ذئاب المدينـة

السبت 2020/02/01
لوحة هاجر عيسى

البارحة، تهاطلت القذائف على المدينة كالمطر، وارتفعت سحب الدخان الأسود تملأ الفضاء الرّحب، كان ريف المدينة يحترق إثر الغارات الجوّية التي كانت تُقذف في كل مكان ألسنة النيران الملتهبة تلتهم الأخضر واليابس، صوت الرصاص يعلو من المخابئ تحت الأرض، الجثّث تتطاير أشلاؤها في كل مكان ودفَقَت الدماء تروي الأرض العطشى، ورأى الجميع من الترويع والهول والفزع ما لم يروه في حياتهم الماضية.. وجوه ملثمة لا تعرف أخا ولا صاحباً، وأصبحت المدينة غريبة كالإخوة الغرباء.. فما أقبح الصورة التي تراها بعد ذلك اليوم!

حَمِلته على ظهري جريحا، كان وحده في المكّان، وألسنة الدخان من حوله، نجا الرّجل بأعجوبة، قال لي وهو يئنّ من الوجع:

– تظاهرت بأنني ميّت، حينما كانوا يتفقدون الجرحى.

حَمَلني على اقتياده إلى أقرب منطقة بضواحي المدينة المشتعلة، تأملته بحنان وحبّ، وأنا أمرّر برفق أناملي المحترقة فوق ملاحمه الدامية، أدركت أن بقاءه حيّا سيكون للحظات أو سويعات، ومع ذلك حمَلني روحه البريئة، وأن أكون له أخا سقت دماؤه هذه الأرض الطيبة التي مات من أجلها.

حَمِلته على ظهري، وأنا جائع ومنهك القوى، منذ أسابيع لم أتناول شيئا تقريبا، وهذا بعد فراري من الأسر، حينما غافلت الحارس وهو نائم.

كان بجانب الحارس رشاش وقنينة ماء، أخذت الرشاش بحذر شدّيد، وتركت قنينة الماء، لأنها كانت تحت راحة يدّه.

بقيت أتحدث إلى الرّجل المحموم، وأنا أحمله على ظهري طيلة الطريق حتى لا ينام.

كان الرّجل المضرّج بالدّماء يردّ على كلامي بصوت التأوه والألم:

– أمْم.. أمْم.

في منتصف الطريق، توقف الرّجل عن الأنين، والدّم الذي ينزف من جسده ساح فوق جسدي، توقفت قليلا، وأنا ألهث من تعبي وجريي بين الأحراش متخفيا، وقد يبست شفتاي، وتورمت من شدّة الكدمات التي تلقيتها على وجهي.

خيّم صمته على صوتي اللاهث، وأثقل جسده كاهلي، ناديته:

– ناصر.. ناصر.

ثم طرحته أرضا، وأنا أهزّه هزا قويا وأردّد:

– لا تمت يا ناصر.. لم يبق إلاّ القليل.

لكن الرّجل، كان قد مات على ظهري.

وضعته أرضا، وقد غلبتني دموعي، فلقد مات الرّجل على ظهري وهو ينزف، وأنا أتذكر كلامه لي:

– أنا أخوك ناصر، ودمائي سقت هذه الأرض الطيبة.

ضممته إلى صدري بقوّة، تألمت كثيرا، وأنا أكمد غيضي، لم أستطع أن أصرخ في العراء وأقول:

– اللعنة عليكم، فنحن إخوة!

أعدّت حمله على ظهري، وأنا في طريقي إلى المدينة التي ألمحها من بعيد، أو تهيأ لي أنها قريبة مني، سمعت أصواتهم البعيدة قريبة مني، انزويت بالرّجل الميّت على ظهري في مكان كثيف الأشجار، وطرحته أرضا، قبلته على جبينه قائلا:

– سامحني أخي ناصر، سامحني.

تركته خلفي، وهربت بجلدي من إخوة أعداء، لم أستطع أن أواريه الثرى، فالأصوات المزمجرة كانت تقترب من المكّان أسرعت الخطى في اتجاه معاكس للأصوات التي كانت تبحث عني في كل مكان وتقتفي أثري.

ابتعدت كثيرا عن المكان الموحش، لكنهم بقوا أمام جثّة الرّجل يتفرسون ملامحها كذئاب متوحشة.

وغسان لم يعدّ بعد، وظلّت عقارب الساعة تدق وتدق وتدق.. وأنغام فيروز تملأ الفضاء الرّحب الذي ضاق في عيونها:

“وبأيدينا سنعيد بهاء القدس

بأيدينا للقدس سلام

بأيدينا للقدس سلام”

كانت تقول لها:

– كنت أغتسل وجعي بعرق الوطن الذي ينزّ من جبينه، وأشمّ رائحة الأرض على صدره، وأعشق رجلا دون كيشوتيا أحببته وعشقته على الورق.

آه أيها الفتى العكاوي.

غسان لم أجدك، ولم أجد جسدك مسجى ينتظر الصلاة، غير أنه كان ثمّة رجل اسمه غسان كنفاني في حياتي، ورحل في 8 يوليو 1972، والمدينة ترفع عزاءك إلى السماء قائلة لي:

“إنِ اشتقتِ يوماً لقبر حبيبِكِ، مُرّي به في الصباح [1]

وصُبّي عليه من الدمعِ، صُبّي من الدمع فوق الترابِ

مصابك فوق الذي نستطيعْ

ستخرجُ عكّا إلى السهل، رافعةً كفَّها للسماءْ.

ألاّ من رأى وجه كنعان، في أيّ منفى، نقيم العزاءْ؟”.

[1]عزالدين المناصرة. “تَقبل التعازي.. في أيّ منفى”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.