع الأيديولوجي. إن الخطابات الموجَّهة لمساعي التحكم والهيمنة تُؤطَّر بخلفيات أيديولوجية (ideolgic backgrounds) غير صريحة. فقيام الفعل السلطوي رهين بالمنطلق الأيديولوجي الذي يستهدف البنى الإدراكية لفئات المجتمع عبر الممارسة الخِطابية؛ وإن الخطاب يُصمَّم على أساس المرجعية الأيديولوجية وما يحقق أطماع الهيمنة، فيهدم -في البنية المعرفية للمشتركين- الإدراكات المعارضة، ثم ينقل الاهتمام بحاجات وأغراض مُلِحَّةٍ إلى أغراض بديلة لم يكن لها وجود في اعتباراتهم من ذي قبل، كمطالبة العمال بإسقاط الأنظمة السياسية بدل المطالبة بتحسين ظروفهم الاجتماعية، أو مطالبة الطلبة بإسقاط العميد بدل الرفع من قيمة المنح الجامعية. ومن الطبيعي أن تتوافق بنى السلطة على تثبيت المرجع الأيديولوجي في جميع مراحل الممارسة الخِطابية، أو على إقراره اعتقادا جديدا ووحيدا لدى الفئات المقصودة. ومنه، فالمرجع الأيديولوجي هو الجسر الواصل بين بنى دائرة السلطة، وبنى دائرة الخطاب.
ثالثةُ دعاماتِ دائرة السلطة مجردةٌ تكاد تظهر منعدمةً على مستوى الخطاب، غير أنها تُنَزَّل فعليا على مستوى تلقيه وليس على مستوى تداوله أو تشَكُّله؛ نقصد هنا البنيةَ المؤسَّسية. سواء تعلق الأمر بمؤسسة سياسية أو إدارية أو أخلاقية أو اجتماعية. إن أول شرط يفرضه النظام المؤسسي -في الشركة، أو الشبكة الإعلامية المستقلة، أو المؤسسة الدينية، أو الحزب مثلا- هو الامتثال للمساطر القانونية أو الأعراف أو المنظومات الأخلاقية أو النصوص. وثاني الشروط هو احترام “التراتبية”، إذ يستحيل الحديث عن التكافؤ أو الاستقرار في جميع أنماط الخطاب، لعلة واحدة: المؤسسة تنبني بالأساس على معطى اختلاف المراتب من حيث تحمّل المسؤولية؛ فالنقاش بين الطبيب والممرض، أو بين الضابط والعريف، أو بين رئيس الحكومة والوزير، أو بين الأب وأبنائه، ينتظم وفق السلطة المؤسسية التي توزَّع فيها الأدوار حسب المرتبة. فلا يسعُ أصحاب الموقع الضعيف إلا الخضوع لمضامين خطابات الفاعلين من ذوي مواقع القوة، هنا نعزز هذا الرأي بتصريح لفان دايك: “الضعفاء لا يقولون شيئا في الخطاب” (فان دايك، الخطاب والسلطة: 84).
يجب على محللي الخطاب أن يكونوا على وعي تام بأن المعتقدات الدينية والقوانين والعرفية والتنظيمية واللوائح في إطار البنية المؤسسية، ومعطى التراتبية، من أخطر مداخل التحكم في الخطاب؛ فموقعُ صاحب الخطاب وذاتُه القويان يسعفانه في الهيمنة على زمام الممارسة الخطابية بتنسيق مجرياته ونمطه وأسلوبه وتغيراته، وحتى نبرة الصوت فيه. وعلى خلاف ذلك، لا يجد المشارك في الخطاب ذي الموقع والذات الضعيفين سبيلا إلا الخضوع لمنطق القوة وتفويض السلطة؛ ويعني هذا أن الحظوة والحسم في دائرة الخطاب مكفولان للمشارك ذي الموقع والذات القويين مؤسسيا.
يسعفنا هذا التشريح لدائرة الخطاب ودائرة السلطة، في أن نستخلص الدور المنوط إلى اللغة، إذ أن الاختيارات اللسانية (المعجمية والتركيبية والأسلوبية والدلالية والبلاغية) هي الآليات المادية الكفيلة بإعادة صياغة الممارسة الاجتماعية للحدث موضوع العملية الاتصالية، وكل ما تعلق بها من خصائص ثقافية وإدراكات اجتماعية وسياقات تاريخية. كما أن اللغة هي الحجاب الذي تتوارى خلفه دعامات السلطة المجردة في مجملها: الذوات والموضوعات الرمزية، والمرجع الأيديولوجي، والعلاقات المؤسسية. وبذلك، نرى أن الممارسة الخطابية تعالق بين دائرة الخطاب ودائرة السلطة، وأن ما يضمن الانصهار بين بناهما هو الاستعمال المخاتل لطاقات اللغة الطبيعية على مقاسات دقيقة ومخصوصة.