دم ساخن
قد نتفق إجمالا على عدم وجود صورة المراهق والمراهقة في الثقافة العربية بمختلف مجالاتها، وإن وجد في السينما أو في التلفزيون فهو يوجد بصفته ابنا مطيعا مساعدا لوالده في العمل. وتُختزل نظرةُ مجتمعاتنا تجاه مرحلة المراهقة في الجانب الجنسي، وفي تحولات الجسد واكتشاف تضاريسه.
هذا «الملف» لفت نظري إلى أنني تناولت شخصية المراهق في مجموعتي القصصية «سالفة طويهر» الصادرة عام 2013، ولم أشر بشكل مباشر إلى أنه يعيش مرحلة المراهقة، ولم ترد لفظة المراهقة في القصة، ولكن تناولت الشخصية في تلك المرحلة، مرحلة ما بعد المرحلة الابتدائية التي فشل طويهر في اجتيازها، مما اضطرّ للعمل في وظيفة «فرّاش» أو مستخدم، ومن هنا يبدأ المونولوج الداخلي لطويهر حول كيف أن تعثّره الدراسي وقف عائقا أمام تحقيق أحلامه، فيقارن بين ذاته وبين المعلمين.
وفي العام 2015 كتبت قصة «جمرة الأصدقاء» -لم تنشر بعد- وتتناول قصة أربعة أصدقاء يعيشون في الأعوام الأخيرة من مرحلة المراهقة، شباب يسمعون الأغاني في مجتمع يحرّم سماع الأغاني، يرفعون صوت مسجّل السيارة، ويمرّون في شوارع القرية دون مبالاة أو خشية من أحد. لكن المراهق الذي يكتشف عالمه بطريقته، يعيش حياته دون خوف أو خشية من أحد، بل على الكبار -والمجتمع- أن يخشوهم ويخافوا من جرأتهم ونتائج مغامراتهم.
شخصية المراهق ثرية بحالتها النفسية وبتحولاتها على مستوى الجسد واكتشافاته، وعلى مستوى النضج العاطفي في البحث عن صديق أو حبيبة، ففي فترة المراهقة تبدأ رحلة البحث عن الأصدقاء؛ فنراه ينتقل من صديق إلى صديق إلى أن يعثر على من تسكن إليه روحه.
فترة المراهقة ثرية على المستوى الفني في الكتابة؛ يبدأ باكتشاف العالم، ويبدأ بانتقاد المجتمع، تبدأ شخصيته تتشكل من جميع جوانبها الاجتماعية والدينية والثقافية والعاطفية والجسدية.
الكتابة عن شباب في مرحلة المراهقة فيها عنفوان وحرية، الكتابة عن هذه السن تمدّ الكاتب بالحيوية والحرية، تجعله يكتب بدم ساخن وبشعور متوهّج، المراهقة فترة بلا عقل فترة عاطفية مشبوبة،، ذلك أنك تكتب من دون حساب أو عقلانية، فأنت لا تكتب عن رجل في سن الخمسين يتوخى الحذر في كل خطوة، يخشى أن يحاسبه المجتمع على أخطائه، أو يخشى من أولاده أو يخاف من خصام مع زوجته، بل تكتب عن شاب مقبل على الحياة، يتخذ قرارا ليرى، ليكتشف قدراته الجسدية ومغامراته العاطفية، يعيش ليعرف قدرته على الشجار والخصام والفراق، شاب حيوي يعمل ثم يخاف.
أمّا الكتابة عن رجل فأنت تكتب عن شخص يخاف ويخاف ويخاف، ثم يعمل وهو خائف، ينتظر رأي الآخر في ما عمل ويخاف ممّا عمل، المراهق لم يتعلم الخوف بعد، بل هو لم يعرف الخوف بعد، هو يتعلّمه بعد أن يعمل، بعد أن يسمع آراء الآخرين، يتعلم الخوف من محيطه، يتعلم كيف يخاف، وأن عليه أن يكون في حالة خوف دائم، فتكون الكتابة خائفة متوجسة مخنوقة.
أما الكتابة عن المراهق فأنت أمام مساحة حرة مفتوحة بلا حدود، هكذا تنتقل الحالة إلى الكاتب على الورقة، فالمراهق هو في حالة البحث والاكتشاف والتعلّم، والاكتشاف في حدّ ذاته متعة الحياة، في نسيجه رغبة التعلّم للعثور على المعرفة والمعلومة، وهي مرحلة حيوية منعشة تغذي الدماغ بالأفكار وتضخّ الدم في العروق، تسمح للمغامرة بأن تغريك، وتدعوك إلى أن تمضي وتتقدم من دون تردد تفتح ذراعيها لتستقبل شبابك وقوتك، الطريق أمامك مفتوحة للركض، هذي هي الكتابة عن المراهقة، حيث البطل حرّ وغير مبالٍ لأنه لم يصل إلى النتائج بعد، فهو يصل إلى النتائج عندما يصير رجلا، نتائج الآخرين وقناعاتهم هي التي تقيّد الرجل وتحبسه، تطلب منه أن يتريث ويتعقّل ويحسب خطواته، المراهق لم يعرف الخيبة بعدُ ولا الإحباط، ولم تكتمل تجربته ولم يعرف شخصيته بعدُ، بل هو يرسمها أو يتعرف عليها وعلى نفسه في فترة المراهقة، ورغم كل التحذيرات والوصايا من الذين هم أكبر منه سنا، إلا أنه لا يأبه ولا يلتفت، ذلك لأن روح المغامرة غير مقيدة، أقوى من جسد الوصايا وبرهان التعليمات، هذا ما تفعله الكتابة عن المراهقة عند الكاتب.