دينيس جونسون ديفيز في ثلاث محطات
“لا شيء يتحرك دون الترجمة”
(دينيس جونسون ديفيز)
– 1 –
دينيس جونسون ديفيز (1922 – 2017) مترجم ومبدع، كرّس حياته لترجمة الأدب العربي الحديث إلى اللغة الإنجليزية. أحب هذا الأدب، ووجد أن أحسن وسيلة للتعريف به هي ترجمته؛ وقد كان من الأوائل الذين قاموا بهذه المهمة، حيث كانت أول ترجمة له سنة 1947 وهي مختارات قصصية لمحمود تيمور، نشرها على حسابه الخاص.
لا أحد كان آنذاك يهتم بالأدب العربي الحديث، وقد كانت مساهمة هذا المترجم الفذ ذات أهمية كبيرة في التعريف بهذا الأدب، وفي الوقت نفسه ساير تطوره منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حين وفاته؛ فترة زمنية ليست بالسهلة، عرف فيها دينيس مشاكل وعراقيل كثيرة، وهو يؤكد أنها مشاكل تواجه كل من يفتتح مجالا لأول مرة. لكنها لم تثنه عن المضيّ في درب الترجمة، معرّفا بالأدب العربي الحديث للقارئ الغربي الذي لم تكن له أيّ صلة بهذا الأدب. وقد كانت محنته كبيرة في البحث عن ناشر لترجماته في غياب أيّ دعم عربي؛ ولولا مجهوداته الشخصية لما تكلمت كثير من النصوص العربية اللغة الإنجليزية.
– 2 –
لم يترجم دينيس الإبداع العربي فقط، المتمثل على الخصوص في القصة القصيرة والرواية، بل تجاوز ذلك إلى ترجمة النصوص الدينية بمعية صديقه المرحوم الدكتور عزالدين إبراهيم، حيث اشتركا في ترجمة الأحاديث النبوية الشريفة “الأربعون النووية” و”الأربعون القدسية” و”مختصر الكلم الطيب”، واشتغلا كثيرا في ترجمة معاني القرآن الكريم تحت عنوان “قراءات من القرآن الكريم”، وقد انتهيا من ترجمته قبيل موت صديقه، الذي قام بجهد كبير في البحث عن متخصصين في الميدان، لكتابة مقدمات علمية خاصة بالترجمة. وفعلا كان ذلك، إلا أن المسألة أخذت وقتا طويلا، فحالت ظروف الغياب المفاجئ لعزالدين إبراهيم دون خروج هذا العمل الضخم للوجود الفعلي لحد الآن.
بالإضافة إلى ذلك فقد ترجم دينيس جزءا كبيرا من كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام أبي حامد الغزالي، وكتابا عن طباع الحيوان عند الإنسان من منظور إخوان الصفا، وهو موضوع كان يأمل أن يستمر فيه، لأنه بالنسبة إليه وحسب قوله “موضوع مهم، لم يتطرق إليه أحد، علما بأن للإسلام تاريخا مشرقا في رعاية الحيوان والرأفة به”.
– 3 –
في خضم هذه الانشغالات عاد دينيس إلى الكتابة، بعد أن ترك وراءه روايتين أصدرهما في شبابه باسم مستعار، فكتب قصصا جمعها في كتاب بعنوان “مصير أسير”، صدرت سنة 1999، وتدور أحداث أغلب هذه القصص في السودان ومصر وبيروت ودبي..، وقد أخبرني ذات يوم بأن له مجموعة أخرى يبحث لها عن ناشر. ناهيك عمّا كتبه من كتب للأطفال، تمتح من الثقافة العربية الإسلامية: خالد بن الوليد، صلاح الدين الأيوبي، عمرو بن العاص، ابن بطوطة.. الخ. وكتب أيضا قصصا عن “جحا” الشخصية المفضلة لديه.. وحكايات محلية من مصر والمغرب والخليج.. وأخرى مستمدة من التراث العربي، وهي تفوق الخمسين كتابا.
وفي سنة 2006 أصدر دينيس جونسون ديفيز كتابا هاما بعنوان “ذكريات في الترجمة”، يحكي فيه الكاتب عن علاقته بالترجمة لأكثر من ستة عقود، ترجم فيها أكثر من ثلاثين عملا من الأدب العربي المعاصر إلى اللغة الإنجليزية، وتحدث فيه عن كثير من التفاصيل التي عاشها مع المبدعين العرب، الذين أثروا المتخيل العربي بإبداعاتهم؛ هذه الإبداعات التي تكلمت اللغة الإنجليزية على يد مترجم كرّس حياته لترجمة الأدب العربي، مما بين حبه العميق لهذا الأدب، وللبلدان العربية التي استقر بها فترة كبيرة من حياته، وخصوصا مصر والمغرب. كتاب “ذكريات في الترجمة” كتاب هام وممتع لمن يريد أن يطلع على جانب من الثقافة العربية غير المدوّن، يجمع بين المعرفي والحميمي، حيث تنبثق أشياء كثيرة تبدو هامشية، لكنها تحتل مكانة أساسية في سياق الأدب العربي الحديث.
أما سيرته الذاتية التي كتب جزءا كبيرا منها، فقد كان ينشغل عنها بأمور الترجمة والكتابة في مجالات أخرى ذكرناها. وكنت أشجعه بمعية زوجته الفنانة الفوتوغرافية باولا كروشياني على إتمامها، خصوصا في عطل الصيف التي كانا يقضيانها معا في أيرلندا، حيث كانت زوجته تأخذ معها في كل رحلة محفظة مليئة بالأوراق، تحوي كل ما أنجزه من سيرته، التي كان يعدنا بالاشتغال عليها، لكنه في كل مرة لا يفعل. سيرة ذاتية لو تمت وصدرت، كانت ستحمل إلينا مسارات وحيوات ومصائر مليئة بالتجربة الغنية والحياة العميقة.