دلو السرطانات
إن أكبر مشكلة يواجهها الناس في هذه الأفضية الجديدة التي وجدنا أنفسنا مقذوفين في لججها ومفتونين بسحرها، أنها تمنعهم من تكوين رأي شخصي بعيدا عمّا يتم تداوله ونشره، فغزارة الأخبار والصور والفيديوهات التي تتدفق من صفحات مؤثرة وشخصيات تتمتع برأسمالية “لايكات” كبيرة وطاغية، توحي للمتلقي بأنه لا داعي للتفكير، فهي التي تفكر بدلا عنه، وما عليه سوى أن يعتنق رأي الأغلبية التي تتابع هؤلاء المؤثرين وقادة الرأي بالملايين، ويضغط على إيموجي الإعجاب، أي أن عليه أن يصدق ما يقولونه ويقررونه فقط، دون مناقشة أو محاججة، لكأن الحقيقة هم فقط من يعرفونها ويستفردون بنقلها من منابتها الأصلية، وإلا فأنت منبوذ وناقص عقل وخارج عن الجماعة/الحشد وشارد عن السائد، أي أن صوتك دون قيمة كما في الحشد الحقيقي.
لقد بات الكثير من المستخدمين ممنوعين من ملَكَة تكوين رأي شخصي مستقل، وذلك بسبب الطوفان الرقمي الذي يغمر الجميع دون تفرقة، مع طغيان آراء المؤثرين الأكثر متابعة على المنصات الاجتماعية، الذين يجيدون مداعبة الكوامن النفسية والفكرية للحشود الافتراضية، الأمر الذي يؤدي عادة إلى الاستسلام للتيار الجارف و”الانضمام إلى الصف” واعتناق رأي الأغلبية والتخلي عن الرغبة في معرفة ما يجهله الآخرون مع فتور مريع في إرادة السعي نحو امتلاك سرديات وحقائق أخرى بناء على مَلَكات الفرد وقدراته الإدراكية الذاتية، وهذا الأمر شبيه بما سطّرته نظرية يابانية قديمة كانت تسمى “نظرية دلو السرطانات”، والتي تقول إنه عند وضع مجموعة من السرطانات/السلطعونات، في دلو على شاطئ البحر، فإن كل من يحاول الخروج من الدلو تقوم البقية بالانقضاض عليه ومنعه من الخروج، لذلك اعتبر اليابانيون كل من يريد الهجرة للدراسة أو العمل أو اكتساب معارف جديدة خارجا عن روح المجتمع في ذلك الوقت، ومعاديا لما كان سائدا، وهذا ما يحدث بالضبط في المجتمع الافتراضي الذي تتحكم فيه فواعل موجهة، تنتهي عندها جميع الخيوط فتتلاعب بالأفراد كما تشاء وتخضعهم لأعرافها وقوانينها، ولذلك فإنه من الأهمية بما كان، أن تتعزز لدينا غريزة البحث وتقليب الحقائق ومقارنتها، واكتساب مهارات التفكير النقدي، وإلا سنظل في دلو “السرطانات الرقمية” أبد الدهر، غير قادرين على معرفة العالم الحقيقي خارج الأطر المُعدة سلفا.
طوفان الكراهية وسوء التأويل
زيادة على ذلك، يبدو أننا نعاني من مشكلة سوء تأويل مزمنة، ليست مقتصرة على النصوص الدينية المقدسة أو الدساتير والقوانين الوضعية والأحداث الراهنة فحسب، وإنما يتعدى ذلك إلى المعيش الاجتماعي، من خلال سوء تأويل الآخر لمواقفنا وأفكارنا ونياتنا الدفينة، بناء على تمثلاته وأوهامه وهواجسه، فيمارس علينا هذا الآخر نوعا من “القراءة الطباقية” بتعبير المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، لكن بتوجيه سلبي متعمد مغلف بالظنون والاتهامات المبيتة.
هذه المشكلة تتفاقم على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تمارس الكثير من “الكائنات المعلوماتية” عربدتها التأويلية وتعقد محاكمات لكل منشور لا يتساوق مع ما تريده وتشتهيه، أو يناقض “الانحياز التأكيدي” الذي درجت على بناء ردود فعلها المعيارية وفقا له، خصوصا أن هذه الأفضية، خلقت مجتمعا شبكيا متناقضا، هوية كل واحد من أفراده هي حكاية أو سردية والجميع يمنحون هوية لبعضهم البعض، بشكل قد يكون معاكسا تماما للواقع، حتى غدت هذه المواقع ساحة معركة حقيقية، ومحاكم تفتيش تنصب المشانق لكل ضحية جنى عليها سوء التأويل المدفوع بنزوات وتحيزات عمياء غير قابلة للدحرجة.
إنه لأمر مألوف اليوم أن نشهد في خضم الإغراق المعلوماتي ومع كل خبر أو منشور، بروز كائنات معلوماتية، في الغالب مجهولة أو عبارة عن بوتات وخوارزميات، مهمتها “التحريش والاستدراج” ونشر الكراهية بين مختلف الأطراف لدفعهم نحو الصدام والشقاق، باستخدام “الوسوسة الرقمية” التي تطال مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فلا غرابة أن تنتشر فيديوهات وهاشتاغات ومنشورات، أصحابها يؤدون دور الشيطان بامتياز، من خلال نفث السموم الممزوجة بالكثير من المغالطات والأكاذيب والجهالات.
التهديد الرقمي للفطرة الإنسانية
لقد صارت الفطرة الإنسانية مستهدفة على هذه المواقع والمنصات، لأن بيئة الإعلام الحالية تؤثر في المستخدم وفي وعيه، فهو يتشكل بها وفيها، لكن ذلك، للأسف، يجعله “مشوها” إذا استعرنا التسمية الواصفة التي أتى بها سالفا جون جاك روسو للدلالة على قوة البيئة المحيطة ودورها في إحداث التغيير على شخصية الإنسان وسلبه لفطرته وطهره، لِما تعرفه البيئة الرقمية من ظواهر إثنوغرافية وممارسات وتفاعلات ذات تأثير قوي جدا على الفرد خاصة والمجتمع عامة.
فالفطرة الإنسانية مستهدفة، ومواقع التواصل الاجتماعي باتت المكان/السوق الذي أباض فيه “الشيطان الرقمي” وأفقس، إنه على الدوام يتطور ويتكيف مع مستجدات كل عصر ليحقق وعده؛ ولا مندوحة من الاحتراز منه رقميا أيضا بتعويذات خاصة جدا، من خلال التفكير النقدي والكثير من العقلانية، فأنت على رأي أحدهم، لست خاضعا لأيّ حتمية بإمكانها أن تبقيك نفس الشخص الذي كنته قبل عام، أو قبل شهر، أو حتى قبل يوم واحد فقط، أنت هنا من أجل أن تخلق نفسك باستمرار دون أن نغفل عن دور المدرسة في بناء أجيال مفكرة وعقلانية، فلا خير في نظام تعليمي عاجز عن جعل الطلاب والتلاميذ يمسكون بناصية التفكير والشك والسؤال ومهارات الاتصال.
الاتصال المؤسسي وحروب الرأي العام
غير محمود في الأعراف الاتصالية أن تكون البيانات والأخبار الرسمية ضبابية وحمالة أوجه، فهي إن كانت ذلك، فمعناه أنها لا تمنح أيّ اعتبار للمضاعفات الاستراتيجية للمعلومة، كونها وفق هذا المنظور، لا تفسر بدقة الحدث أو تجتزئه من صورته البانورامية، ولا تجيب على جميع الأسئلة بل تتركها مفتوحة تحيل على تفاسير وتأويلات مختلفة ومتضاربة، مما يجعل الرأي العام نهبا للشائعات والأخبار المضللة التي تنتعش وتنمو في البيئة غير المخصبة بالمعلومات الصحيحة والوافية، ولا تلبي الحاجات المعرفية للناس ولا تشبعها (والشيطان يختبئ داخل التفاصيل).
إن الاتصال عصب الحياة المعاصرة، ورأس الحربة في الحياة دائمة الاتصال التي نحياها، والمعروفة ببيئتها المتغيرة المملوءة بفواعل وصيادين وأجندات وأيديولوجيات مختلفة، يمكنها التلاعب بالمعلومات وإعادة إنتاجها ونشرها وفق ما تخطط له، باستخدام تقنيات فائقة، لاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي، كالبوتات (روبوتات الإنترنت) والخوارزميات المتحيزة وغيرها من الأدوات الرقمية، من هنا يجب أن نعي حساسية القضية وضرورة إسناد الوظائف الاتصالية للكوادر المتخصصة والخبرات العالية في هذا المجال، لأن الأمر لا يتعلق بأخبار عن سقوط رجل في حفرة، بل عن حفرة لإسقاط دول، لذلك فالأجدى أن تسند مهن الاتصال والعلاقات العامة للمتخصصين الذين يملكون ذخيرة علمية صلبة ومهارات تقنية عالية مع الكفاءة والاستحقاق، خاصة إذا تعلق الأمر بالمؤسسات الحساسة في الدولة، حتى لا تصير هذه الأخيرة فاشلة اتصاليا ومشلولة أثناء أيّ عدوان أو هجوم إعلامي منظم على الرأي العام، فيسهل توجيهه ورصّه في خندق واحد، لقيادته ضمن قطيع منظم ضد المقدس أو ضد الحقيقة أو ضد الرأي المخالف أو ضد الوطن والمجتمع برمته.