دوريان أستور: الشغف باللايقين

الأحد 2020/11/01

وُلد دُورْيَانْ أَسْتُورْ سنة 1973 في مدينة بيزيي جنوب غربي فرنسا، وهو فيلسوف مختصّ في اللّغة والأدب والحضارة الألمانيّة. تلميذ سابق بدار المعلّمين العليا بباريس (حيث درس من قبله برغسون وسارتر ومارلو بونتي وميشيل فوكو)، التي تحصّل فيها على شهادة التّبريز في الألمانيّة، ثمّ التحق بمعهد الموسيقى بأمستردام أين تتلمذ في الغناء على يد أودو راينمان.

صدرت لدوريان أستور سيرة الفيلسوف الألماني الكبير “نيتشه” سنة 2011 عن دار غاليمار، ونشر سنة 2014 مُصنّفا تحت عنوان “نيتشه.. ضيقة الحاضر”، ثمّ أشرف على نشر “مُعجم نيتشه” سنة 2017 عند دار روبار لافون. شارك الفيلسوف والمترجم مارك دي لوناي نشر الجزء الثّاني من أعمال نيتشه في السّلسلة الشّهيرة “لا بلاياد”، وصدر الكتاب سنة 2019. ترجم دوريان أستور سيغموند فرويد إلى الفرنسيّة (“قلق في الثّقافة”، 2010؛ “مستقبل وهم”، 2011؛ “الطّوطم والحرام”، 2013؛ “موسى الإنسان والدّين التوحيدي” 2019)، كما كتب سيرة الأديبة الألمانيّة لو أندرياس سالومي (غاليمار، 2008). لدوريان أستور مجموعة من الكتب الشّخصيّة مثل “كُنْ نفسك. من أجل حياة فلسفيّة”. (منشورات أوترومون، 2016) وصدر له يوم 30 سبتمبر/أيلول الماضي عن دار “لوبسرفتوار” بباريس كتاب جديد تحت عنوان “الشّغف باللاّيقين”.

الجديد: يحتوي كتابك الجديد، “الشّغف باللاّيقين”، على ثمانية وستين نصّا تتقارب في الطّول وكلّها مشبعة بعناوين. هل يمكنك قصّ نشأتها علينا وشرح الأسلوب والمنهجيّة المعتمدة والتّعريف بضرورة عمل كهذا؟

دوريان أستور: صغْتُ عبارة “الشّغف باللاّيقين” في كتابي عن نيتشه “ضيق الحاضر” الصّادر سنة 2014، عن الشّكل الفريد جدّا للشكّ الّذي دافع عنه نيتشه مُلقّبا إيّاه “شغف جديد” للحقيقة التي تمرُّ عبر إقرار الطّابع غير المؤكّد، الملتبس، المتناقض لكلّ الأشياء. ولقد أعدتُ استعمال هذه العبارة في مقال صدر في الكتاب الجماعيّ “لماذا نحن نيتشويّون؟” الصّادر سنة 2016، حيثُ حاولتُ إظهار أنّ منظوريّة نيتشه لا تمتُّ للنّسبيّة بصلة، بل على العكس هي “في خدمة الحقيقة الصّعبة”. في البداية، كنتُ أريدُ إكمال أشغالي حول هذا الموضوع بدراسة عن الشكّ، بعمل كان سيكون كذلك تقريظا للشكّ السّعيد على طريقة الفيلسوف مُونْتَانْيْ. لكن، شيئا فشيئا، أخذ المشروع وجها قاتما، وأصبح أكثر جديّة. كان عليّ أن أسلّم بالأمر: اللاّيقين معاناة، وكلّ الأحياء يُحاولون التغلّب عليها، ولا يجب رمي مثل هذه النّزعات عرض الحائط. إنّها فعلا المقاربة النّفسيّة المتصلة بنوازع اليقين واللاّيقين التي أثّرت في شكل نصّي وأسلوبه. إنّه مستوحى جزئيّا من شكل كتابة الشّذرة لكبار كتّاب تيار “الأخلاقيّين الفرنسيّين” الذي أزهر في القرن السابع عشر، ولنيتشه نفسه.

بحثاً عن جديدصورة

الجديد: يتصدّرُ كتاب “الشّغف باللاّيقين” هذا الإهداء:”إلى أ.، يقينيّا”. كذلك الشّذرة السابعة والستون تحمل عنوان “من أجل أ.” هل يمكنك إخبارنا المزيد عن هذه الشخصيّة الملهمة والغامضة على حدّ سواء؟

دوريان أستور: ليس لديّ ما أقوله عن “أ” أكثر ممّا يلي: لقد أصبحت هنا نوعًا من الشّخصيّة المفهومية، تُجسّدُ اختبار الآخر، وهي بذلك شهادة على ما يُضيف إلينا يقين وشكوك الآخر، اللذان يهزّان اليقين الخاصّ بنا ويُمكّناننا من مراجعة ذواتنا. لكي يكون هذا التّغيير مُمكنًا، نحتاجُ إلى الحبّ، لكنّ الحب لا يتغلّب على وجهات النّظر المتضاربة. هذا الكتاب هو أيضًا أثر لفشلي وأخطائي الّتي تفرض اتّجاهات جديدة للفكر. على أيّ حال، تعلّمتُ من “أ” أنّ اليقين والشكوك يمكن أن يكونا معاناة كبيرة، وأنّ القلق الوجودي له علاقة بعدم اليقين في الماضي أكثر ممّا يمكن أن يكون في المستقبل، كما أنّ هذا الأخير هو نتيجة الأوّل.

بشكل عام، أردت استكشاف هذه المفارقة الواضحة القائلة بأنّ الحب وحده هو القادر على التّعبير عن عدم اليقين بالثّقة والرّضوخ – هذه هي الطّبيعة السّامية للإيمان، دينيًّا أم لا. وبالمثل، يمكنُ ربط هذا اليقين بالكراهية، ممّا ينتج عنه عدم الثّقة والنّفي – وهذا هو خطر التعصّب، دينيًا أم لا. أطروحتي هي أنّ أفضل شكل من الشكّ يتعلّق بما يسمّيه نيتشه، بعد الرّواقيّين، “amor fati”، حبّ القدر. هذا هو السّبب في أنّ زرادشت، الذي يقول نيتشه إنه متشكّك كبير، يعلّمُ حبًّا جديدًا واحتقارًا جديدًا، نَعَمٌ ولاَ من طبيعة جديدة.

الشك الخلاقصورة

الجديد: نعيش فترة “خطرة”، حيثُ المجهول واللاّيقين يتماهيان. هل يمكن للفلسفة أن ترينا نهاية النّفق وأن تُمكّننا من إخراج رؤوسنا من الماء؟ بطريقة أخرى، هل يمكننا “كتابة الشّعر” والتّساؤل، على طريقة الفيلسوف أدورنو، إن كان “بربريّا” فعل ذلك في زمن فايروس كورونا، علما وأنّك كتبت مقدّمة “الشّغف باللاّيقين” خلال شهر جوان/حزيران 2020؟

دوريان أستور: ليس من البربريّ كتابة الفلسفة في زمن الكوفيد. يمكن للمرء أن يخشى أن تكون الفترة بطريقة ما بربريّة؛ وإذا كان الأمر على هذا النّحو، فذلك على وجه التّحديد لأن الدّوغمائية والتعصّب والتحيّز والأكاذيب والافتقار المفترض للحلول، كل هذا يصل إلى مستويات عبث وعنف مقلقة بشكل خاصّ. اصطلاحا، لطالما كان المستقبل غير أكيد، لكنّنا مهدّدون بدرجة أقلّ من اللّايقين بقدر ما يهددنا، من ناحية، الإفراط في اليقينيّات السّخيفة وفي الصّراع مع بعضنا البعض، ومن ناحية أخرى، من خلال الإنكار الرّاديكالي لعدد معيّن من الحقائق الواضحة للغاية التي تذهلنا لدرجة أنّها تشلّنا. تبدو لي الكارثة البيئيّة، الرّعب الاقتصادي والتّراجع السياسي تعبيرا عن هذا اليقين، لكنّها لا تؤثر تقريبًا على مقدرتنا على التّفاعل أو الردّ. لذلك فإنّ الخطر ذو شقّين: أكاذيب قاتلة تُظهرُ نفسها على أنّها حقائق، وحقائق مفيدة نأخذها على أنّها أكاذيب، وبعبارة أخرى تحالف التعصّب والتآمر، شكلان متعاكسان في المرآة للبارانويا. قال لاكان إن الذُّهاني يعاني من يقين رهيب. لِذَا، نعم، في مواجهة هذه الأمراض النّفسيّة لحضاراتنا (قلّما نجت حضارة…)، من الضّروري للغاية أن تستمرّ الفلسفة والفنون والعلوم في تكريس عدم اليقين، الشكّ، التّساؤل، الغموض، الافتراضيّة، التّعدديّة، مع الحرص على الحفاظ على أنماط شهاداتهم، أي إجراءاتهم النّقديّة لتأسيس “حقائق” فلسفيّة وفنّيّة وعلميّة. إذا كانت الحقيقة غير أكيدة، فإنّ الشّغف الجديد بالمعرفة، كما قال نيتشه، سيكون “شكًّا مُطْلَقًا”. ليس شكوك الجبناء (لا نعم ولا لا)، لكن شكوك الشّجاعة والفضول، لأنّ العالم يتكوّن من “ربّما خطر”. هذا ما أسمّيه “الشّغف باللاّيقين”.

الإرث النيتشويصورة

الجديد: أنت من أهمّ الخبراء الدّارسين لنيتشه كتبت سيرة حياته وساهمت في نشر أعماله الكاملة، فيم تتجلّى حسب رأيك قيمة “الفيلسوف الفنّان” اليوم؟ كيف يبدو في ضوء ما نعيش ضاربا في الأهميّة؟ كما أنّك تضعُ نفسك تحت رايته بما أنّ شاهدين يفتتحان “الشّغف باللاّيقين”، وهما مُقتطفان من “المعرفة المرحة” و”هذا هو الإنسان”. هل يُمكنُ الحديث عن إرث نيتشوي؟ وإن كان ذلك صحيحا، فما هي قيمته الفلسفيّة والتّاريخيّة؟

دوريان أستور: سؤالك مركزي وساخر: لأنّه من المشكوك فيه للأسف أن يكون للفنّان الفيلسوف اليوم أيّ تأثير على الحضارة. كان نيتشه يحلم، مثل أفلاطون، على التّشريع على مدى عصور بأكملها من خلال خلق قيم جديدة، وقد شعر بالفعل أنّ الفيلسوف، مثل الفنان أو السّياسي العظيم، هو اليوم مذنب ساطع في السماء ثمّ يختفي دون أن يترك نسلا. أثارت هذه الملاحظة فيه بالتّحديد “ضيق الحاضر”، ممّا جعلتُ منه عنوان كتاب. جوهريّا، الضّيق دائمًا هو الّذي يؤدّي إلى الخلق: تحدّث دولوز، على غرار بريمو ليفي، عن “عار أن تكون إنسانًا”. يشعرُ زرادشت بالخزي في وجه الإنسان المعاصر، وحتى بالاشمئزاز، ويجب التغلّب على ذلك، الاشمئزاز والإنسان، وهذا ما تعملُ عليه الحكمة. كان يقول أنّ الإنسان مرض جلديّ على الأرض، والحالة البيئيّة لكوكبنا تُشيرُ إلى أنّه كان على حقّ.

لكنّ الفيلسوف حسب نيتشه ليس فقط فنّانًا (خالق القيم وطرق التّفكير الجديدة والشّعور والعيش)، ولكنّه أيضًا طبيب الثّقافة. يعتقدُ فرويد أن الدّين والأخلاق شكل من أشكال العصاب الجماعي؛ نيتشه، من ناحية أخرى، أعتبر الحداثة نوعًا من الهستيريا. أخشى أن يكون عصرنا، كما قلتُ، يتميّز بشكل جماعي من صفات ذُهَانيّة. بهذا المعنى، يبدو أنّ الفيلسوف الفنّان والفلسفة – الطبّ ضروريّان أكثر من أيّ وقت مضى. لكن هل لديهم أيّ قوّة؟ فعلا، لا أعتقدُ أبدا.

أكاذيب قاتلة تُظهرُ نفسها على أنّها حقائق، وحقائق مفيدة نأخذها على أنّها أكاذيب

أمّا بالنّسبة للإرث النّيتشوي في كتابي، فهو متواضع للغاية، لكنّه حقيقيّ. الشّكل، كما قلتُ، مستوحى من الأقوال المأثورة، في فقرات موجزة، استخدمها نيتشه: أحد نماذجي كان بلا شك كتاب “فجر”، هذه التّحفة الفنيّة غير المعروفة (نسبيّا) مقارنة بأعمال نيتشه الأخرى. في الجوهر، اتّخذتُ من نيتشه نهجًا غريزيّا للقيم ورغبتنا في الحقيقة. لم أكن أرغب في التعامل مع اليقين واللاّيقين من وجهة نظر معرفيّة، فالفلسفة التّحليليّة والعلوم المعرفيّة وحتىّ “علوم” الإدارة قد أغلقت موضوع ما يسمّونه “اتّخاذ القرار في حالة عدم اليقين”، بشكل عام على نموذج احتمالي يخون التخيّل التّفجيري للذّنب الكامل الذي انتقده كثيرًا الفيلسوف برنارد ستيجلر. بالنّسبة إليّ، فإن اليقين واللايقين هما قبل كلّ شيء مشاعر، نوازع – شغف – مرتبطة بالخوف والقلق والحاجة إلى الضّمان والأمن والسّيطرة، وهي متأصّلة ليس فقط في البشر، ولكن في جميع الأحياء. باختصار، إرادة اليقين هي إرادة القوّة. نيتشه، كما قلتُ، ميّز شكّ “الضّعف” وشكّ “القوّة” (هذه مفرداته). يجبُ أن نتساءل عما هو شغف باللاّيقين والذي يعبّر عن إرادة القوّة الجديدة.

نيتشة والاسلام

الجديد: في “مُعجم نيتشه”، كتب فابريس دي سالياس “من الواضح أنّ نيتشه لا يمتلك عن الإسلام إلاّ معرفة ثانويّة”. ما رأيك في ذلك؟ ألا يتضارب ذلك مع ما كتبه الفيلسوف الإيطالي كلاوديو موتّي في “نيتشه والإسلام”؟ (منشورات هيرود، 1994).

دوريان أستور: “نيتشه والإسلام” كتاب جميل للغاية، ولكن يجب أن نقول عدة أشياء، فهو من ناحية، عمل شخص اعتنق الإسلام؛ ومن ناحية أخرى، خلال بحثه، يدمج موتّي الإسلام تقريبًا مع الصوفية وحدها، ممّا يسمح بطبيعة الحال بتقريب أسهل للمسافة مع نيتشه، وهو في اعتقادي ما سمح ببعض الصّلات الروحيّة بين الصوفيّة والبوذيّة، واللّذان كانا منذ فترة طويلة على اتصال. ومع ذلك، فإنّ علاقة نيتشه بالبوذيّة أكثر أهميّة بكثير. إذا كان فابريس دي سالياس يرى أن معرفة نيتشه بالإسلام ضعيفة، فهذا أساسه اطّلاع على مكتبته وقراءاته، ولكن أيضًا بسبب التّواتر النّادر والمتواضع لهذا الموضوع في كتاباته. بالطّبع، تمّ ذكر الرّسول محمد بين المشرّعين الكبار في الأخلاق، إلى جانب أفلاطون وموسى والمسيح. نيتشه مفتون بمؤسّسي الأديان لأنّهم، بالإضافة إلى إرادتهم غير العاديّة للقوّة، يكشفون عن العمليّات التّاريخيّة وأنساب الخلق والإطاحة بالقيم التي هي في صميم التّحليل النّيتشوي.

صورة

لكن عندما يتعلّق الأمر برسم الصّورة النّفسيّة للمسلم، لا يسعه إلاّ أن يمتدح رجولته وشجاعته وغريزة الهيمنة عنده. هذا يسمح له، من خلال القيام بذلك، بإطلاق النّار على المسيحيّة “المخنّثة”، “أخلاق العبيد” تلك. بعد قولي هذا، من الواضح أن نيتشه كان يودّ معرفة المزيد عن الثّقافة الإسلاميّة. من بين خططه للهجرة إلى الجنوب، فكّر للحظة في المغرب. لكن هذا لم يحدث قطّ.

الفاشية الصغيرة

الجديد: يحمل النصّ الخامس والأربعون عنوان “اليقين والإفلات من العقاب: عن صورة لأبي غريب”، وهو يثير إعجابنا بجرأته وبالحكم الّذي تُسلّطونه على المذنبين، مع العلم أنّك تتكلّم بطريقة إنسانيّة وتحاول أن تفهم قبل أن تحكم: “لهذا السّبب أعادت فضيحة أبوغريب، بالكشف عن الأسماء والشّهود، إشعال لعبة النّظام الدّولي الوحشيّة دون تقويضها. بعد تقديم أسماء غير دقيقة، كشفت الصّحافة في الـ22 من مايو/أيار 2004 عن الاسم الحقيقي للمُعْتَقَل الذي عُذّب في الصّورة: عبده حُسَيْن سعد فالح، الذي اختفى بعد الإفراج عنه. يُقالُ إنّ عددا كبيرا من أسرى الحرب العراقيّين انضمّوا إلى صفوف الجهاد. ربما فعل عبده حسين سعد فالح الشّيء نفسه. ربما أصبح جلّادا. لفهم ذلك، ليس عليك أن تكون مسيحيّا. يجب أن نكون قادرين على قياس الرّعب النّاجم عن الهجر الجذري دون أن نُضيف إليه على الإطلاق معنى الافتداء الأبوي. في زاوية النّظر التي يحدّدها أيّ نظام قاسٍ لصالح أبنائه، يظهرُ معنى التّعذيب: اللّعب تحت أنظار الأب الوحشيّ. من ناحية أخرى، في زاوية الموت التي يصرّح بها هذا الأمر، يَظْهَرُ المعنى الوحشيّ للاستشهاد: المعاناة في هجر جذري، دون اعتبار ودون أب. العنف الدّيني هو عنف أبناء إله يرى كلّ شيء. إنّ العنف الفاشيّ هو عنف أبناء إله يُديرُ النّظر. إنّ أبناء العنف المعاصر هم لُقطاء هذه اللّعبة المزدوجة لآبائهم.”صورة

ألا يُمثّلُ هذا قلقا جديدا في الحضارة أو في الثّقافة، حسب عنوان فرويد الّذي ترجمته إلى الفرنسيّة؟

دوريان أستور: المقطع الذي استشهدتَ به صعبٌ وحسّاس. يَحِينُ وقتٌ أحاولُ خلاله تحليل الآثار المدمّرة للوجوه المستبدّة للأب على تطوّرات شهاداتهم (القوّة والانسجام، الضّمان والثّقة) الّتي يجبُ أن تشكّل تطوّر أيّ فرد. عندما يُجَسّدُ الأب أو السيّد أو الإله قانونًا تعسّفيًّا وظالمًا تمامًا، فإنّ اللاّيقين لدى الأبناء ينتشر إلى مستويات رهيبة من المعاناة. لكن في بعض الأحيان يتحوّل اللاّيقين إلى يقين جذري، ذو عنف لا مثيل له، ساعيا إلى تدمير كلّ الفرضيّات، وكلّ الغموض، وكلّ اللاّيقين. إنّها عبارة عن خطّ للإلغاء أطلق عليها دولوز وغوتاري اسم “الفاشيّة الصّغيرة”، أي الفاشيّة على مستوى الدّوافع. المقطع الذي قدّمته يُناظرُ بين الأشكال التي يمكن أن تتّخذها هذه الفاشيّة الصّغيرة في الإمبرياليّة الغربيّة والتطرّف الإسلامي، اللذين يتجاوبان بطريقة ما ويغذّيان بعضهما البعض. فمن ناحية، اليقين من الإفلات من العقاب الذي يسمح به موت الله؛ من ناحية أخرى، اليقين الذي أذن به الخالق العظيم. من الواضح أنّه “قلق في الثّقافة” وأكثر من ذلك بكثير: فهكذا نعودُ إلى أمراض عصرنا المقلقة جدّا.

الكتابة والموسيقىصورة

الجديد: على ماذا تشتغل الآن؟ وبصورة عامّة، كيف تشتغل؟ أنت المولع بالموسيقى، هل تلعبُ هذه دورا ما في كتابتك وفي فعل التّرجمة؟

دوريان أستور: أنا بصدد إكمال عمل مقارن واسع حول فكرة المنظورات بأشكالها المختلفة، عند لايبنيز، ونيتشه، ووايتهيد، ودولوز، أحاول أن أضيف إلى هذه الفكرة بعض جوانب الأنثروبولوجيا المعاصرة التي لها صلات عميقة مع المنظوريّة. يبدو أنّ هذا العمل سيكون أطروحتي من أجل الحصول على الدكتوراه في الفلسفة (خيرٌ أن يأتي هذا الشّيء متأخراً من أن لا يأتي أبداً! فأنا قادم من الدّراسات الألمانيّة) قبل أن يصبح، كما آمل، عملاً منشورًا.

بالنّسبة إلى الموسيقى، منذُ أن توقفتُ عن الغناء عام 2005، لم أنقطع عن ممارسة الأنشطة الموسيقيّة. شاركتُ في إدارة مهرجان وأكاديمية “النّشيد والنّغم”، وعملتُ ككاتب مسرحي وكاتب موسيقى لشركات ودور أوبرا. منذ أيلول/سبتمبر، انضممتُ إلى مسرح الكابيتول في تولوز، بصفتي كاتبا مسرحيا ومحرّرا ومحاضرا. هذا أكثر من مجرد ترفيه بالنّسبة إليّ، فأنا بحاجة إلى الحفاظ على هذا الاتّصال بالموسيقى والأوبرا على وجه الخصوص، على الرغم من أنّ الفلسفة استمرّت في شغل مساحة أكبر. لكن ليست لديّ أيّ نيّة للكتابة حول هذا الموضوع أو المغامرة في مجال فلسفة الموسيقى في هذا الوقت. ومع ذلك، هناك حلم واحد قد لا أحقّقه أبدًا: أن أكتب كتابًا عن روسّيني. من زاية معينة في العمل، علّمتني الموسيقى الانضباط والصّبر وأنّ ممارسة الفكر تتضمّن دائمًا علاقة معيّنة بالجسد. ولكن أيضًا حقيقة أنّ الفلسفة هي أيضًا نشاط للتّأويل والإبداع، وأنّ هناك دائمًا، كما قال نيتشه، خلف الفكر الذي يُحاضرُ روحٌ تُغنّي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.