رحلة العودة إلى الأرض

سرد خرافي
الاثنين 2021/03/01
لوحة زهير حسيب

نمت، أو لعلي سهوت وحلمت أن صديقة لي أرسلت لائحة بأسعار السهر ليلة رأس السنة في المقاهي والمطاعم المطلة على أعلى برج في المدينة، ومن ثم حضور عرض الألعاب النارية والاحتفالات التي تجري بقدوم العام الجديد، والمتوقع أن تكون رائعة كما في السنوات السابقة.

ولأن الأسعار مرتفعة جداً، أو لا تناسبني، وجدتني أكتب لها “نعم سأدفع هذه المبالغ في حالة واحدة، هو ظهور أمّي على البرج”.

ورغم أني لطالما استخدمت التعبير ذاته، المقتبس عن أمّي فعلياً، في مواضع مشابهة، إلا أنه استوقفني هذه المرة لأفكر فيه، ماذا لو أن الله قرر في فاصل ترفيهي لهذا الكون، أن يرسل وفداً من الراحلين في ليلة رأس السنة لقضاء ساعة مع أحبائهم ثم العودة إلى اللامكان؟

سيتم الإعلان عن الرحلة إلى الأرض، ويجري الانتقاء عشوائياً، لا، لا يمكن ذلك، ربما هناك من لا يود الرجوع حتى ولو لساعة، وهناك من لم يعد لديه على هذه الأرض من يستحق الرجوع لأجله، وهناك من لديه أسباب أخرى تمنعه من بلوغ الرغبة في هذه المغامرة.

إذاً، سيكون على الراغبين التقدم بطلبات، أسوة بما يحصل هنا، لكن لا أعلم كيف سيتم هذا الإجراء، ورقياً أم الكترونياً، عبر تطبيق موجود على الهاتف النقال مثلاً؟ هل لديهم هواتف نقالة؟ لو كانت لديهم لاتصلوا بنا، لا هذا غير وارد، لكن يمكن أنهم يستخدموها في ما بينهم.

حسناً يتم تقديم الطلبات، وسيراعى أن تختار كل عائلة واحداً من أفرادها لتمثيلها، فلا يصحّ أن يأتي أربعة من عائلة واحدة مثلاً، هل سيتفق أفراد أسرتي على من يمثلهم؟ وهل أستطيع أنا الاختيار من بينهم أيضاً؟

سيجري الاختيار، على الأرجح، بطريقة بدائية، أوراق وسحب، من سيسحب؟ هل ستمتد على الأوراق أيدي الناس أم أيدي الملائكة؟ بالتأكيد هنالك مقرّبون من الناس يأخذون مرتبة تخولهم التصرف، على أنهم شرفاء لا يرتشون ولا يتملقون ولا يزكّون أقاربهم ومعارفهم دونما استحقاق. وربما لن توكل المهمة إلا على الملائكة وبطريقة أكثر تقدماً، كأن تكون على شاكلة دواليب اليانصيب التي يديرها أطفال. لا أعرف إن كان هناك ملائكة أطفال، لكن الأطفال من البشر لا بد أنهم أمسوا ملائكة هناك. وقد يكون الاختيار عبر الكمبيوتر نوعاً من حل، لا شك أن في أقاصي السماوات أساليب حديثة، هل يحتاجون شبكة إنترنت؟ أم أن الأثير يكفي، ولن يصيبهم القلق ما إذا كانت الشبكة سريعة؟ ولن يقلقهم أن تنقطع إذ يتقطع الكابل البحري بين أسنان القرش مثلا! أو تنقطع الكهرباء! هل تعوزهم الكهرباء؟ هذا السؤال يفتح على أسئلة أخرى، تخيلوا لو أن الموتى يفرزون وفق جنسياتهم على الأرض، فالسوري إلى مكان يختلف عن مكان الصيني أو السويدي، لا بد من ذلك. لكن العدالة تقتضي أن يكون الموضوع عكسياً، فالله سيعوّض في السماء لكل إنسان ما فقده في الارض، فمن عاش في بلد متخلف سيعوضه بآخر متقدم، لكن ماذا لو كان المرء مساهماً في التخلف؟ بم سيعوضه عن سوء عمله؟ وماذا لو أن بلده لم يعد لها وجود أصلاً؟ فهل سيعود إلى الأرض من ماتوا آخر خمسين عاماً فقط؟ لعل هذا حل معقول، إذ تقوم الرحلات مرة كل عام، وبالتالي من انتقلوا على العالم الآخر في الماضي البعيد سيكونون، على الأرجح، قد أخذوا فرصتهم.

نننن

المهم سيتم الاختيار، ربما سيكون هنالك نقاط لمن هو متميز، أو مساهم في أعمال ما، لكن في العالم الآخر لا يوجد عمل، لا أعلم كيف يجري انتخاب المتميزين إذاً.

بعد ذلك يتم تحديد المناسبات التي ستجري خلالها الرحلات، وبينها  رأس السنة.

لن نخوض في تفاصيل من قبيل ماذا سيرتدون، ربما سيختارون من ثيابهم تلك التي كانوا يؤثرونها في الحياة الدنيا، أو ما تبرعوا به من أجملها، ولربما كان لديهم مصانع لألبسة خضراء من سندس واستبرق.

هل ستكون هناك شروط موضوعة للرحلة، مكان انطلاقها وزمانها وعودتها، وهل تكون هنالك مراكب ولها مواعيد؟ لا بد من ذلك، فلن يمكنني انتظار أمي في هونولولو مثلاً، والمأمول أن أجتمع بها في دمشق أو بيروت أو دبي.

وسيكون الشرط الأهم والأصعب هو ألا يدلي أحد  بأسرار عن عالمه، وإلا سنفقد الإثارة والتشويق اللذين نملكهما نحن الأحياء فيما يتعلق بعالم الموتى.

ولكن ماذا لو جرت مخالفة الشروط؟ فلا بد أن أحداً ما سيرتكب خطأ من هذا القبيل، كأن يتسرّب ويهرب رافضاً العودة إلى حيث كان. فلأتخيل أن شيئاً من هذا لن يحدث فلربما كانت قد أجريت على المعنيين عمليات بدلت من طبيعتهم كبشر.

وماذا عنا نحن! كيف سيتم إعلامنا بأن أحدهم قادم إلينا؟ أيكون ذلك عبر المنام، لا بد أن هناك طريقة أكثر واقعية لنستطيع فيا اتخاذ الإجراءات والتدابير المناسبة، للحضور في المكان والزمان الملائمين، وهل ستكون الدعوة إلى اللقاء مفتوحة، بحيث يمكن أن نذهب أنا وإخوتي وأزواجنا وأولادنا وجيران أمي وأصدقاؤها وكل من يرغب؟ وهل يتطلب الأمر تحديد العدد في كل منطقة وتنسيق الجموع، أم أن المسألة مفتوحة؟

كيف سألقى أمي؟ هل سأبكي؟ هل ستبكي؟ ماذا سأخبرها؟ هل كانت لديها طريقة تمكنها من أن تراني طوال هذه السنين أم أنها ستتفاجأ كم كبرت ابنتها، وستجدني وقد قاربتها في العمر؟ لن أفتح مواضيع تثير الشجن، سألجأ بدلا من ذلك إلى قصص تحمل على شيء من الضحك والمرح. قد أطلب من الله تمديد زمن اللقاء، لكن ماذا لو كان موعد رحلة العودة ثابت ولن يقبل التأخير. ما أنا متأكدة منه أن الوداع سيكون حزيناً وموجعاً، أكاد أجزم أن الأمر مؤلم لي ولغيري ، فلا أحد يحب أن ينكأ جرحه.

إذاً لن يكون اللقاء مشتهى، على الأرجح نحن في غنىً عن فسحة إضافية لنبش الألم، وكأن ثم أليس من الأفضل لأحبائنا أن لا يسمعوا أو يروا شيئاً مما دلت عليه أحوالنا من تدهور حتى بتنا في قاع ما بعده قاع. لاسيما لو فتحنا الأبواب على تفاصيل لا علم لهم بها ولا يمكن أن تخطر مساوئها لهم على بال! كأخبار الحروب كوارث الهجرات، أو الطامة الكبرى المسماة كورونا، ناهيك عن جهلنا الأكيد بطرائق العدوى ومدياتها، وما إذا كان كوفيد – 19 يمكن أن ينتقل منا إليهم ما قد يحدث بلبلة كبرى في الآخرة بعد الأولى.

فلنسهر، إذن، أينما نشاء وكيفما نشاء لكن دونما توقعات خيالية جامحة.

من المؤكد، أخيراً، أن الله يعرف ما هو الأفضل لحياتنا، لكن لا بد لي من الاعتراف أن عمله أمر شائك.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.