رحلة الحداثة الشعرية والمقاومة من بيروت إلى تطوان

الثلاثاء 2020/09/01

ليست بيروت عاصمة لبنان فقط، بل لا تزال عاصمة لكل جغرافياتنا المستباحة، وهي عاصمة الثقافة والشعرية العربية. كما أن زهرة الشرق هي مدينة الشعر أساسا. فضاء شعري وشاعري بلغة غاستون باشلار، ومكان حاضن للحداثة ومؤسس لها، أي أننا أمام حداثة تأسيسية باصطلاح مارك أوجيه. لذلك، فإن من أسماها “باريس الشرق العربي”، إنما كان يوحي إلينا بدورها “الأنواري”، والطلائعي، لولا أن تكالبت عليها أنياب العدوان والإخوان، سواء بسواء. بيروت، أيضا، هي مشتل الحركات التحررية العربية، وحاضنة المضطهدين والمقموعين والمنفيين، ومهد الوعي السياسي العربي الجريح.

قبل عشرين سنة تحديدا، جمعتني لقاءات مطولة بالشاعر المغربي محمد بنيس، يوم اقترح عليّ إعداد قرص مدمج لمجلة “المعتمد”، لفائدة بيت الشعر في المغرب. وهي أول مجلة شعرية صدرت من تطوان والعرائش، منذ 1947 وحتى 1954، باللغتين العربية والإسبانية، أشرفت عليها الشاعرة الغرناطية طرينا ميركادير، قبل أن يلتحق بها رائد قصيدة النثر العربية الشاعر الراحل محمد الصباغ. وهي المجلة التي نشرت للعديد من الكتاب اللبنانيين، وفي طليعتهم ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران.

قبل ذلك، وفي فترة التسعينات، كنت أسكن في المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان، وأذهب إلى بيتنا للنوم فقط، وإلى الثانوية ثم الجامعة لمتابعة الدروس بانتظام. ما أثار انتباهي في تلك الفترة من الإقامة الاختيارية في المكتبة وجود عدد من الكتب التي تصدر من تطوان، منذ الأربعينات، وهي ترجمات من الآداب الإسبانية لمترجم لبناني اسمه نجيب أبوملهم. وكتب أخرى ترجمها الكاتب نفسه إلى جانب مترجم آخر اسمه موسى عبود. وقد شرعا معا في محاولة رائدة لترجمة رائعة سيرفانطيس “دون كيشوت دي لا مانشا”، على نحو ما فعل عالم تطوان وأديبها التهامي الوزاني، صاحب أول سيرة روائية رائدة صدرت سنة 1942. وهي السنة التي صدرت فيها مجلة “الأديب” اللبنانية الرائدة.

نجيب أبوملهم والآخرون

كان نجيب أبوملهم مسؤولا في مكتب الترجمة الإسبانية العربية، الذي أسسه الجنرال فرانكو في تطوان، في ثانوية القاضي عياض، التي عمل بها أستاذا، ومن تلامذته الصديق والباحث في الآداب الإسبانية مصطفى عديلة. والذي أدين له بالكثير من المعلومات عن نجيب أبوملهم وصديقه موسى عبود، هو الذي خبرهما عن قرب وحبّ ومعرفة. بينما كان لبناني آخر هو ألفريد البستاني رئيسا للمكتب. وكان البستاني قبل ذلك مشرفا على القسم العربي في إذاعة تطوان، زمن الحماية الإسبانية. مثلما اشتغل موسى عبود في المكتب، وترجم مع نجيب أبوملهم عددا من الأعمال الشعرية والأدبية.

ولأن مجلة “المعتمد” كانت تصدر بالعربية والإسبانية، فقد كان نجيب أبوملهم كبير المترجمين في المجلة، حين قدم للثقافة العربية روائع الشعر الإسباني، عبر الأعداد الصادرة منها، على مدى سبع سنوات. وقد نشر ترجماته في مجلة “المعتمد”، منذ كانت تصدر في العرائش، ما يؤكد صلته بمؤسسة المجلة ومديرتها طرينا ميركادير، هي التي عاشت في غرناطة، حيث عاش أبوملهم، وحصل على شهادة الدكتوراه. بينما تنحدر ميركادير من مدينة أليكانطي “القنت”، شرق الأندلس. وكانت أول مساهمة لنجيب أبوملهم في العدد السادس، حين ترجم قصيدة “الزهرة الأولى” للشاعرة الإسبانية الكبيرة كارمن كوندي. وعلينا أن نتوجه إلى الصفحتين المواليتين، لنعثر على قصيدة للشاعر نجيب أبوملهم، بعنوان “إلى مجلة المعتمد”، نشرت بالعربية وترجمها هو نفسه إلى الإسبانية. والقصيدة موقعة بتاريخ 9 ماي 1947. وهي تحيّة لهذه المجلة الرائدة، ولمؤسستها طرينا ميركادير.

كما كان أبوملهم من وراء عدد من المبادرات في مدينة تطوان، جعلت من المدينة ورشة شعرية منذ تلك الفترة. نقرأ في العدد 13 من المجلة، وضمن ركن “أخبار” (Noticias) ما يلي “تقوم نيابة التربية والثقافة بتطوان بعقد مساجلات شعرية ومحاضرات أدبية بالمعهد الرسمي، بقاعة الاحتفالات، باللّغتين العربية والإسبانية، يقوم بها الشاعران الأب بيثنطي أرثيو ونجيب أبوملهم. والغاية من هذه المباراة الشعرية هو إعطاء صورة واضحة للشعر العربي والإسباني القديم والحديث”. وهي الصفحة نفسها التي أعلنت عن صدور ديوان “لمحات الأمل” للشاعر عبدالقادر المقدم، عن مطبعة المهدية. والحديث هنا عن سنة 1948. أما أغلب القصائد التي كان ينشرها في المعتمد، فكان يوقعها ويذيلها بعبارة “من ديوان أشلاء وأصداء”. والظاهر أنه من المخطوطات الشعرية التي لم تر النور، ولم تكشف لنا عن استمرارية عبدالقادر المقدم، هذا الشاعر المؤسس لحداثة الشعر المغربي.

ومن جملة الأعمال الأدبية التي ترجمها نجيب أبوملهم ونشرها مكتب الترجمة الإسبانية العربية في تطوابيروتن رواية “رابطة المصالح” لخسينطو بينابينطي، الحائز على نوبل للآداب سنة 1922. وستحمل مدرسة إسبانية بتطوان، لا تزال قائمة إلى اليوم. وقبل تأسيس المركز، ألف مع موسى عبود كتابا بعنوان “سرفانطيس.. أمير الأدب الإسباني”، صدر عن المندوبية السامية الإسبانية سنة 1947، مكتب الترجمة الإسبانية العربية، مطبعة المخزن بتطوان. وهو كتاب مدهش عن سيرفانطيس، اكتشفت فيه، لأول مرة، أن مبدع “الكيخوطي” كان شاعرا أيضا.

  أغراني محمد بنيس بالمقارنة بين تطوان وبيروت، بوصفهما مربّعين للحداثة الشعرية العربية. وكان بنيس على يقين من أن مجلة “المعتمد” هي أول مجلة شعرية مؤسسة لحداثة الشعر العربي، سنة 1947، قبل عشر سنوات من تأسيس مجلة “شعر” في بيروت، والتي كان يوسف الخال يطبعها في مطبعة أخيه رفيق الخال، وذلك قبل عشر سنوات أخرى على تأسيس “مواقف” أدونيس… وحين كنت أزور الشاعر محمد الصباغ في بيته بالرباط كان يكشف عن تواضع رفيع، كلما حدثته عن ريادة الحداثة الشعرية تلك. وربما كان يستحضر الدور الطلائعي لمجلة “الأديب” البيروتية، التي أسّسها ألبير أديب سنة 1942، والتي انتظمت في الصدور إلى غاية 1983، مع رحيل مؤسسها. وحين نعود إلى مجلة “المعتمد”، نجدها تجعل من “الأديب” مرجعا لها، بل إنها كانت تنتقي منها بعض القصائد وتنشرها، ومن ذلك قصيدة “الصدى الباكي” للشاعرة فدوى طوقان، حيث نشرتها المجلة نقلا عن “الأديب” اللبنانية.

شكيب أرسلان في تطوان

سنة 1930، سوف تشهد مدينة تطوان حدثا تاريخيا تمثل في زيارة الأمير شكيب أرسلان. والأكيد أن سنة الزيارة تكشف لنا مباشرة عن الأسباب التي دفعت شكيب أرسلان لزيارة تطوان. فهي السنة التي صدر فيها الظهير البربري، كما أقرّته سلطات الاحتلال الفرنسي، وهو يقضي بالتفريق بين بلاد السيبة وبلاد المخزن، وتطبيق أعراف وقوانين خاصة بالمناطق الأمازيغية. وهو ما اعتبرته الحركة الوطنية محاولة صفيقة لقسيم البلاد. بل إن هذا الظهير كان شهادة ميلاد الحركة الوطنية، التي انتفضت في وجهه، ووحدت عملها وكفاحها من أجل دحر المستعمر… ومن يومها، خرجت المسيرات الاحتجاجية والمظاهرات، وكانت البداية من مدينة سلا في الأسبوع الأول من شهر يوليو، ثم في الرباط ومراكش وتطوان… من هنا، يرى المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان أن الظهير البربري هو ما دفع الأمير شكيب أرسلان إلى التدخل، لمواجهة الاستعمار الفرنسي ومحاولات المس بوحدة المغرب، مشيرا إلى أن هدف الإدارة الفرنسية كان هو محاولة تمسيح المناطق الأمازيغية أساسا.

وقد اختار الأمير شكيب أرسلان زيارة تطوان، لأنها كانت تابعة للحماية الإسبانية، حيث اختارت إسبانيا الحياد في ملف الظهير البربري “الفرنسي”. بينما راسلت الإدارة الاستعمارية الفرنسية نظيرتها الإسبانية من أجل طرد الأمير شكيب أرسلان من تطوان. سوى أن الإسبان رفضوا الامتثال لذلك.

وكان الأمير قد زار منطقة الأندلس، قبل أن يصل إلى تطوان. وقد اعتبر البعض أن زيارة تطوان كانت من باب المصادفة، بحكم القرب من إسبانيا. لكن رسالة للمقيم العام الإسباني بتطوان، يومها، تؤكد لنا أن الأمير كان قد خطط لهذه الزيارة، في صيف 1930. وهي الرسالة التي أبرق بها إلى وزارة الخارجية في مدريد. وتؤكد الرسالة أن “زيارة الأمير لتطوان لم تكن مجرّد سفر من أجل الفسحة، وإنما كانت تخضع لبرنامج وضعه الأمير، نظرا للمركز الذي يحتلّه بصفته المرشد لجميع الحركات الوطنية في البلاد الإسلامية عموما، والعربية خصوصا”.

في البداية، قدم الأمير إلى طنجة، بتاريخ 10 أغسطس 1930، والتي كانت منطقة دولية. فقد اعتقد الرجل أن هذا الوضع الدولي سيسمح له باللقاء بالوطنيين المغاربة. لكنّ الاستعمار الفرنسي عمل ما في وسعه لمنع توافد الوطنيين على مدينة طنجة، ليتوجه شكيب أرسلان نحو مدينة تطوان ليلة 13 أغسطس. ويوم 14 أغسطس، وصل إلى تطوان عدد من الوطنيين المغاربة، من الرباط وفاس وسلا، وغيرها، ما يعني أن اللقاء كان مرتبا له. وظل الأمير، الذي أقام في دار الحاج عبدالسلام بنونة، يستقبل وفود الوطنيين القادمين من مختلف مدن المغرب على مدى ثلاثة أيام.

ويوم الأحد 17 أغسطس، أقيم حفل رسمي لاستقبال الأمير في دار السيد محمد الحاج. وقد شهد هذا اللقاء تدخلات لكبار الوطنيين والمثقفين من مدينة تطوان، وفي طليعتهم الحاج عبدالسلام بنونة والزعيم عبدالخالق الطريس والمؤرخ محمد داود، بينما ألقى التهامي الوزاني قصيدة بالمناسبة.

وتورد المصادر التاريخية أن الأمير قد أعطى توجيهاته للوطنيين المغاربة، ووضع معهم خطة لإدانة الاستعمار الفرنسي، استنادا إلى وثيقة الظهير البربري. وقد أشرف الأمير نفسه على الترويج للموقف الوطني المغربي في الخارج، انطلاقا من موقع تواجده في جنيف. وبفضل زيارة شكيب أرسلان، سوف تنطلق من تطوان أولى المظاهرات ضد الاستعمار، وكانت البداية مع المظاهرة العمالية الأولى من نوعها في المغرب، نظمت يوم الـ4 من مايو 1931. وقبلها، وجه الوطنيون يوم الـ8 يونيو 1930 عريضة مطالب الأمة المغربية إلى رئيس الجمهورية الإسبانية.

أما خطاب شكيب أرسلان التاريخي في تطوان، فقد دعا فيه المغاربة إلى ضرورة التزام الوحدة والتضامن فيما بينهم، من أجل مواجهة المستعمر ومناوراته. وعن هذا المبتغى يقول شكيب أرسلان مخاطبا أهل تطوان “فإذا كنت سررت باجتماعكم في حفلة خصصتموها بتذكار زيارتي لتطوان، فإنما يكون من أجل اتحادكم في مبدأ، واجتماعكم على مشرب، ورميكم عن قوس واحدة”. ومن طرائف ما جاء في خطاب الأمير أنه أوصى المغاربة بالعمل لنيل حقوقهم، وأن “الحكومة مهما قدمت للشعب من خدمات فهي غير مشكورة عليها، ذلك واجب عليها، وأما الحكومة الإسبانية فهي غير مشكورة بالأحرى”….

هكذا، تشكل وعينا الجمالي والنضالي العربي من بيروت إلى تطوان، حيث كانت العاصمة اللبنانية وستبقى منطلق الحداثة وموئل الشرارة، وهي تقاوم القدر، وتنشد الحرية. فلا عجب أن يقف هذا القدر “المُدَبَّرُ” وراء الانفجار الأخير الكبير الحقير.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.