دراما الأنا
رأيت من الأفضل البدء بمصطلح رائع للأكاديمي العراقي عبدالله إبراهيم “مدونة الفضائح” وهو يكتب بشكل عميق عن أدب الاعتراف، وهو محق تماما بدليل ما تعرض له كتاب لويس عوض “أوراق العمر” من سحب بسبب الضجة التي أثارها رمسيس عوض وسماها “بفضائح” فهذا اللون الأدبي الذي يختلف عن السيرة الذاتية تماما، في الواقع يتيح للكاتب فرصة التطهر ومواجهة الذات بجرأة غير عادية.
ظلت الكتابة عن الذات والتجارب العميقة والذاتية في الأدب العربي من الممنوعات أو المحرمات، باستثناءات قليلة تتمثل في رواية محمد شكري “الخبز الحافي” ومحاولات أخرى محتشمة، عكس الآداب الأجنبية والأوروبية تحديدا، نسجل هنا قائمة طويلة من العناوين المهمة أثرت المكتبة العالمية، ربما يعود سبب أدب الاعتراف في الأدب الأوروبي إلى ثقافتهم فكانت تلك النصوص بديعة وهي تغوص في عمق الذات في محاسنها وسقطاتها، نجاحاتها وخساراتها، ندرة هذا اللون الأدبي يعود أساسا إلى التخلف الذي عانت منه مجتمعاتنا المستعمرة بالإضافة إلى ثقافة المجتمع السائدة والكثير من الموانع والطابوهات التي تقف سدا منيعا أمام كاتب أو أي مثقف عربي ليكتب أدب الاعتراف على غرار كتاب “الأيام” لطه حسين و”أصابعنا تحترق” لسهيل إدريس، و”مذكرات طبيبة” لنوال السعداوي، لما يحتاجه أدب الاعتراف من شجاعة كبيرة وحقيقية لمواجهة المتلقي والعائلة والمجتمع بعيوبه ولحظات ضعفه عبر سنوات تشكلّه، فنجد الكتاّب على اختلاف توجهاتهم وثقافاتهم يلجؤون في أغلب هذه المحاولات الإبداعية إلى الانزياح نحو الرمزية والتستر وراء شخصياتهم الورقية ليكتبوا باستحياء عن ذواتهم المفجوعة عن الحب المستحيل أحيانا وعن ظروفهم القاهرة، إلى الآن ما يزال الكاتب باللغة العربية يقمع قلمه وذاكرته قمعا لتجنب الإثارة ومحاكم التفتيش المتعددة “محاكم العائلة والشارع والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية” فيتحول الكاتب وهو يقترب من حياته إلى رقيب داخليّ شرس يقمع بتشدد كل محاولة للتطهير الداخلي. حتى أولئك الذين كتبوا واعترفوا لم يتخلصوا بعد من الكذب والنفاق في تجميل حياتهم بشكل من الأشكال. حتى هذه السنوات التي عرفت فيها مجتمعاتنا التطور في التعليم والثقافة والنشر وإلى حد ما الانفتاح بقي أدب الاعتراف مسيّجا بجملة من الأعراف والقوانين غير المكتوبة.
شخصيا كتبت أول رواية وأنا في العقد الثاني من عمري، كانت قريبة من ذاتي، وقريبة من حياتي الشّخصية، هي في النهاية سيرة ذاتية في ثوب رواية، ربما بسبب فورة الشباب التي أسعفتني لأقول بشجاعة بعض أخطائي وبعض فشلي في أموري العاطفية، وهذا الفصل من رواية “المشاهد العارية” التي كتبتها رغم حداثة سني وأخطائي:
مــقتـــطف
“.. والآن هل بإمكاني أن أكتب عن ذلك الرمز(ف) كما كتبت دائما عنها؟ هل هي مجازفة حقيقية وأنا أعري تلك العلاقة المضطربة؟ وهل تسامحني (ف) كما تتسامح دائما؟
ثم إنه من الصعب أن يعترف الإنسان بأخطائه وضعفه، وخصوصا وأنا أعرض العلاقة الموسومة بالمشاهد العارية؟ صحيح أنا خجول من هذه الكتابة التي أرسم فيها رسما دقيقا للمشاهد، خجول من صورتين، صورتي، التي كنتها: الفوضوي والمشاغب والفاشل، وصورتها وهي تتقد ذكاء وحبا. وجمالا.
هو قدري أن أعود إلى رائحة الحبر، إلى الجلوس قبالة (ف) كما كنا نفعل قبل سنوات، كأن تلك الأحداث والمواقف الصعبة حدثت بالأمس القريب، بالتأكيد حدثت أمس، وهي تشجعني على الكتابة، بينما قلبي يقول لا:” لا تنزلي إلى البحيرة، لا تنزلي”.
كانت الحياة جميلة، فيروز تكبر في وطن كبير، في ليلة من ليالي الربيع، كنت شاردا، والد فيروز يحدثني عن غربته الطويلة، فيروز منهمكة في حلّ واجباتها، بغير قصد أراقبها، من حين لآخر أغادر بخيال مجنّح، نحو أفق أوسع وأرحب، في لحظة ما بدت (ف) أكبر بكثير مما كنت أعرف، هي ككل الفتيات في الرابعة من التعليم المتوسط، انتبهتُ إلى نظراتها المحمومة العميقة، هي النظرة الأولى التي اعتبرتها فيروز الخطأ الفادح الذي ارتكبناه سويا. عندما انزويتُ بعيدا في غرفتي الباردة، فكرتُ في طريقة تقربني منها، من علمها الجميل الفاتن.
وكانت الرسالة الحل الأخير، غامرت، فعلا وأنا أكتب لفيروز شعرت بإنسانيتي، بحريتي، بشعرية تتدفق من أعماقي، في الصباح وضعت الرسالة القصيرة داخل كتابها المدرسي، احتقرت نفسي كلما حدقت في وجه والدها الذي اعتبرني ابنه، كلما رأيت والدتها التي أحبتني كثيرا، كنت بشعا طيلة النهار أفكر في لحظة اكتشافها للرسالة الوقحة، كيف يكون ردة فعلها. هل تمزق الرسالة؟ هل تشتمني وتحتقرني؟
الزمن في مثل هكذا مواقف بطيء وقاتل وأسود، بطيء جدا، أعدّ الثواني والدقائق، هي الآن تعيد قراءة جملي العادية، هي الآن تحضر جملها الفظيعة التي تسمعني إياها، هي الآن تستعد للقتال، قتالي…قتلي بمعنى أدق.
في المساء رأيت فيروز بمئزرها الأبيض، طويلة وجميلة، كانت نشيطة، رأيتها عندما دخلت إلى المطبخ، عندما لاطفت أخاها الصغير، عندما فتحت كتابها كأنها تريد أن تقول لي رسالتك وصلت وقرأتها…وكم هي جميلة تلك العبارات الأنيقة. كانت تنظر إليّ بشكل مختلف، وأنا شعرتُ لحظتها بفرح طفوليّ.
بدأت قصتنا فعلا بابتسامتها الفاتنة المغرية، في كل حين أندفع نحو غاباتها، أغمرها بالرسائل الكثيرة، الطويلة. ولا مرّة قالت: أحبك، مع ذلك كنت أتخيل أنها قالتها”.