دفاتر الورّاق

فصل روائي
الجمعة 2021/01/01
لوحة: جوان خلف

قبالة فندق يقع على الشاطئ وقفت لدقائق أحدق بما لم أره قبل، ثم دخلت بتردد واضح، وطلبت من موظف الاستقبال غرفة لليلة واحدة تطل على البحر. فتّش في شاشة الحاسوب، ثم ابتسم “لحسن حظك هناك غرفة واحدة”. حينما دخلت الغرفة ونظرت من نافذتها وجدت الفارق بين صورة البحر في مخيلتي وبين صورته خلال نافذة لغرفة يعمها هدوء آسر.

ألقيت ببدني على السرير، ورحت أتأمّل الغرفة وموجوداتها. إنه عالم جديد لا يشبه العالم الذي نشأت فيه؛ هدوء يمنحك سكينة فريدة: بألوانه، بملمس أشيائه، حتى بالهمس القادم من الممرات قبل أن تفتح الأبواب ثم توصد. التقطت “ريموت كونترول” وضغطت على زر التشغيل فيه، فأضيئت شاشة تلفاز عريضة رحت أتنقل بين محطاتها: ثمة محطات تبث أخبارًا تبعث على السأم، وأخرى تبث مسلسلات تعاين مكابدة الإنسان في هذه الحياة. شعرت بملل يحل محل التعب الذي اقتادني إلى ذلك الفندق، فألقيت بي في حوض استحمام ملأته بالماء الدافئ لعلي أحظى باسترخاء يقودني للنوم. كانت غرفة الحمام فاخرةً ومؤثثةً بما لم ينله واحد مثلي كان يعتبر الاستحمام عقوبة؛ بسبب خشونة الليفة التي يحمرّ الجلد جراءها وأمي تدعكه بقسوة، وتحمر العينان لفرط ما يداهمها من رغوة الصابون النابلسي.

 بقيت نصف ساعة مسترخيًا لا أفكر بشيء، ثم خرجت واستلقيت في السرير، ولم يأت النوم. أخذ الشعور بالملل يفتك بي؛ إذ تخوفت من صحو ذلك الكائن. التقطت كُتيبًا يشرح ما يقدمه الفندق من خدمات، فوجدت أن ثمة ناديًا للرقص والغناء يتبع للفندق. لم يحدث لي في حياتي أن ذهبت إلى أمكنة مثل هذه؛ رأيتها في الأفلام العربية، وشكلت فكرةً بسيطةً عنها عبر ما قرأته من روايات. في تلك الليلة وجدت أن من المناسب ختام حياتي بخروج على كل سياقاتها المملة، والغارقة في خوف، ومهابة من كل شيء، خوف لم أجد له مبرراً يقنعني بضرورة ما أعيشه. ارتديت ملابسي، ثم غادرت.

اقتادتني ثلاثة أبواب إلى نادٍ رأيته مرتعًا لكل أشكال الإضاءات، وشعرت بصوت الموسيقى الصاخبة يحرك الجدران من مستقرها، بينما حلبة الرقص ملآى بالرجال والنساء اللواتي يتمايلن مع  الموسيقى بوَلَهٍ وخَدَر، بينما الأضواء الملونة تسقط على الأجساد بحركات عشوائية. جلس إلى الطاولات رجال ونساء وفتيات وشبّان، أمامهم أطباق من الطعام، وزجاجات خمر تقدمه نساء يلبسن تنانير ضيقة لا تغطي إلا ما تحت السرة.

انتبذت لي طاولةً، وجلست إليها لا أدري ماذا أفعل في ليلة مثل تلك. أتت النادلة واقتربت مني لتسمعني صوتها الذي يأخذه عن مسامعي ضجيج الموسيقى ومرتادو النادي، واستفسرتْ عمّا أريد من طعام وشراب، فطلبت مما عرضته علي وجبة خفيفة من اللحم المسلوق مع الخضار. استفسرتْ عن رغبتي بشرب شيء من الكحول. فكرت في سري “ولم لا؟ فلتكن ليلة صاخبة إذن). تذكرت لحظتها مشهدًا للدكتور “فالنتيني” في رواية “وداعًا للسلاح” وهو يتفقد قدم الملازم “فريدريك هنري”، ويتغزل بمحبوبته “كاترين باركلي”، ويعدها بزجاجة ويسكي فاخر. قلت وأنا أحاول أن يصلها صوتي بين كل ذلك الضجيج:

 – ويسكي، أريد زجاجة ويسكي.

ضحكتُ وأنا أستعيد أسلوبي الذي اجتهدت فيه لأبدو رجلًا اعتاد الشرب. ثم في لحظة لا أدري سرها تحولتُ إلى “فريديرك هنري”، واستحال كل شيء أمامي إلى زمن الحرب العالمية الأولى. رأيت الصالة تعج بالجنود وهم يرتدون بزّاتهم العسكرية، يراقصون على أنغام موسيقى ذلك الزمن حبيباتهم قبل ذهابهم إلى الحرب.

أتت النادلة تحمل أطباق الطعام وزجاجة الويسكي. وضعتها أمامي، والتقطت مكعبات ثلج وألقت بها في الكأس، وسكبت قليلًا من الويسكي عليها، رحبت بي ثم غادرت. حينما قربت الكأس من فمي لم أستسغ رائحته، لكني شربت جرعةً منه فانهالت في جوفي حارقةً. تناولت شيئًا من الطعام، وأتبعتها بجرعة ثانية، وتوالت الجرعات إلى أن وجدتني استسغت طعمه، وبتّ أحس بي كأن أجنحةً أخذت تدفعني للتحليق. رحت أهتز مع دفقات الموسيقى إلى أن وجدتني بين الراقصين أفتعل حركات لا إرادية في الرقص، وأدور حول نفسي كصوفي يسعى للسمو الروحي. رأيت الجنود وحبيباتهم يتوقفون عن الرقص، ويلتفون حولي وأنا أدور، وأدور، وأدور.

كانت رائحة الأجساد وعبق العطور تلفني من كل جهة. مرة واحدة انفجر من دواخلي صوت المجهول:

 -عليك أن تصحو؛ أنت لست فريدرك هنري؛ أنت إبراهيم الورّاق. كم مسؤول بين هؤلاء؟ وكم ابن مسؤول يعي أن في هذه البلاد فقراء لا دروب ميسّرة أمامهم؟ أنت طارئ عليهم، تمضي ليلةً واحدةً وتنتهي. هيا قم وابحث عن قواطع الكهرباء وأغلقها، ثم اعبر إلى المطبخ، واحمل أسطوانة الغاز وأشعلها، وأتبعها بأخرى، واجعل المكان يتفجر.

عدت إلى الطاولة أدلق كأسًا وراء أخرى، لعل ذلك الصوت يختفي، لكن لا فائدة. كل تلك الكؤوس لم تنقذني من صوته، وكل أثرها تبخر كأني لم أشرب شيئًا. دفعت ثمن تلك الليلة وغادرت عائدًا إلى غرفتي، والصوت يلاحقني أينما يممت وجهي: في الحمام، في الشرفة، في السرير، ثم اختفى. غمرت رأسي بالغطاء أُمنّي نفسي بالنوم استعجالًا للصباح، لكن طيور النوم لم تحلّق في سمائي، فرحت أحدق بالسقف؛ إذ استحال إلى دفتر للذكريات أخذني لاستعادة تفاصيل حياتي منذ أن بدأت أعي هذه الحياة. تذكرت أمي وأبي وأخي عاهد. تذكرت كم أنا وحيد. استعدت كل الكتب التي قرأتها، وشخصيات الروايات التي أمضيت أيامًا ولياليَ أتتبع خطاها في ورق ألفته أكثر مما آلف أي شيء آخر. تذكرت كل أخبار الصحف، والمشاهد التي رأيتها على شاشة التلفاز. تذكرت كم كنت بليداً لا لون لي، وأني سأغادر هذه الحياة من دون أن يكون لي أثر في هذا العالم، وأن كل ما تركته ورائي بيت معلقة على جداره صورة لأبوين ماتا، وأخ لا أحد يعلم عنه شيئًا. كم هو قاس اكتشافك أنك لم تساهم في صياغة حياتك، وأن الآخرين هم من صنعوها.

***

أطلّ الضياء يبدد عتمة ظلت تحاول اجتياز زجاج النافذة في ليلة كاملة أمضيتها أحدق بالسقف. لا أصوات تأتي من الخارج غير صوت آلة تقليم العشب في مساحات انتشرت حول الفندق، وصوت احتكاك ساقيّ ببعضهما في السرير. تمطيت في مكاني محدثًا ذلك الصوت الذي نطلقه حينما نمكث في مكان واحد لساعات طويلة. نهضت، فشعرت بدوار ألمّ بي: دوار غريب رأيت خلاله حياتي تستحيل إلى زوبعة، وأنا أقف في منتصفها أشاهد ما يجري من دون قدرة حتى على تحريك يدي، دوار يختلط فيه الفرح بالسأم، وبالخوف من أن الصباح أطل أخيرًا، وأنه ما تبقى من حياتي سوى دقائق معدودة.

مشيت بخطوات متكاسلة إلى السرير، وتكوّرت في منتصفه غامرًا رأسي بغطاء النوم، أهرب من مصير أذهب إليه بمحض إرادتي، لكن النعاس لم يقترب مني، كأنّ الله منحني صحو الكون دفعةً واحدةً، فأشحت الغطاء عن وجهي بعد محاولات عديدة، ورحت أراقب السماء الزرقاء الصافية وهي تبدو لي كصفحة تنتظر قلمًا مفعمًا بالبوح. دخلت الحمام، ورشقت بدني بالماء البارد. استخدمت غلاية كهربائية وأعددت كوبًا من القهوة وأنا أكابد صداعًا قويًا. سخرت من نفسي كيف أهتم بشأن ألم سوف ينتهي بمعية آلام كثيرة بعد دقائق.

من نافذة الغرفة لاح لي البحر ساكنًا، كأنه يغفو بعد ليلة بقي الليل فيها يحاول أن يسرق لونه الأزرق ففشل كعادته اليومية. جلست في كرسيٍّ في الشرفة، فرأيت الشمس تبزغ للتوّ من وراء الجبال الشرقية لجهة البحر، تنبئني بأن لحظة مغادرتي لهذه الحياة قد حانت، فامتثلت لما أتيت لأجله لكي أنقذ نفسي من جريمة لن يسامحني عليها أحد. لاح لي عبر الشرفة جسر خشبي يمتد من طرف الشاطئ إلى مسافة في الماء، فوجدته مكانًا مناسبًا لألقي بي من هناك، حيث سيكون الماء عميقًا، كعمق الموت الذي سيبقى يمد لسانه بوجه البشر من غير أن يعلموا أسراره.

حملت هاتفي وفنجان القهوة، وخرجت متجهًا إلى البحر عبر الممرات المتعرجة في ساحة الفندق، وقد قادتني إلى الشاطئ في لحظة كان فيها النزلاء يستغرقون بنومهم. لا أصوات تؤثث المكان سوى أصوات النوارس وهي تحلق في الهواء، إضافة إلى ذلك الصوت الذي تحدثه جموع أسماك صغيرة تفر من الماء معًا، وتعود مرة واحدة، مخلفة إيقاعًا جميلًا؛ لارتطام أجسادها به.

لم يدر بخلدي أني سأجد امرأةً تقف على طرف الجسر الذي قصدته لإنهاء حياتي. بدت لي مستغرقةً إلى الحد الذي جعلني أخفف من وقع خطواتي على الرمل إلى أن وصلت الشاطئ، فتهالكت مصابًا بتعب ليلة لم أنم خلالها، وبمشاعر غريبة كانت تنتابني بينما دقائق حياتي تتناقص. قلت لحظتها لا بأس من أن أنتظر.

 ارتشفت من كوب القهوة، ورحت أراقب البحر كيف يجسد أكبر فكرة عن الصمت. كانت المرأة ما تزال ساهمةً؛ لا يتحرك منها سوى شعرها البني، وقد تناثر على كتفيها مستسلماً لدفقات هواء خفيفة كانت قد انطلقت للتو. ترتدي “بروتيل” أزرق سماوي، وتنورة بيضاء تهتز أمام الريح في شاطئ خلا إلا مني ومنها. أشحت بصري عنها، واستلقيت على الرمل معبئًا رئتيّ بهواء شعرت به لذيذًا، وكأننا لا نستسيغ طعم الأشياء التي نعتادها، ولا نحس بجدواها إلا حينما ندرك أننا سنتركها إلى غير عودة.

 كانت السماء صافيةً يروح فيها البصر إلى حدود اللانهاية وأنا أراقب امتدادها الفسيح. سعلت من دون قدرة مني على كتمان صوتي الذي وجدته قد بدد عزلة تلك المرأة حينما التفتت إليّ. رفعت يدي أومئ لها معتذرًا. وجهت لي نظرة خاطفة، وعادت إلى شرودها فاكتسحتني سكينة مفاجئة. أسندت رأسي بذراعي، ورحت أراقبها وهي تقف قبالة البحر. خمنت أشياء كثيرةً وراء تلك اللحظات الاستثنائية، فوجدت نفسي أغرق بما رأيته كأنني أمام لوحة لامرأة تحاور البحر. فتحت هاتفي النقال، والتقطت لها صورة من دون أن أفكر أنها سترافق (بدل سترافقني) مقتنياتي إلى الماء. كان المنظر استثنائيًا لم أقو على تجاهله؛ إذ بدت لي حزينةً، شاردة الذهن. تخيلتها تذرف دمعاتها بهوادة، وعلى مهل. وتخيلتني أقترب منها أمد أصابعي إلى وجنتيها، وأمسح دموعها، ثم أضمها إلى صدري فتروح في بكاء هادئ.

“يا إلهي، تهاجمني هذه المشاعر للمرة الأولى، كأنني كنت مصابًا بمرض عضال وشفيت منه” قلت ذلك، ووضعت رسغي على عيني، ثم رحت لدقائق أستعيد تفاصيل ذلك المنظر. ثمة وقع لخطى على الرمل أخذ يقترب مني شيئًا فشيئًا. كانت هي؛ تحمل بيمناها حذاءها، وبيسراها رفعت تنورتها الطويلة، فكشفت عن ساقين بيضاوين قبالة زرقة البحر. عندما اقتربت مني نهضت معتذرًا:

– المعذرة، يبدو أنني بددت عزلتك.

ثمة ملامح تبدو عادةً في وجه من يتفاجأ بشخص ما وجدتها في وجهها الطفولي الهادئ، وعينيها السوداوين، إذ ضاقتا قبالة أشعة الشمس التي كانت قد أطلت للتو، فمسحت الشاطئ بالذهب. افتعلتْ ابتسامة، وقالت وهي تنظر جانبًا:

– لا بأس. ربما أنا من بدد عزلتك. لا يأتي إلى البحر في هذه الأوقات سوى من يحتاج أن يرى نفسه مليًا، أو…

لكنها لم تكمل، بدت عبارتها مبتورةً. قلت وأنا أراقب ملامحها:

– يمكنك أن تجلسي.

لـمَّت تنورتها، ثم جلست ساحبةً قدميها إلى الأمام:

– يبدو أنني نسيت ولاعتي. هل أجد معك واحدة؟

– المعذرة أنا لا أدخن.

– لا بأس.

قالت ذلك ونظرت صوب صياد عاد للتو من البحر، فقلت أبدد الصمت:

– يبدو أننا نأتي إلى البحر لأنه كاتم الأسرار، فلا نرى منه سوى وجهه المائي، بينما في أعماقه هنالك كثير من الحكايات التي لا يعرفها سوى من يركب موجة المغامرة.

صوّبت نحوي نظرةً غريبةً لم أفهمها:

– كنت أعمل ورّاقًا في وسط البلد في عمّان.

لم تبدِ أي اهتمام بما سمعت. قالت بصوت متراخٍ:

– كنت أهبط إلى وسط البلد مشيًا على الأقدام.

 بدت لي قد غرقت بالتفكير بشيء بعيد وهي تتأمل البحر. قالت:

– ربما نأتي إلى البحر لنسترد وجهنا الذي سُرق.

ثمة خصلات من شعرها كانت الريح ترفعها كاشفةً عن عنق طويلة، طوقتها سلسلة ذهبية حملت حرف (N).

قلت:

– رغم أن البحر محطة للرحيل أكثر مما هو محطة للإياب، فإننا نلوذ به في لحظات انكسارنا.

التفتت إليَّ وقالت بعينين حزينتين:

– لماذا التقطت لي صورةً؟

اجتاح بدني تيار عارم من الخجل أعاقني عن الإجابة:

– كيف عرفت؟

– سمعت صوت هاتفك وهو يشير إلى أنك التقطت صورةً. أقتني واحدًا من النوع نفسه.

فتحت هاتفي لأحذف الصورة، لكن يدها امتدت إلى يدي تثنيني عن فعل ذلك:

– اتركها. فقط أردت أن أعرف السبب.

– ربما استثنائية المنظر هي من جعلتني أفعل ذلك.

تساءلت ساخرةً بأسى:

– استثنائي؟

– حينما يلوح الحزن من امرأة جميلة تقف قبالة البحر في لحظات كهذه فهو استثنائي.

ابتسمت مرةً أخرى:

– ربما كان عليّ أن ألتقط لك صورة بالمثل. فالحزن أيضًا عندما يتضح في وجه رجل كان يمشي على رؤوس أصابعه حتى لا يبدد عزلة امرأة على الشاطئ حريٌّ باحترامه.

قالت ذلك ونهضت ثم صافحتني:

– عليّ أن أغادر الآن. تشرفت بك.

قلت وهي تمضي في طريقها حاملةً بيمناها حذاءها، وبيسراها ترفع تنورتها:

– ما اسمك؟

التفتت إليّ ومنحتني ابتسامةً أخرى، بينما علا صوت النوارس، وصوت ارتطام جموع الأسماك بالماء:

– ليس مهمًا.

بقيت أراقبها، إلى أن توارت وراء البوابة الزجاجية للفندق، وما عدت أرى شيئًا يتحرك سوى أشجار النخيل وهي تهتز كامرأة تتمايل بهدوء أمام تدفق موسيقي آسر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.