ذات غروب
سعلت الشمس، فامتلأ كفّ السماء بالدم، وخزها صدرها بشدّة وأغمي عليها، فتكوّمت جثّة عليلة، اِنسلّ الشّعاع هاربا من رئتيها، لكنّ الغيوم حاصرته إلى أن أمسكت به محكمة وثاقه، زاجّة به في سجن ضيّق، بالكاد يسع قبيلتي الإبر والأزرار اللتين قرّرتا إيقاف المعارك المحتدمة بينهما، وجرّ الهدنة، المنفيّة في بحر محنّط في قارورة، من شعرها، ورفع جسدها العاري من اللّحم راية سلام.
تصافحتا دون صفح، وكلّ قبيلة تضمر الحصول على النصيب الأوفر من المأدبة، بحثتا عن شجرة للاجتماع تحتها، فالأمر يجب أن يكون شورى بينهما، فما وجدتا، أكّدت إبرة أنّ الجذوع تطوّعت للجهاد من أجل حرّية التعبير، مسخّرة خشبها فداء للموائد المستديرة.
تهلّلت أسارير القبيلتين، وهمّتا بالبحث عن مائدة مستديرة، غير أنّ زرّا أعلمهما أنّ جميع الموائد محتجزة رهينة القلق بعد اختطافها من طرف الاستنكار.
تعالت الأصوات، ونشبت الآراء المختلفة أظافرها في عنق التفاهم، فخنقت الحلّ الذي هوى، قرب الشعاع الموثوق، هيكلا دون عظام.
قرّرت القبيلتان اللتان أجهدهما الجدال أخذ قسط من الراحة للاستئناف بعد ذلك، لكنّهما، عندما استيقظتا، لم تجدا الغنيمة التي حبتهما بها السماء، شكّـت كلّ قبيلة في الأخرى، وأضرم الغيظ النار في جسد الهدنة، وعادتا للاقتتال حول أحقّية كلّ منهما بخيط الثواني، فقبيلة الإبر تريده لرتق ما تمزّق من ثياب الدقائق، وقبيلة الأزرار تحتاجه لسدّ قروض السّاعات.
تبقى الأرقام شاخصة لا يعنيها اِنفجار أنابيب السمّ ما دامت لن تفقد عرشها!
فكّت الغيوم ذات اللّثام الأسود وثاق الشّعاع، الذي ظلّ واثقا، رغم الصفع فاللطم والركل والرفس، كان جسده يتهشّم كقوقعة، اِنسلّ منها القلب متّخذا مكانا قصيّا، باحثا عن خفقة بيضاء يدوّن فيها قصيدة حان أوان نبضها.
قيّدت الغيوم يديه وقدميه، وتتالت الصّعقات الكهربائيّة تومض برقا في فرائص الشعاع، وميض ما يكفي ضوؤه لقراءة كلمة من ثلاثة حروف، حتّى عندما ضُرب رأس الشعاع على الحائط العامر بالمسامير. اُقتُلعت أظافره، فما ارتفعت عقيرة الهزيمة بأغنية نصرهم، بُترت أطرافه، حينها فقط ولّى هزيم الرعد هاربا من حنجرة الصّمت.
أطلقت الغيوم الرّصاص، فغدا الرأس غربالا اِنهمر منه المطر، وتحوّل الجسد وسادة ممزّقة تسلّل صوفها فندف الثلج، فرح الأطفال وتراشقوا بكرات اللّحم المفروم الأبيض، كوّموه على هيئة رجل مقعد وأصمّ، عوّضوه عن فقدانه ليديه بغصني شجرة، ثبّتوا مكان العينين زيتونتين مشقوقتين والنّواة بؤبؤها، ولعبت حبّة الطماطم دور الأنف، فكّروا طويلا في شيء يشبه الفم، إلى أن أخرج طفل من جيبه سكّينا صغيرا، وأجرى عمليّة زرع ابتسامة باءت بالنّجاح.
ملّت السّماء، فجمعت كلّ الغيوم، وأعادت عجنها مضيفة بعض الملح والخميرة، تركتها ترتاح. حين تضاعف حجمها، فصّلتها في شكل أرانب وأبقار ودجاج وخراف وحمير وطاووسا وحرباء.. قرّرت الريح التدخّل، بعد أن اِشتدّ غضبها، نفخت في وجه الغيوم، فتساقطت الجثث وغمرت الأرض واكتسحت الشّوارع التي غدت شبيهة ببحر لا يشهق موجه، اِنتفخت أوداج الريح وصرخت، فوثب من حلقها حوت أسرع إلى البحر مبتلعا المدينة بأسرها.
حاول النّاس الذين اِلتقمهم الحوت تذكّر العبارة السحريّة التي لفظها نبيّ من أنبياء الله فنجا من قدر اليقطين، لكنّ، ذاكرتهم ما استحضرت أنّهم كانوا يوما من الظالمين، بل لطالما حمدوا الله الذي لا يُحمد على سوء سواه، ولم تسعفهم إلاّ بذاك الدعاء المستجاب الذي تُفتح به المغارات كاشفة عمّا تخفيه من مسروقات كَنَزها اللّصوص.
بعد أيّام، اِعتادت الأعين الظّلام، واتّخذت كلّ عائلة سكنا بين أنياب الحوت، بل وفرح الجميع بنعمة الأمن الغذائي في هذا الوطن الجديد الذي يوفّر لهم لقمة العيش دون عناء، وأصبحوا يتلذّذون أكل السمك النيء الفائض عن حاجة الحوت، الذي لا يطالبهم سوى بتنظيف السجّاد الأحمر من اللّعاب، واستقبال الوفود من الحيتان الصغيرة بالتّصفيق والزغاريد والتّرحيب بها حتّى تبلغ البطن.
لكنّ النفس البشرية الأمّارة بالطّموح، سوّلت لهم المطالبة بإنارة المكان وتعليق مصباح في الفكّ العلوي، فكّروا أيضا، بعد قضاء سنين مرتاحين من عبء التّفكير، أنّ مدّ شبكة الكهرباء سيسمح بتشغيل التلفاز، والاشتراك في شبكة الانترنت، والتّواصل مع العالم الخارجي عبر المواقع الاجتماعية الافتراضيّة لحثّ السيّاح على زيارتهم في هذا الوطن الآسر، فحصل ما لم يكن في الحسبان، تمّ اصطياد الحوت بتهمة تخزين أسلحة الدّمار الشامل، وأوكلت مهمّة الفحص والتّدقيق إلى الخبراء والباحثين، الذين أمضوا سنوات في الاستقصاء والتّنقيب والتّحليل، ليكتبوا بعد ذلك تقريرا “أسماك نافقة من فصيلة السردين في بطن حوت منقرض”…
فتحت الشّمس عينيها، نهضت من المكان الذي وقعت فيه مغشيّا عليها وأخذتها الغيبوبة في مجاهل الغروب، أسرعت للإشراق، فلا بدّ أنّ الأطفال في انتظارها، لتسكب في كؤوسهم نورها، وتعدّ لهم من دفئها كعكا لذيذا.