ذاكرة العراق في السوق السوداء
بدأ النبش والنهب الآثاري في العراق وترعرع على يد مستشرقين ورحالة أوروبيين منذ منتصف القرن التاسع عشر. لقد هبطوا مهد الحضارات والديانات القديمة متأبطين كتبهم المقدسة بحثا عن تأصيل لنصوصهم. ويبدو أن المشهد لم يختلف إلى الآن، فنجد أحفادهم اليوم متوارين بهيئة راباي يهودي متقمص دور تاجر أنتيكات، أو مسيحي متشدد كما هي الحال مع مالك متاجر “هوبي لوبي”، وهو موضوع هذا المقال، والذي سيفصّل قضية شغلت الإعلام مؤخرا، ونجد لزاما علينا تبيان الحقائق، وما توارى ربما عن الأنظار.
هوبي لوبي هي سلسلة متاجر أميركية تتعامل بالتحف الفنية، يملكها الملياردير الأميركي ستيف غرين (يبلغ من العمر الآن 77 عاما)، تشاركه عائلته في إدارة أعماله (وهم من الطائفة المسيحية الإنجيلية)، ويقع مقرها في مدينة أوكلاهوما، تقدر ثروته بـ5.7 مليار دولار، وقد افتتح أول متجر له في العام 1972، توسعت الشركة ونمت بشكل مطرد لتصل إلى ما مجموعه الآن 600 فرع منتشر في أرجاء الولايات المتحدة الأميركية. والشركة مسجلة ملكا خاصا للعائلة، وغير مدرجة في البورصة.
متحف الكتاب المقدس في واشنطن
لدى ستيف غرين، مالك متاجر هوبي لوبي، أحد أكبر مجاميع الاقتناء الآثارية التي تتعلق بالكتاب المقدس بجزئيه (التوراة والإنجيل)، وتقدر بـ40 ألف قطعة (ما بين كتب ولفائف ورقيمات طينية وألواح حجرية)، وهذه المجموعة تحوم حول تفاصيل تملكها شكوك من كونها ربما تكون مقتناة من مصادر تداول مريبة، والكثير من هذه القطع ربما سيتم التبرع بها إلى متحف الكتاب المقدس في واشنطن، الذي افتتح أبوابه للجمهور في نوفمبر 2017. من ضمن أهداف المتحف اقتناء وعرض الآثار والشواهد المادية المتعلقة بالكتاب المقدس (التوراة والإنجيل)، وبحسب تصريحات لغرين فهو مبتهج من هكذا خطوة ثقافية تفتح أبوابها للجميع، لا للتبشير، وإنما للهداية الشاملة لجميع الناس، بمن فيهم أتباع الديانات الأخرى وحتى اللادينيين، وكذا سياسيي البيت الأبيض الذين يحتاجون، بحسب رأيه، إلى الوعظ المستمر!
القصة
منذ العام 2009 والسيد غرين يقوم بشراء القطع الأثرية من الشرق الأوسط (العراق، فلسطين، سوريا، الأردن ومصر)، حيث مطبخ التاريخ الديني، ومن كافة المصادر المتاحة بلا استثناء (مزادات وشبكات اقتناء مريبة وتجار سوق سوداء ومهربين)، وقد تمت متابعة البعض من هذه العمليات المشبوهة وعلى مدار سنوات والكشف عنها من قبل دائرة الكمارك في نيويورك.
القضية المثارة حديثا تتعلق بـ450 لوحا طينيا مسماريا من مدينة (إريساجرج) السومرية (وهي مركز إداري لدويلة “أوما” ترقى إلى عصر دولة أور السومرية الثالثة، وتقع في جنوب العراق). البعض من هذه القطع ترقى إلى عصور حضارية متباعدة (ما بين 2100 – 1600 ق. م). وتوجد إضافة إليها ما مجموعه 3300 قطعة مختلفة ما بين اختام مسطحة وأسطوانية وكروية، وكذلك صحون تعاويذ وتعازيم سحرية آرامية ترقى إلى (200 ق. م – 600 م)، وهي فترة تاريخية مهمة جدا كونها ترصد انتقالات مفصلية في الفكر الديني آنذاك، من الزرادشتية الفارسية إلى المانوية والمندائية العراقية، ومن ثم المسيحية التي دخلت العراق في القرن الأول الميلادي صعودا باتجاه انتشار الإسلام في القرن السادس الميلادي. وقد تم شراء المجموعة كاملة بمبلغ مليون وستمئة ألف دولار على شكل دفعات، وزعت عبر 7 حسابات بنكية لصالح خمسة أفراد.
ما بين عامي 2010 و2011 زار ستيف غرين مدينة خليجية رفقة أكاديمي مختص بآثار الشرق الأدنى وتاريخه، وكانت المفاوضات تجري هناك مع اثنين من التجار الإسرائيليين وتاجر (أو تجار) من إحدى الدول الخليجية، لكن الصحافة الإسرائيلية نشرت مؤخرا تقريرا يذكر أن المتهمين بالقضية هم خمسة تجار أنتيكات فلسطينيين من القدس. الطرح الذي تم تقديمه للمشترين آنذاك، وبحسب التحقيقات اللاحقة، أن هذه المجموعة تعود لمقتن إسرائيلي حصل عليها عام 1960، وكانت برعاية شخص أميركي أدخلها إلى الولايات المتحدة عام 1970، وهذه خدعة متعارف عليها في أوساط محلات الأنتيكات والمقتنين، حيث يتم استصدار وثائق تملك وتصدير مزورة ترقى إلى ما قبل العام 1970، حين أقرت اليونسكو قانونا يحرّم دوليا الاتجار بالإرث الثقافي للشعوب.
جرى إتمام الصفقة في المدينة الخليجية، بالرغم من تحذيرات الخبير الآثاري الذي جزم بكونها مسروقة من العراق (يقدر عدد القطع التي نهبت من العراق، منذ عام 1991 وأعوام الحصار الدولي التي تلتها، بعشرات الآلاف إن لم تكن المئات من الآلاف)، وهو موضوع ينطوي على مجازفة كبيرة كونه يتعارض مع مقررات الحكومة الأميركية، ومجلس الأمن الدولي الخاصة بحماية الإرث الثقافي العراقي. الغريب في أمر الصفقة أن بعض هذه القطع ترقى إلى العصر السومري، ولا علاقة لها بأركيولوجيا التوراة المزعومة، إضافة إلى أن المبلغ المدفوع مقابل الكمية المشتراة من تلك القطع يبدو هزيلا، وقد جرت عملية الشحن على وجبات إلى ثلاثة عناوين مختلفة لمتاجر هوبي لوبي في أوكلاهوما، بزعم أنها نماذج بلاطات مصنعة في تركيا، وبمبلغ لا يتجاوز 250 دولارا للشحنة الواحدة (إحداها كانت تحوي مثلا 50 قطعة ما بين ختم مسطح وآخر أسطواني)، لتجنب خضوع القطع إلى القانون الكمركي الذي يحدد السقف الأعلى للإعفاء من الضرائب والمساءلة للشحنة بـ2000 دولار أميركي.
الصفقة-الفضيحة
جرى كشف فضيحة هوبي لوبي إعلاميا عام 2017، بالرغم من وجود شبهات كثيرة أقدم كانت تحوم حولها منذ عام 2012، حين كشف خبراء الكمارك، عن طريق الشاحن “فيد-أكس″، وجود تلاعبات بمبالغ القطع المشحونة إلى الولايات المتحدة الأميركية (ما بين المدفوع) و(المُصرّح به) في وثائق الشحن، وتم تغريم الشركة 3 مليون دولار بسبب تصريحها الكاذب عن طبيعة المواد المستوردة وأقيامها ومنشأها، مع مصادرة 3800 قطعة لإعادتها إلى العراق (العدد الكلي للقطع بلغ، بحسب التحقيقات، 5500 قطعة، وبعض القطع تخص لفائف البحر الميت التي تُعرف بـ “مخطوطات قمران”، وتمت إعادة 3000 قطعة رسميا الى العراق بتاريخ 2 مايو 2018 في مبنى السفارة العراقية بواشنطن). وصّرح غرين حال تسرب الفضيحة إلى الإعلام، بأنه ابتلع طعما لم يكن بالحسبان، وأنه نادم على فعلته بحق الإرث الثقافي العراقي كونه جزءا من التراث الإنساني، ووعد بعدم تكرارها.
أبعاد دينية
من خلال تتبع سيرة ونشاطات ستيف غرين والجماعات الإنجيلية التي يتزعمها، وذلك عبر النشرات التي يتم إصدارها على صفحاتهم الرسمية وأدبياتهم، يبدو أن ثمة أبعادا دينية محركة لموضوع الاقتناء غير المشروع هذا وغيره كثير، فقد أشارت إحدى النشرات الكنسية في موقع (المسيحية اليوم Christian today) إلى أن الاقتناء غير المشروع للتراث العائد للمسيحية والمُعرّض للخطر أمر مشروع لأنه تراث يخص التاريخ المسيحي ولا بد من حمايته، لكن الأمر المحيّر في هذا التسوبغ أن ما تم وضع اليد عليه يرقى إلى ألفيات أبعد بكثير من ظهور المسيحية، ما يؤكد تناقض الخطاب الرسمي للجماعة.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: هل أن لهكذا اقتناء غير مشروع جذورا أو أسسا دينية تحلل المحرّمات، وتسمح بحيازة قطع مسروقة رغم تقاطع ذلك مع أخلاقيات الأديان؟ فضلا عن التغاضي، مع سبق الإصرار، عن الالتزام باللوائح والقوانين الرسمية التي تصدرها الدولة الأميركية بخصوص المتاجرة بالإرث الثقافي للعراق؟ كل هذا جرى، بالرغم من التحذيرات الكثيرة التي رفعها المختصون إلى المشتري كونها تدخل تحت بند إرث ثقافي مسروق من بلد، شرعت الدولة الأميركية بنودا خاصة لحمايته، خاصة بعد غزواتها العسكرية المتعددة له منذ 1991 صعودا باتجاه فرض الحصار، وانتهاء باحتلاله واستباحة متاحفه والعسكرة في مواقعه الأثرية.
السياق الآثاري وخطورة النهب
إن بعض الألواح المسروقة، كما أسلفنا، تعود إلى مركز إداري سومري قديم يدعى “إريساجرج” تابع لدويلة “أوما”، وترقى إلى زمن آخر عصر سومري زاهر (دولة أور الثالثة بحدود 2100 ق. م)، وتوجد في قسم منها تفاصيل إدارية واقتصادية تؤرشف لتاريخ المنطقة آنذاك، ويضعنا خروجها بطريقة عشوائية أمام معضلة الطبقة التاريخية التي تخص هذه الرُقم وعلاقتها بالقطع الآثارية الأخرى، لأنها ستكون يتيمة، ويصبح من الصعب فهمها ضمن سياق آثاري وتاريخي واضح يسهم في رسم تصور شامل عن عصرها. إن وجود القطعة خلف واجهة زجاجية أنيقة في متحف ربما سيحافظ عليها ماديا، لكنها ستفقد الكثير من قيمتها الحضارية بوصفها وثيقة تاريخية ضمن سياق زمني معين (ففي حالات هكذه سيتم وضع توصيف لها معبأ بكلمات مثل “ربما” أو “يُعتقد” أو “أغلب الظن” أنها ما بين فترتين زمنيتين متباعدتين، وقد تكون من منطقة لا علاقة لها بالأصل، بينما القطع التي تخرج بتنقيب منهجي ستكون وثيقة ضمن أرشيف نعلم جيدا كيف نقلبه وندرسه ونفهمه).
أبعاد أكاديمية
المؤسسات الأكاديمية في حالة انقسام شبه دائم وصراع مستمر بخصوص الأمور المتعلقة بالقطع الأثرية المستوردة، وخاصة التي تفتقر إلى الشهادات التنقيبية، أو وثائق التملك الأصلية، فمنها من يقف بشكل حازم في وجه السماح لأي تعامل، أو تعاون مع المقتنين، ودور المزادات، ومراكز البحوث، ويطالب بضرورة مقاطعة أي جهد يصب في خدمة من يشجع على الاتجار بالإرث المسروق من أرضه وأهله. وتوجد من جهة أخرى مدرسة رأي لا تقل وزنا أكاديميا عن الأولى، تقف بالضد من الطرح السابق، وتحاول مد يد العون لهكذا عمليات اتجار غير مشروعة، على نحو إما مخفي وإما علني، بدفع من مؤسسات إما لها أجندات دينية أو سياسية ربما تكون خافية عن العامة، أو بدافع التربح المالي البحت كالمزادات.
في قضية هوبي لوبي، مثلا، نجد أن أكاديميا يدعى د. ديفيد أوين، وهو أستاذ في قسم الدراسات المسمارية في جامعة كورنيل– نيويورك*، يجاهر بالقول “إن كان القرار النهائي بأن تعود هذه الرقيمات إلى العراق فسيكون من المهم، وبل من الضروري، أن يتم الاتفاق مع الحكومة العراقية على السماح بدراستها ونشرها قبل إعادتها، وذلك لأن القناعة المترسخة لدى الأوساط العلمية والأكاديمية هناك تقول بعدم وجود كفاءات عراقية حاليا تستطيع القيام بذلك، وكذلك بضعف الثقة بالمؤسسة الآثارية العراقية الحالية بسبب البيروقراطية الشديدة، والإدارة المتلكئة بشأن فتح المجال للدارسين بالذهاب إلى بغداد، ودراسة الآلاف من الألواح الموجودة في العراق، والخشية من أن يعلو التراب هذه القطع ويطويها النسيان إذا عادت كما غيرها الكثير. لذا لا بد من اشتراط الدراسة والنشر قبل الإعادة”.
ويتفق هذا الطرح، إلى حد بعيد، مع رأي هذه المدرسة القائل بضرورة أن يسمح العراق رسميا للأكاديميين والمتخصصين بدراسة وتحليل الرقيمات المسمارية العراقية القديمة، والتي يُعتقد بأنها منهوبة أو مسروقة منه، وبلا شهادات تنقيب أو وثائق ملكية صريحة، وأن يلتزم العراق بعدم مساءلة الجهات المالكة، كي يتم تشجيع هؤلاء المقتنين على إخراج ما في أقبيتهم من خزين لا يعلم أحد بأمره (تم طرح هكذا مقترح على نحو صريح على الوفد العراقي المشارك في مؤتمر الآشوريات العالمي الأخير). وثمة طروحات أخرى كثيرة أخطر من هذا تُظهر نوعية العقل الذي ينبغي التعامل معه والرد عليه.
المؤسسة الآثارية العراقية
بناء على ما تقدم، نجد لزاما علينا أن نقترح صيغة أخرى لاستثمار رغبة المؤسسات البحثية الغربية المهتمة بدراسة الإرث العراقي القديم، تتمثل بالسماح لها بأن تتبرع للعراق بالتقنيات والتكنولوجيا الضرورية للقيام بمسح الرقيمات المسمارية (توجد مراكز خاصة بمسح الرقيمات المسمارية بالأبعاد الثلاثية، والتقاط صور عالية الدقة لها منتشرة في مراكز بحثية وجامعية متوزعة حول العالم) ليتمكن الباحث من قراءتها وترجمتها، ونشر نتائج الدراسات لاحقا بالاشتراك مع مجلة “سومر” العراقية، كما هو حاصل الآن ما بين الكثير من المراكز البحثية في العالم، ولا أدل على ذلك مما تقوم به الدولة المصرية بتشجيع هكذا مؤسسات على التبرع بالمعدات الدقيقة للمصريين والتفرغ للبحث داخل مصر لا خارجها في أقبية المقتنين.
لا بأس من أن يفتح العراق أبوابه ومخازنه للعلماء، لكن بشروطه التي تحقق المصلحة الوطنية، وأولها أن يتم الاستثمار العلمي الصحيح في الأمر عبر تدريب الكوادر العراقية، وتشجيع أقسام دراسات اللغات القديمة وطلبتها على المساهمة في هكذا مشاريع مهمة، وكذلك نشر الدراسات والبحوث في المجلات العلمية المحلية، أو مشاركة مع المؤسسات الأجنبية، بدلا من أن يتهمنا الأكاديميون الغربيون بعدم القدرة على الحفاظ على إرثنا، أو بتخزينه في أقبية المتحف، وعدم السماح للمهتمين بدراسته ونشره، وهي تُهم لا أسهل من الرد عليها، وتفويت الفرصة على من يقف خلفها.
*لهذه الجامعة سابقة مشابهة عُرفت بقضية ألواح جرسانا السومرية، ترتبط بالمقتني الأميركي جوناثن روزين، وجرى تفصيلها في ص 172 من كتاب “الكارثة، نهب آثار العراق وتدميرها” الذي حررته، وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، 2017.