ذئب كورونا
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
سقط قناعك أيها العالم
أقصد وجهك
سقطت نبوءاتك المزيفة
سقط فردوسك المصطنع الذي رسمته لنا
سقطت أكاذيبك التي أدمنتها علانية
سقطت أحلامك التي بلغت اقصى الكواكب
سقطت أوهامك اللامعة في ليلنا.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
وباء كورونا يفتك بأبناء الأرض
يحصد رؤوسهم كسنابل قمح
ينقض عليهم كما النسر على الفرائس
يعزلهم في الخوف داخل الأسوار
رياحه السامة تعصف في الأرجاء
أمواجه الآسنة تجرف الخرائط والتخوم.
تباً لك أيها العالم
يا من نسميك العالم الأول
تباً لترسانتك النووية
تباً لثورتك التكنولوجية الهائلة
تباً لأوهامك التي أغريت بها البشر
تباً لعولمتك المتوهمة
تباً لمختبراتك السرية
تباً لاختراعاتك الفائقة الخيال
تباً لما تسميه سباق التسلح
والذكاء الاصطناعي.
أهذه علبتك السوداء أيها العالم
تتطاير منها أشباح وهياكل عظم؟
أهذا صندوقك السحري
تقفز منه خفافيش وغربان؟
أهذه هي زهرة الغد تتفتح ذابلة كالشيخوخة؟
أبو كاليبس أبوكاليبس
جعلتنا نصرخ كالمعتوهين في مصح
ممنوع على الجسد أن يقترب من شقيقه الجسد
ممنوع أن تحضن الأم ابنها العائد
أن يتعانق حبيبان ولو في النسيم
ممنوع أن تصافح يدٌ يداً
الإنسان ذئب في غابة
الحياة فعل افتراضي على شاشة فضية.
أبناء آدم معزولون واحداً عن آخر
المرضى في الحجر كالسجناء
العجائز يُرمون على الطريق
كالمجذومين في التوراة
فليموتوا ما دام لا حاجة كي يعيشوا.
على شاشة التلفزيون
تصرخ امرأة إسبانية عجوز:
حرموا زوجي آلة التنفس
وأخرى في روما:
طردوني من سريري وأعطوه لشابة في الثلاثين
في باريس يلجأ المسنون إلى الموت الرحيم
وفي أسفل المعمورة
ترتفع صرخات استغاثة
سرعان ما يمحوها هواء الفضائيات.
أيتها البربرية الجديدة
إنني أسمع وجيب أناس
أسنانهم تصطك رعباً
سعالهم يملأ الهواء
الحمى تشعل أحشاءهم
وبأنفاس دامية يستغيثون
عيونهم متحجرة ذعراً
وراحاتهم منقبضة.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
الوباء الغريب
ينتشر في الأرجاء
الوباء الأسرع من البرق
الخاطف كألسنة اللهب
الوباء الذي لا وجه له
الأقل من نقطة
ينسل كالقشعريرة في العين
المتربص بنا كعدو لامرئي
يغلق الأبواب علينا
يعزلنا مثل أسرى العصور الوسطى
مثل مجانين المصحات
يرسم أمامنا طرقاً إلى المجهول
ويفتح العتمة على مصراعيها.
إننا قلقون كعادتنا
كما علمتنا أيها العالم
كما علمتنا مآسي تاريخك
كما علمتنا حروبك المتعاقبة
منذ أول فجر
منذ أول ليل
كما علمتنا غرائزك الدفينة
وحرابك المتكسرة فوق رؤوسنا.
إننا قلقون
يستبد بنا خواء معاصي الخائنين
عبث النظر إلى القبة الزرقاء
سأم اللاجدوى
كأن هاوية انفتحت أمامنا
على حين غفلة
لا وراء كي نرجع خطانا
لا بحر لنرفع أشرعة
لا صحراء نتوه في رمالها
عراة مثل أسلاف في أسطورة
كأن لم يكن ماض قريب أو بعيد.
إننا خائفون
المجهول على العتبة
وخلف النافذة تعصف ريح صفراء
ريح حمراء
ريح سوداء
إننا في عزلة قسرية
كل ما نراه أمامنا
كأنما وراءنا نراه
داخل الغرف
ليس لنا سوى نوافذ نقف أمامها
ليس لنا سوى شرفات نجلس عليها
تحت نور شمس باهتة
وفي الليل الطويل
عندما نملّ الشاشات المسمومة
عندما يقاومنا النوم
نستسلم لأحلام يقظتنا
للكوابيس التي تأتينا من جحيم.
في الصباح الذي يحلّ متثاقلاً
نفتح دفاتر النهار
نقلّب صفحاته المرسومة بأقلام الفحم
ومن قبة كنيسة مجاورة
تتناهى إلينا أصوات
تصلي يا أم الله
ثم نسمع الجرس بدقات كئيبة.
في الشارع ترتفع دعوات للبقاء في البيت
يطلقها ميكروفون سيارة الشرطة.
كم يشبه آخر الليل أول النهار
الساعات تتعاقب
الأيام تتشابه
الكوابيس تتشابه
الخوف من الآن
كالخوف من غد وبعد غد
الجائحة تجتاح بلا رحمة
كل دقيقة مصاب
القتلى لا تحصيهم أصابع ولا أرقام
الأرض خراب
الأرض رماد حرائق باردة
الأصقاع معزولة بعضاً عن بعض
جدران وأسيجة عازلة
السماء مهجورة لا تقطنها سوى غيوم داكنة
بوابات المدن مغلقة بأقفال من حديد
وفي الأقاصي ينتظر النازحون في العراء
لا أحد يفتح لهم كوة بين الأسلاك الشائكة
وفي بقع غير صغيرة
ما برحت المعارك مفتوحة
وساحات الدم والغبار
تتسع لمزيد من قتلى وجرحى
إنهم يتحاربون في هواء الكورونا الطلق.
على الشاشات الصغيرة نبصر العالم أجمع
العواصم جمعاء
المدن جمعاء
نبصر ما يعيث الوباء من خراب
في الأحياء والساحات
في المستشفيات الضيقة
في المصحات التي تكاد تكون بلا أسرة
على الشاشات نبصر أيضاً
علماء كباراً يعلنون عجزهم.
العالم قرية صغيرة حقاً
الجميع أبناؤها اليوم
تجار الأسلحة والسموم الكيميائية
العلماء النوويون الذين يخططون لمستقبل مجهول
الأثرياء غير الشرعيين
مهربو المخدرات
الساسة المتعجرفون الذين يحتقرون البشرية
سماسرة الحروب والمعارك.
قرية صغيرة حقاً
الجميع أبناؤها
حتى فقراء الأطراف المعدمة
المتشردون والتائهون بلا عتبات
الغرباء المضطهدون
المتضورون جوعاً
المتهالكون بؤساً
قاطنو الخيم في الأراضي الوعرة.
كلنا أبناء هذه القرية
الحاكمون والمحكومون
السادة والرعاع
الطغاة والضحايا
الأشرار والأنقياء القلوب.
قرية صغيرة
رايتها كمّامة ترفّ فوق السطوح
كمّامة تحلّق فوق عواصم المعمورة
فوق المدن المبعثرة على الخريطة
فوق ناطحات السحاب في نيويورك
فوق برج إيفل العالي
فوق ساعة بيغ بن
فوق آثار جدار برلين
فوق ساحة الكرملين
فوق سور الصين العظيم
فوق قبة كاتدرائية مار بطرس في الفاتيكان
فوق مدن الصفيح في العالم الثالث
فوق الخرائب والمقابر الجماعية.
كمامة واحدة ترفّ كغيمة
فوق صفوف البشر المنتظرين
في المنازل والمستشفيات والمصحات
كجنود مهزومين في حرب لم تبدأ.
أميركا أميركا
يصرخ ألن غينسبرغ في قبره
إنهم يدفنون موتاك الموبوئين في جزيرة مهجورة
رئيسك يبتسم كضفدع
يعدّ الضحايا في الصباح والمساء.
لوركا يصرخ في ضريحه المجهول:
إنياثيو إنهم يوارون الجثث في ملاعب الثيران
بعدما امتلأت القبور
وجوه غويا السوداء ترتاع في ظلمة متحف ألبرادو.
بودلير في مثوى البانتيون
يتأمل سأم باريس
بعدما فرغت شوراعها من أهلها الغرباء.
أندريا بوتشيلي يرتل آيفي ماريا
في كاتدرائية ميلانو المهجورة
بصوت مجروح يهز أرواح الراقدين.
الشاعر دو فو يبكي مع المنتظرين في أوهان
الذين لم يحصلوا حتى الان
على رماد امواتهم
الذين رماهم الجند في المحارق.
إننا نخاف
ننتظر معجزة تأتي من السماء
ننتظر أن يفتر ثغر الله عن كلمة
أن يكسر الله صمته الغابر
أن يرفع يديه فوق العالم
أن يدخل المختبرات فيصرخ العلماء:
وجدناه وجدناه
ليطمئن البشر وجدنا الدواء.
إننا نخاف
كأن ما يشبه النهاية هنا ولا نهاية
كأن ما يشبه الطوفان ولا سفينة
كأن ما يشبه الغرق ولا يمامة
ولا غصن زيتون.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
إننا قلقون
ننظر إلى العالم فإذا صحراء مقفرة
ننظر إلى السماء فإذا عاصفة تهب
كأنما اليوم الأخير يحل أمامنا
ولكن لا ملائكة ولا أبواق
بل أخيلة تتصاعد من أبواب مفتوحة
أشباح تعبر كما في سدوم
ولكن لا نار ولا غمام دخان.
إننا في بيوتنا نقبع كالسحالى
لا نجرؤ على الصعود إلى السطح
لا نجرؤ على الخروج إلى الحقل
إنها الأيام التي قيل فيها:
ويل للحبالى والمرضعات.
السكون من حولنا يبلغ أقاصي الغيوم
سكون يكتمل مثل قمر أرجواني
سكون ما قبل هبوب العاصفة
سكون ما بعد هبوب العاصفة
سكون أماسي الحروب
سكون المعارك بعد اختلاط الدم والرماد.
كل ما حولنا صامت
هواء الربيع الذي تأخر
السنونوات التي تفرد أجنحتها المقطوعة
الأشجار التي لا يُسمع لها حفيف
حتى النهار المشوب باصفرار الشمس
حتى الليل عندما يحل بالسر
عندما ينسحب أمام أشعة الفجر الأولى.
الخوف الخوف
ليس الخوف فكرة عابرة في الرأس
ولا صورة شعرية في قصيدة
ولا وجهاً قاتماً في لوحة
ليس خوف محكوم بالإعدام
ولا خوف مقاتل في أوج المعركة
ولا خوف شخص يلقي بنفسه من شاهق
ليس خوف من يُخطف على حاجز
ليس خوف من يُساق إلى الذبح كنعجة
ولا خوف من يواجه كابوساً بعينين يقظتين.
الخوف الخوف
خوف الخوف من نفسه
خوف المجهول من المجهول
خوف في الوجوه والعيون
في ماوراء العيون
الخوف الخفي
الخوف الخاوي
الخوف المتلبد.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
إنني أخاف
أجلس على كنبة
أحدق من النافذة إلى زرقة السماء
أرنو إلى فراغ يتصاعد ربما من عينيّ
وقع العقارب في ساعة الجدار لا يُسمع
أصغي إلى ما لا أسمعه من أصوات
أبصر صخب الشارع من شدة خرسه
أنتظر كما لم أنتظر يوماً
أنتظر فقط
غيمة، ربما علامة ربما وجهاً ربما صوتاً
ربما نسيماً ربما عاصفة ربما ناراً.
أنتظر كما لم أنتظر من قبل.
لم يخيل لنا يوماً
أننا سنقول كنت جميلاً أيها العالم
أنّ كل ما كرهناه فيك جميل
أنّ كل قباحتك جميلة
أنّ وحشتك أليفة
أنّ عبثك عظيم
ما كان أجملك أيها العالم
قبل شهرين أو ثلاثة
قبل سنة قبل عقد من السنين
كأنك الآن أمسيت ذكرى عالم كان
كأننا الآن أمسينا أطيافاً لأشخاص كانوا
كأننا أمسينا أناساً افتراضيين في حياة افتراضية
الكمامات، أقنعة البلاستيك، كفوف الأيدي
والمطهرات التي نرشها كماء كولونيا
نظراتنا المرتابة بعضاً إلى بعض
مصافحاتنا بأيد كأنها مقطوعة
خوف واحدنا من الآخر
خوف واحدنا من ظله.
ما أصغرك أيتها الكرة الأرضية
تدورين حول نفسك
تدورين حول الشمس
لكن صباحاتنا باتت شبيهة ليالينا
والربيع الذي يشرق الآن
شبيه خريف لم يغادر.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
كأنها نهاية العالم
كأنها ما يشبه نهاية العالم.