رحلة العودة من المدينة إلى الجبل
العَوْد من الجنّة
“نرتّب ونشكّل الكلمات بألف طريقة، لكن كيف يمكن أن نتساوى مع وردة؟“ (ريلكه)
قطفت زهرة الجنة؛ رائحتها شبيهة بالنارنج السوريّ، أكثر طيباً منها، فاحت لتدلني على طريق الوصول إلى طفلي. كانت زهرة بيضاء من نوع الزنابق الغريبة. وما إن وصلت إلى آخر الطريق حتى انهار.
بقيت الزهرة بيدي، وطفلي صار جذعه السفلي خشباً، وجذعه العلوي بشراً. استيقظت ورائحة الزهرة تزكم أنفي، وصوت يخرج من بطني كخوار بقرة مات وليدها. لقد قطفت زهرة صامويل تايلور كولريدج، ما السرّ أن يدخل بلحظة ما؛ المنام نفسه إلى شخصين في زمنين مختلفين، ومكانين مختلفين؟
هل هي لحظة تقف أمام الهزائم، أم أن المنامات تواسي الحالات الإنسانية. فالحزن شعور يستحق أن نعيشه كي نعرف كيف نعيش الفرح أكثر. لا بأس الصباحات دائماً جميلة.
ما الضير أن نكتب مثل يعسوب يبحث عن دوائره على وجه الماء. فالألم في كل مكان. ما الضير أن نلوّن هذا العالم الواقع في هستيرية الحرب، ببعض الحب وقليل من زهور الجنة، ونطلق العنان للأرواح كي تنجو مثل سماء زرقاء.
في طريق عودتي من الجنة، ما تحدثت مع أحد سوى سماء المجيمر ضيعتي، ارتحت على سهلها النازل من التل بهدوء شيخ جعل الحجر الأسمر عكازاً له. وبقيت أنا ورائحة الزهرة ننتظر اللاجدوى.
السويداء
وردة جبلية وحشية من حوران، في جنوب الحياة من سوريا، تنمو كما الأساطير؛ في علبة زجاجية تنفتح منها على كل الحياة، وتنغلق على نفسها. مدينة كإنسان أربعيني غضّ. مهما طوى الزمن على دكانة حجارتها حتى ازدادت سمرة وصلابة.
تلال تبوح بحكاياتها، تخرطها الريح على شكل أيقونات – طيلة الوقت – تجيد الغناء، وتتقن التقمص في كل سكناتها، وحركاتها، فلا تجيد المستقبل مثلما تجيد الماضي كفعلٍ مرتكبٍ مرتين.
والبرد فيها لغة تنخر العظم، فتعلّمه كيف يعشق ليدفأ، صامداً على ركبتين كمسامير معدنية، كل ما تحتاجه حصاد كثير من ليالي الصيف العامرة بالقمح، ليصير برغلاً، تقتات عليه العظام من قرصة البرد، لتكمل الحياة بصبر المتعلم، العلم الذي اجتاح المكان رغم فقره المدقع، مكان إذا قلبت به حجر وجدت به حياة وحكايا ومعرفة. كلما عليك فعله أن تصغي، كما لو كنت السكون لتعرفه أكثر.
السويداء نبتة برية أجادت الحياة مع صقيع المكان وجفافه، ريح تلسعُ بأسواطها المتجمدة تعبَ الحفاة الساعين وراء لقمة العيش، والمطر بها زائر مقلّ، لا يعرف دربه إلا إذا أسبق به عاصفة من الرمال، تتجسس على الصخور المحتفظة بسر عميق من باطن الأرض، فكلما صفرت باحت بماضٍ حملته منها، لا تخلو الصخور إلى نفسها إلّا وتناقل الناس قصصها ظناً منهم أنها حكاياهم، فيربص التقمص على كل عتبة، حاملاً معه زوّادته، وكثيراً من الدم لينتقم له.
كلّ ذرة تحمل الماضي في هذا المكان ماضٍ يتفاخر به الناس على أنه قيم عريقة وبطولات وحضارة، بينما يأكلون لحم بعضهم البعض بالثرثرة في الصباحات.
والطيبة مجبولة بالطين الحامي في النفوس، معدن أصيل. مكان متناقض يحمل من الطبيعة لوحة لونية حارة، ترابٌ أحمر، عاشق للرائحة الأولى للمطر، يتدرج ليصير بنيّا مشويّا، ألهبته البراكين. يذوب في الماء كالبن بسهولة، وإن تجمع كطين يلتصق ببعضه البعض كمادة دبقة، أشبه بالعجين، فتعلق القدم به، ويثقل المسير، آبياً الرحيل بسهولة، كأنما يغتنم أول فرصة ليغيّر حياته، ومكانه. متجاهلاً السؤال من أين، وإلى أين؟
والغروب؛ حارّ، يودِّع بكثير من الحميمية والشغف، فيلتهب في الأفق، يقلّد المكان؛ كيف ذات يوم التهب. والشجر يبدّل المكان بورقه، طالما يقوى على البرد والحرّ والحشرات.
والوقت؛ رائحة لزجة لدبق الصيف والبرد القارس، يتيم، وحيد، يثقله الانتظار، دون جدوى، يمشي وعقاربه تدور لاسعة اللحظات. حياة مزارعين، يجيدون الانتظار والترّقب، ويجيدون الخيبات، والخسارات، والفقد، يحملون أرواحهم على أكفهم، راحلين باتجاه خيبات أخرى في دول أوروبية وعربية.
والحب؛ خطيئة، تشحذ الكرامات هممها على عتباته، ليعود الأصل إلى أصله، أو يُقتل الحب بدم بارد، مع أجنّته. وترفع رايات الانتصار، بانغلاق الطائفة على ذاتها، لتصير عرقاً صافياً، فلا احتمال لوصول النهر إلى البحر.
روح المدينة، قرية أضاعت هويتها، حتى صارت شبحاً، كثير الكلام، قليل التأمل والتطلّع، مشبوهة بإطلاق أحكام مسبقة، والفضيحة فيها؛ أسرع من النار في الهشيم، مفتوحة باتساع على الأفواه، والعيون الشاخصة، لا يشفع لها شفيع ولا عمل، ولا يبرأ مرتكبها من مصابها، مرض عضال، لا يفارقه حتى في القبر. فالوقت ساكت طيلة الحال، ولا يتفوه إلا في هذا الاحتمال.
واللغة؛ تحتار بين الشهيق والزفير، محاولة التملّص من غضب الرجولة الكامن في قساوة الحجر، اللغة مسربٌ يخرج من باب الحلس، دافعاً القاف من قحف الرأس، وناطقاً الذال من ذيل الحجل. اللغة مفتاحٌ جزلٌ لكل هذا العناء الكامن في رطوبة لذيذة للطحلب والحجارة. اللغة إبهام متفق على إيضاحه للمبهم، فلا يمكن شرح مبهم بمبهم. كما أنّ إجلاء الخفاء يعني مرحلة من مراحل التفسير، كي يتقبل بها العقل الإبهام، ويخضعه لمرحلة الشرح، والتفكر، والتأمل. فبذلك يصير المبهم مسوّغاً للمعرفة، والفلسفة محاولة تفسير المبهم بما هو أكثر إبهاماً كما أظن، حيث ينفتح العقل بعد تعريف المبهم على أسئلة جديدة، هذه الأسئلة تضع العقل في مرحلة إبهام مرة أخرى بعد إدراكه ومعرفته، لذلك نجد لغة الفلسفة عميقة من نمط السهل الممتنع، ولا تخلو غالباً من الصعوبة. فقط اللغة من تكشف الزمن، فالعقل إمّا رابض خلف ذكرياته أو خلف تطلعاته، والزمن عنده انتظار أو تلصص.
النبات والتربة
أشهى عنب العالم في السويداء، وأشهى تفاحه. فالسكر هنا يعرف كيف يُختزن بجدار رقيق مائي ثري، اتفاقية شديدة التعاون والذكاء، بين النبات والتربة، نِسب ممتازة لفاكهة وخضروات، شهيتها للحب مغدقة. حتى اللون أنجز اتفاقية بينه وبين الضوء. الألوان هنا حلقة متوسطة من تكوين الجمال، رسولة عاشقة معتدلة الحضور، تأخذ من الدرجات اللونية منتصفها، فلا تتطرف للألوان الباهتة ولا للألوان الغامقة، بل تأخذ منها ما اعتدل وراق له الحضور في صيف حام، وشتاء قارس. السويداء غالباً ما تشبه أبي لا يملك شيئاً ويملك كل شيء.
زمن العود
“أحب تلك الورود المتقلبة، ورود ليديا في اليوم نفسه الذي تولد فيه تموت“ (بيسوا)
ما إن تعود إلى مسقط رأسك، حتى تكتشف أن الزمن بمسافاته التي قطعت يعود معك ويعيد عليك صوره. تفصلك فجوة عن آخر مرة رأيت وجهك بالمرآة وبين الحاضر، لكن المرآة لها ذاكرة تحتفظ بالوجوه، ستعرفك جيداً مرآتك وتقيسك بالسنتيمترات التي كبرتها، وتساعدك يدك التي نسيت كيف تتحسس بها تفاصيل نموك بعيداً عن هدوء ضيعتك. الهدوء هنا يساعدك لترى الزمن.
جمال الضيع وهواؤها يفتح فيك أزهار طفولتك التي نسيتها على ظهر التل، أو في شقوق الجدران التي كنت تختبئ بها، وبين الحصى التي كنت تخبئ بها قصاصات الورق في لعبة البحث عن الكنز وترسم خرائط بالطبشور على الطريق.
عندما تعود إلى مكان طفولتك تتلكأ في المشي، تشعر بأن قدمك كبرت فجأة على المكان، وأن كل شيء متوقف عند اللحظة التي غادرت بها، وبقيت كأنها صورة فوتوغرافية تستعيدها الآن في ألبوم العائلة.
الطريق الإسفلتي الطويل الذي كان لا ينتهي كما لو أنه سنين طوال، إلا في حضن ماما تنزع حقيبتي المدرسية عن ظهري، وتمسح شعري الجعد المنكوش وتنزع عني ملابسي تدخلني لأغسل جوربي، وقدمي، أغسل يدي جيداً وتسقيني من حفنة يدها، ذاكرتي تتوقف عند حفنة يدها والماء شهياً لا يفارق عطشي.
تغيرت الملامح، ربما هرمت! البيوت بدت أصغر، وذاك البيت الذي أغلق فمه على طفل عندما كنا صغاراً وأخافنا صوت الباعة، فهربنا مذعورين كمن رأى ضبعاً، لم يكن سوى مدخل عادي لبيت مهجور شاخ وأشفق عليّ، الطريق ما زال كما تركتني ذاكرتي عنده، الأشجار كبرت مثلي، لم تلحظ كبرها إلا عندما رأتني، طارت العصافير منها، أجفلها الضحك.
كعادتي الطفوليّة مرّرت السلام بأصابعي على كل ما لامسته، ونثرت صوتي على كل من رآني، حفيف الأشجار، ملامح المنازل، مواء القطط، خوار البقر، والنسيم الذي التف حولي يعرفني جيداً.
فمن أنا!
وكيف ترك هذا الجسد تلك الطفلة هنا ورحل. رافقتني تعرّفني على منسياتي، وكعادتي سألتها عن لون الشجر في المساء، فأجابتني بخبث العارف، رافقتها بصوتي: سوداء.
– نسي الطريق شجرة هنا هل انتبهت؟
– شجرة كرز! أيتها الشقية.
– هنا أصابني أحد الفتية بحجر على رأسي بينما كنت أراقبه وهو يسرق الكرز.
– نعم كان مؤلماً بكيت بهدوء العارف أن الألم سينتهي.
– غادرتْ الشجرة المكان منذ بدأت رحلتي، الأشجار أحياناً تبكي.
– نعم وتضحك، وأخبرتها كيف سمعت الشجر يضحك.
– هذا البستاني يقف مكانها، سأتركك قليلا كي لا يظنك مجنونة.
– لا بأس أفهم ما يقولون هنا عمّن يحدّث نفسه يا صغيرتي.
لقد عرفني، نظرته التي كوت رأس قلبي بحزن شديد أخبرتني أنه عرفني، ارتجف قلبي وأنا أرمي السلام، لم يكن وجهه مألوفاً، لكني أشعر أنه يقول لي سلاماً بلغة ليست كلغة البشر التي اعتدتها في عالم السيارات، والفوضى، ولا في عالم الحرب، كانت فعلاً كسلام.
بعد أن تجاوزته، سألت الطفلة، أأعرفه؟
– لا، أبدا، انتقل منذ يوم مجيئك إلى الضيعة، لا أحد يعرف من أين أتى ولا من هو! كل ما نعرف عنه أنه أتى إلى هنا وطلب عملاً في البستان، وهو الآن يقلم الورود والحشائش.
– غريب أن تجد في الضيع مثل هذه المهن، بالعادة القرويون يعملون أعمالهم المنزلية بأنفسهم.
كان يقف في ظل الكرزة وكأنه ظل، الكرزة التي كانت حاضرة هنا.
تكررت صباحاتي وذاكرتي أعيشها مرتين، وهذه الشقية تتعفرت على ثنايا التفاصيل، لم تنس شيئاً كل ما قالته كنت أضحك لسماعه أو أصفن أو أبكي. أحيانا كنت أبكي كطفل يمسك بثوب أمه تائهاً عن نفسه، ولا يعلم من الحياة سوى أنها أمّه.
بات هاجسي أن أتفقد حال ذاكرتي على حواف الطريق، كل يوم أمرّ أسقيها، أرى من مات فيها ناسية أوجاع العمر وفشله، ناسية الحرب كيف لم تخفق بعد، وكيف كبر جسدها على الروح التي تلبّستها.
ألقى البستاني ينتظر بيده ورود على بوابة الدار، أرمي السلام وأناجي النجمة الصباحية عسى أن تكون الورود لي، يتجه نحوي ويعطني الورود. دونما كلام، آخذها وأكمل صباحي.
أضع الورود بالمزهرية وأبدلها عندما تذبل، لم أتساءل يوماً عن معرفته أنها ذبلت في المزهرية كونه بستانيا. لم يسألني اسمي ولا سألته من أنت؟
ولم تسأل تلك الشقية أي سؤال. وكانت معي يخفق قلبها عندما تأخذ الورود محاولة خطفها من يدي لكني أحاول أن أبقى رصينة أمام الرجل الوحيد الذي أهداني الورد في حياتي، بعد أبي.
مساء أتأمل الورود التي ما رأيت أجمل منها في حياتي، كانت من النوع الجوري كثيرة النظرة وعزيزة الرائحة تعرف جيداً كيف تصيد القلب بسحرها وتأسره. كررت صباحاتي وما عاد البستاني ينتظر ولا الورود.
– هل خدشت حياء الوردة؟
– لا أظن، لم أتفوه بكلمة؛ شعرت أن الكلام يَفسد في مثل هذه اللحظات.
– إذن أين ذهب البستاني؟
– لا أعرف ربما هرب هو الآخر من حالة الحرب التي تتوجسنا وذهب ليودّع طفولته.
بعد مدة سمعت النسوة يحدثن الخيوط التي يغزلنها للحياكة، أن البستاني الرجل الغريب الذي مرّ من هنا وسقى الحياة، قد أصابته رصاصة قنّاص في رأسه بينما كان ذاهباً ليودّع ذكرياته.
الغريب أن دماغه فاض وروداً كرزية ملأت الحافلة التي اصطاده القناص منها، وقالوا إنه عندما حاولوا أن يلمّوا جثته صار غبار طلع ولم يعرف أحد أين دفنوه.
عدت إلى المزهرية في بيتي وجدت الوردة الجورية الأخيرة التي أعطاني إياها جفت على لونها ولم تمت.
رحلة إلى روما الصغرى
“مثل تلك التي تتحدث عن أمها
وتتشبه بها عند الكلام
ترتوي هذه البلاد المتّقدة
وهي تتذكر إلى ما لانهاية“ (ريلكه)
مدخل السويداء من الشمال يرافقك بطبيعة صخرية كريمة بروحها، لا تغفو الحياة بها، كما لو أنها محارب قديم، تبدو وكأنها قصة خرافية عن كائن ضخم عندما رأته الشمس تصلّب، أو جوف بركاني عشق الأرض لشدة شوقه خرج ليرى سطحها فتصخّر، فأسموه اللجاة، منطقة بازلتية في شمال السويداء على طريق الشام، تمتاز بطبقات بركانية تراكمت فوق بعضها البعض وتبردت تباعاً فصنعت أمواجاً تغلّف نفسها، فيبدو السطح من البعيد رقعة واحدة مرصوفة بحجر صقيل.
زبد البحر زائر خفيف الظل للجاة بالربيع، على شكل ورود بيضاء نثرية غارقة في أمواج صخرية، المكان أشبه بأسطورة خرجت من باطن الأرض وتصلّبت عندما لم يؤمن بها أحد فآمنت بنفسها.
كلمّا مررت بالبولمان من جانب المكان أغواني، كنت أسمع صوتاً يناديني، لا تكتمل رحلة العود في هذا المكان إن لم تلبّ نداء التلال الثلاثة، ثمة تل قريب أشبه بتنين نفث ناره وحوّل المكان إلى صخور بازلتية صامته تحمل الرياح ترانيمها، ومازال يحتفظ الأفق بلون الحمم المنصهرة عند المغيب.
التنين ما إن فرغ من حزنه، غمس رأسه بالصخر تاركاً حدباته مرثية على مرأى من العيان. جنين من رحم الأرض نضج فعرفتُ سرّه، يدعونني دائماً بترنيمة خفيّة أتجاهلها، يتوق لخلق وريث شرعي كامل، دونما أن تعبث به الأيادي، وحدها الطفلة الشقية من كانت تُصغي كخيميائية، تمسك بيدي وتقودني لنقترب منه.
رافقتني تسقي عطش الناس للرواية، شعب أضنته الحرب، وأرهقته اللاجدوى، حال الجوع للإنسان الذي يجاهد البقاء رغم اندثار الإنسانية. الحرب تسقي عطش الشيطان من دماء المسالمين، ومن أرواحهم الثكلى، لا تندثر الأسطورة في هذا المكان ما دامت الرواية الشفهية تسقي يبسها، عسى أن تحيا وتوقظ المعنى معها.
– هل رأيتِ وجهه، ملامح بازلتية كفيليب العربي، يحاور اللامعنى بكل وجوهه ليصير معنى مستساغا من أجل حياة كريمة.
– وما اللامعنى؟
– اللامعنى يا صغيرتي، هو هذه الغوغاء التي فرضتها الحياة، واختلفت معها المعايير والقيم، فما زال هذا الرجل الذي يجمع الأنوثة في طيات روحه، ويصغي بمحبة، يصارع للحفاظ على إنسانيته، قلما نجد في زمن المال من هو غارق بالتأمل كشجرة سنديان عتيقة.
– المحبة غصن ندي، أنا أحبّك.
– وأنا صغيرتي، لكن يؤلمني العجز الذي أسقطتني به الحياة أمام هؤلاء الشخوص.
– أتذكرين ما قاله الفنان الذي استضافنا في شهبا.
– ذكريني صغيرتي!
– قال: إنه خرج من جوف الأرض ليصغي كما هذه الصخور.
– شقيتي، أنت من يصغي بحفاوة المتعلم. يبدو لهذا وجدنا كي نصغي لنتعلم، أتعلمين عندما زرته مع الأصحاب، ولوحاته الفطرية تملأ روحها من تفاصيل المكان، أحزنني كم نهمل الفطرة المصغية للجمال. أو ربما هي الحرب، تنقص من أوزاننا لنركض وراء سداد ديون الجوع.
يبقى الفن في زمن الرداءة رد فعل للحياة، كالتطوّر الجيني الذي يصيب الكائنات لتحافظ على نسلها، والفن يحافظ على إنسانيتنا من الانقراض.
كل تفصيل أسمعه في شهبا أندهش له، من مكان تربت حضارة رومانية بكر في جنباته، لم تكن المنطقة كما كاناثا مجمع حضارات قوّضت بعضها حتى اندثرت، كانت ولادة مدينة جديدة بناها فيليب العربي، مدينة حاضرة بتفاصيل زاخرة.
– لا أذكر أني زرت المكان بطفولتي.
– كنّا نمرّ منه مرور المشاهد من خلف زجاج الحافلة، لم أعرف أبداً أنّ ثمّة حاضرة أثرية على بعد عدة أمتار من طريق احتفينا به في طفولتنا، فمسقط رأس والدتي، قرية نمرة، تقع وراء منحدر يلي الطريق الرئيسي لشهبا، يخرج من البوابة الشرقية لمدينة فيليب التي ما زالت بها بضعة صخور ضخمة تحمل مفاتيح المدينة في صلابتها وأسرارها ودهاليزها، يليها مجمع مائي، أكبر مجمع رأيته في طفولتي، ارتفعت التلال والجبال حول هذا المجمع المائي لترى كم هي شاهقة، لم تفقد الجبال رشاقتها وقد فارقها الماء، جبال جرداء بيضاء، تغرس في قلبها أشجار التفاح والعنب العرائش الأرضية، تمدّ جسدها الأخضر الغضّ على تراب شهي حارّ، لتذوب الثمار بنكهة الحلاوة والماء. بلى، أتذكرين الساحة كان هنا أعمدة رومانية قديمة وساحة مرصوفة من البلاط الصخري.
– فعلاً أين ذهبت؟ كان هنا كراج للحافلات، نذهب منه إلى قرية أمي. وكان ثمة أعمدة وساحة حجرية. ما الذي حدث لهذه الذاكرة؟
لم أعد أذكر ملامح المكان، والطفلة ما عرفتّني على منسياتي كما في مسقط رأسي المجيمر، يبدو هي أيضاً غريبة عن هذا المكان رغم أنه متماثل بطباع ناسه ولهجتهم، ولكنتهم، حتى السوق الممتد حول الساحة الإسمنتية ودلة القهوة التي استبدلت مكان الأعمدة الرومانية، شبيهة بساحات السويداء، لكن المكان غائر في ذاكرتي. أحتاج إلى دليل يعلمني التفاصيل. وأهم من يعرف حقيقة المكان هم المسنون، أو المهتمون بهذه الحاضرة، فذهبنا لنستشير ونسأل عمن يدلنا على حيثيات المكان، بعدما قرأت الكثير عنه. وبدأت رحلة معرفتي الاستكشافية.
كانت منطقة حوران الكبرى والتي تضم معظم سوريا الجنوبية يطلق عليها في العصر الروماني الولاية العربية (أرابيا بروفنسا) ومن هذه الولاية خرج الكثير من الفلاسفة والشعراء الذين كتبوا باللغة اليونانية وخرج إمبراطور يدعى فيليب العربي، هذا الإمبراطور هو الذي بنى شهبا على شكل صورة مصغّرة عن روما، إلّا أنّه بناها على شكل رقعة شطرنج. تلتقي في المركز في نصب تذكاري، قضت عليه العقول المسيطرة على البلد في عصرنا الحالي. بهدف ترتيب المكان وتعبيد ساحة للمواطنين الكرام.
شهبا تقع شمال السويداء 18 كيلومترا عنها، إلى الجنوب من مدينة دمشق، على بعد 85 كيلومترا، تقع وسط التلال في جبل العرب، وتدعى مدينة فليبوبولس، نسبة إلى الإمبراطور الروماني فيليب العربي ابن مدينة شهبا، تجاور المدينة ثلاثة تلال على صف واحد من جهة الغرب.
يعود تاريخ شهبا إلى العصر الحجري، ووجد آثارا للإنسان البدائي في تل شيحان وتل الغرارة وهي التلال القابعة حول شهبا وثالثهما التل الذي أسميته بتل التنين، يُطلق عليه اسم تل الجمل وهو المسؤول عن زيارتي إلى هذه المدينة واستكشافها وذلك عند مروري بجانبه على الطريق العام عائدة من دمشق يطلقون عليه الطريق الغربي، وهو لا يمر من شهبا بل من الغرب من المدينة، أما التلال الباقية فلكل منها انطباع تركه في روحي.
الفترة الهامة في شهبا هي عصر الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور فيليب العربي، ومن المصطلحات الأثرية الموجودة في المكان هي الربدات عبارة عن حجارة كبيرة ملساء تدعم الأسقف بين القناطر، والفرست والمحراب أماكن العبادة وأبواب الحلس وهي أبواب ضخمة تغلق بها المداخل.
ثمّة فراغات صغيرة في الجدران والتي تميز المقالع التي أحضرت منها الحجارة، تتواجد في المسرح الروماني الذي بناها فيليب العربي والتي تمتاز عن الفترة اليونانية التي كانت تعتمد على الزخرفة بشكل فني حيث كانت المدن تعيش في فترة سلم، لكن في الفترة الرومانية التي تم فيها بناء مدينة فيليب، كان الهدف منها عسكري فهي إمبراطورية عسكرية، فكان الأساس في البناء هو القوة والصلابة والمتانة للجدران على حساب الزخرفة. نجد حجر القفلة الموجود في قبة كل قنطرة يملأ الفراغ في المنتصف بطريقة هندسية ذكية ودقيقة، جعلت هذه القناطر تعيش إلى زمننا الحاضر.
بنيت الحجارة دون مواد بينها فهي تعتمد على ثباتيتها فوق بعضها البعض، وقد نجد أماكن وضع بها الحجر على شكل حرف L من أحد جوانبه السفلية بعد عدد معين من الحجارة المتلاصقة جنباً إلى جنب أو الموضوعة بشكل أفقي لتشكيل هيئة الجدار أو القنطرة، لكن هذه الميزة تجعل الجدار يتوازن كي لا يؤول إلى السقوط، ونجد مثل هذه الهندسة أيضا في بناء الأهرامات.
خلطة من الكلس الروماني أو الملاط والرماد البركاني والآجر المشوي والفخار، كانت تستخدم لإنشاء القباب شبيهة بالإسمنت الذي نستخدمه في أزمنتنا الحالية، وهي خلطة أثبتت فعاليتها حتى الآن لثباتها طوال هذه السنوات.
من آثار المدينة: البوابات الأربع، من كل الجهات، فلقد عمل فيليب على التقاء المدينة بالمركز لرقعة الشطرنج ومن كل جهة من هذه الرقعة جعل لها بابا وسوّرها بسور كبير.
الشوارع الرومانية المصقولة والمرصوفة، والمحاطة ببيوت وبهندسة معمارية للآن حاضرة بتماثيل مبهرة.
المسرح الروماني والذي هو أحد أهم المسارح في سوريا رغم صغره، لكن هندسته الذكية تخوّل المتحدث الذي يقف بالمنتصف من منبر المسرح يصل صوته إلى كل المستمعين بالمسرح عن طريق تقنية الصدى والارتداد للصوت.
الحمامات الرومانية، والقلعة، المعابد ودور العبادة، الكليبة وهو المعبد الإمبراطوري، الفيلبيون، والمتحف والذي يضم عدداً من لوحات الفسيفساء والتي اختفت حالياً خلال ما حدث في سوريا، وتعد من أجمل وأندر لوحات الفسيفساء في العالم.
حكاية الآلهة وأساطيرها؛ هي ملخّص لوحات الفسيفساء هذه، تم العثور على أربع لوحات تستخدم كأرضيات لإحدى الفيلات التي بنيت في عصر فيليب، 244 – 249م، وتم إنشاء متحف عليها ليحوي اللوحات الأربع.
أسماء اللوحات هي أسماء آلهة رومانية، ومنها ثيتس آلهة البحر (حورية البحر) وهي تتزين بالحيوانات المائية، يلتف حول عنقها تنين برأس كلب؛ رمز لمخاطر البحر. وثمة نجم البحر فوق جبهتها وهي محاطة بالزعانف تعتبر رمز لجمال البحر، وكما تزين شعرها أسماك البحر وهي رمز لخيراته، شعرها يتدلى على كتفها بلون الرمال، ونظرة الربة نظرة عميقة ومتسعة، يوجد على كتفها الأيسر مجداف وهو رمز المغامرة واكتشاف المجهول، ويطير حولها تسعة أطفال صغار هم الطفل كيوبيد، إله الحب، وتمتطي الأطفال المراكب والدلافين البحرية وتسير بأمر من الربة.
إنّ آخيل أحد الأبطال في الميثولوجيا الإغريقية، هو ابن بيلوس ملك فثيا من حورية البحر ثيتس كان له دور كبير في حرب طروادة التي حدثت بين الإغريق وأهل طروادة، وهو البطل الأساسي في إلياذة هوميروس. وتقول الأسطورة إن أمه الحورية ثيتس قامت بغمره بمياه نهر سيتكس (نهر الحياة) ممسكة بكعبه، وهو المكان الوحيد الذي لم يصله الماء، فكان منه مقتله في حرب طروادة.
أمّا اللوحة الفسيفسائية الثانية فكانت أعراس آريان وديونيزوس: وهي تمثّل طقوس الأعراس فنشاهد على اليمين من اللوحة إله الخمر ديونيزوس وعلى يمينه آلهة النبات آريادنه، يحتفلان بزفافهما بين الآلهة، مزاوجة بين الخمر والنبات، من أحد أجمل وأروع الصور الممتلئة بالحياة في هذه اللوحة، ويوجد إله حب صغير يحمل بيده شعلة متقدة ترمز إلى الرغبة، وهو يوفق بين العروسين، ويزيد المحبة بينهما.
في أسفل اللوحة إله القوة هرقل، مغطياً جزءا من جسمه بفرو سبع، ولكثرة شربه للخمر يبدو أنه فاقد لتوازنه فيطلب من الصياد آمور أن يمسك بيده ليساعده على النهوض.
على يمين آريادنه رجل عجوز يدعى مارون، عاقد قران الزوجين، ويبدو مشيراً بإصبعه إلى الكأس الذي بيدها، وكأنما إيحاء منه على وجوب تركها للشراب. وفي الزوايا الأربع للوحة يبدو هناك رمز للفصول الأربعة، ومراحل تطور الإنسان.
اللوحة الثالثة هي لوحة الفسيفساء أروفيوس والحيوانات، تمثّل العازف والموسيقار أورفي، الذي يجلس على صخرة في منتصف اللوحة ناظراً إلى البعيد، مرتدياً القبعة الفريجية والتي ترمز إلى الحرية عند الرومان، يعزف على القيثارة ذات الستة عشر وتراً، وتتجمّع حوله حيوانات الغابة، وفي أعلى اللوحة من الزاوية اليمينية حيوان أسطوري يمثّل الأسد النسر، ويزين الإطار الخارجي للوحة عشرون وجهاً إنسانياً يرتدون الأقنعة المسرحية، وأسطورة اللوحة تقول: إن زوجة أورفي توفيت على إثر لدغة أفعى أنزلتها إلى عالم الجحيم والأموات، ولشدة حبه لها، طلب من الآلهة أن تعيدها له، فوافقت الآلهة مقابل ألا ينظر إليها وهو يمشي في وادي الجحيم، فوافق أورفي على ذلك، ومشيا في الوادي وزوجته خلفه، عندما وصلا إلى مشارف عالم الحياة، لم يعد يسمع خطوات زوجته، فالتفت خلفه، فأدركته الآلهة لنكثه عهده، وغضبت منه، بأن أعادوا زوجته على عالم الجحيم، وأرسلوا جميع الحيوانات للقضاء عليه، فتاه في الغابة وهو يحمل خسارتين، زوجته وأمانه. جلس على صخرة وبدأ بالعزف لحناً حزيناً، فأصغت الحيوانات له ونسيت ما أتت لأجله وحزنت لحزنه.
اللوحة الرابعة وهي لوحة الفسيفساء أفروديت وآريس، لوحة أفروديت ربة الحب والجمال، وهي الآلهة الإغريقية، وغرامها مع إله الحرب آريس، وتبدو الإلهة أفروديت شبه عارية تحيط برأسها هالة الألوهية الرمز الوثني للتأله، وتقف خلفها حارسة تحمل إكليلاً وتستعد لتتويجها، وأمامها ملاك الحب كيوبيد، يحمل أسلحة إله الحرب آريس كالترس والسيف، ويقف إلى اليسار إله الحرب آريس عارياً، يضع رداءه على يده اليسرى ويحمل الرمح، وحول رأسه هالة الألوهية أيضاً، وإلى جانبه امرأة ترتدي عباءة، ترمز إلى الحشمة والعفة، وفي أعلى اللوحة تجلس سكوبي متكئة على صخرة تنظر بإعجاب إلى أفروديت، وفي الوسط من الأعلى ملاكي حب يرقصان.
– التاريخ في قلب عمل فني ضخم، صغيرتي لولا الفن ما عرفنا ما جال بعقل الإنسان، هل تظنين أن الفن يستطيع إيقاف الحروب؟
– لا أعلم، وما هو رأيك؟
– لا أعتقد أن الفن يستطيع إيقاف الحروب، لكنه صفة توثيقية تأريخية، لما حدث، ولما سيؤول إليه حالنا كبشر، لو أن الفن يوقف الحروب، لكنّا الآن في سلام، بعد هذه الحضارات الفنية العريقة، لكن الفن والعنف بداخلنا مكيالان لا حياد عنهما، وهما من صفات التأله، فالفن صغيرتي هو عملية خلق وهو أحد صفات الربوبية، منتهياً بالخلود كما هذه الحضارات.
والعنف أيضاً صفة من صفات التأله والربوبية، بقبض روح الآخر، دونما الشعور بالموت، فهو أحد صفات الخلود من خلال قبض الأرواح، والتي هي بالنسبة إلى الإنسان فانية.
لكن الفن يمكنه إيقاف العنف، في حال أصبح درساً لنا، وتربينا عليه. مع ذلك سنبقى معيارين متناقضين، طالما جزء من حياتنا يعبث به الموت بشراهة، وجزء منه يقتات على الحياة بشراهة.
عندما يصبح كل العالم فنانين، وشعراء، وأدباء، وخلّاقين، سيتلاشى الموت بجانب الخلق، صغيرتي. هي الحياة ما نحبه لأطفالنا كي يحافظوا على خلودنا.
رحلة الأسطورة رحلة عشتار
“الإنسان أشكل عليه الإنسان“ (التوحيدي)
“وحدي من كان يدخل ويخرج من المكان المكتظ بالناس، علماً بأن الباب مفتوح، أستلقي على الأرض الوسخة والملوثة بالطين والقاذورات، بيْد أن ملابسي ولا مرة اتسخت، أخرج من المكان بينما الجميع يبقى على جلسته الجنينية، وعندما أخرج أستلقي تحت شجرة وسط الظلام، لكني كنت أبصر أدقّ التفاصيل المحيطة بالمكان من نباتات وحشية وتربة عافها البشر بحالها. مدينة وسط مدينة لم يكن يعلم عنها أحد سواي”.
هذا كان أحد المنامات التي راودتني في دمشق 2011 في بداية المأساة التي رافقتي وسوريا تباعاً، قبل عودتي إلى السويداء في أواخر 2012، فلم تنفصل روحي عن المكان الذي ولا مرة تعاملت معه على أنه منطقة لديها حدود أو زمن. لا تعنيني الحدود المرسومة بها سوريا، ولا دمشق، ولا حتى السويداء، ولا مسقط رأسي المجيمر، التي حملتني بكل أحلامي بأدق تفاصيلها المليئة بالأعشاب والحشرات والحيوانات، والنمل صديقي الصغير، هذا المنام الذي تخطى الزمن وسبقني ليريني مستقبلي متحققاً كنبوءة غريبة، عندما أعطوني ورقة مكتوبا عليها، تنقل الموظفة المدنية للخدمة الطبية في السجن المدني في السويداء في 2014.
لم تكن المرة الأولى التي أواجه بها الخوف، كانت بمثابة رحلة لعشتار بين الأرض وباطنها، أدخل ضمن سور عملاق من الإسمنت، والأسلاك الشائكة، أمام الدبابة الموجودة على مدخل البوابة الحديدية العملاقة شبيهة ببوابات القلاع الكرتونية المصفدة بألف جنزير ومدفع، لم يكن خيالا، هذا حقيقة، وقفت أمام البوابة عندما نظر إليّ والدي الذي رافقني إلى المدخل قائلاً لي لا تخافي، ليست أول تجربة لك مع الخوف، عليك أن تختبري نفسك.
دخلت من باب صغير على يمين البوابة، ثمة ثلاث نساء يتبادلن الأحاديث والنكات فيما بينهن، بينما تفتش إحداهن حقيبتي اليدوية وتأخذ منها كل المواد الممنوعة من الإدخال، ابتداء من ملقط الحواجب والمرآة، انتهاء بالأدوية الشخصية، كان هذا عاديا مقابل أن تضع يدها على جسدي وتفتش مناطقي الحميمة، هنا ينهار الإنسان المهذب بداخلي، وأبدأ بالتعرّف على بوادر شخص غريب، شخص ينسجه المكان الذي يجتاز البوابة فيصير بمنظومة غير موجودة على وجه الأرض، كنت فعلاً أغادر الأحياء إلى جوف الأرض، حيث الناس أموات تتحدث وتأكل وتشرب، لكن بأمر إلهي من إنسان يعيش فوق الأرض.
ساحة إسمنتية كبيرة تلتقي مع الجدران العملاقة، كان مسموحاً لي بإدخال المريول الطبي الأبيض، وارتدائه فوق ملابسي، عندما أعبر وأنا مرتدية إياه ضمن هذه المساحة الشاسعة، كنت أغلق عيني والهواء يصطدم بي ويدغدغ الريش على جسدي، أتحوّل إلى نصف طائر من جهتي اليمنى شاعرة بهذا الجناح الرائع الذي يغطيني، والذي لا يشعر بالأرض محلقاً فوق الإسمنت والجدران وفوق المنطقة الصحراوية التي يقبع بها السجن في هذه الأرض المعفية من البشر ما عدا الطريق الإسمنتي الطويل الواصل إلى باب السجن، والممتلئ بالثرثرة البطولية لأسياد هذا المكان. أقول معفية من البشر، لأن المكان لا يقطنه بشر، ابتداء من دخولي أتحوّل مثلهم وأصير بأرض أسطورة ربما. أو مدينة أخرى، لكنها لا تشبه المدينة الفاضلة التي تحدّث عنها أفلاطون، إنها مدينة تعي ما تفعله ولشدة وضوح زيفها تظنّها حقيقة. والمجرمون بها كل المجرمين، وحدي كنت المذنبة بإثم هذا المكان.
لم تكن تعبأ نبتة صغيرة لكل هذا الهراء الإسمنتي، ولا الجنازير، ولا الأسلحة المنتشرة فوق الجدران، بأيدي لابسي القماش الأخضر العسكري، اللون المزيف كأشجار معلقة بين الأرض والسماء، لكنها فقدت أصواتها وأرواحها وباتت عيونا تستبصر مِن داخل إطار. عيون مستعدة للصراخ من فوهة الرشاشات إن سمعت حركة، وإن كانت مجرد حركة نملة قالوا عنها متمردة.
النبات هنا لا يصغي للنظام، النبات هنا يدوس على رأس الزفت ويخرج من بين أصابعه المتفتقة من شدة صرامته، هذه النبتة اسمها في منطقتي الغزال، نبتة هشة رقيقة تنشر بذورها من خلال مظلات ريشية بيضاء، تتكوّر على شكل كرة كبيرة، منتظرة الرياح لترسل أطفالها البذور في رحلة هانئة دافئة.
لم تكن رحلة إلى باطن الأرض وإلى عالم مغاير، بل كانت رحلة في سبر أعماقي، لأول مرة أعرف من أنا، وأن المثاليات والإنسانيات عليها أن تختبر، كي تعترف أمام نفسك أنك إنسان متناقض، حسب الفيلسوف موران، في هذا المكان بدأت أتعرف على الإنسان كما هو حقيقة، لا كما عليّ أن أعرفه. فالإنسان رحلة العوالم على الأرض، يتغير بتغير النبات والطيور والحيوانات والأصوات والجدران، والمدن هذه النقطة الفاصلة بين كوننا بشرا نمشي بارتفاع مستقيم عن الأرض، وبين كوننا بشرا ننحني لنرى النبتة من أقرب نقطة عن نظرها الأعمى. وبصيرتها المنفتحة في رحلتها باتجاه السماء القريبة منها أقرب من قربها منا، هدفها أن تصير خضراء بروح سماوية.
عندما اجتزت البرزخ الإسمنتي الطويل بين مدخل البوابة والمدخل الرئيسي للسجن، كنت أنزل بمنحدر، تشحّ به النباتات المتلصصة على الحياة من الشقوق، ويصبح أكثر صرامة، عندما التقيت قطة بالمكان، لا أظن المكان وحشيا طالما به قطة، يرافقني حرس، يبتعد عني أمتارا للخلف، أمام الكاميرات التي تغطي سماء المكان، بطرف عيني نظرت إليها وخفت أن تنقض عليّ، عرفت بأني نصف طائر أبيض، تملكني الشعور برهبة غريبة، كنت فعلاً أطير، وكلّما توغلنا إلى الداخل زاد الانحدار، وزادت الدرجات حتى ندخل في جوف العتمة.
ذات مرة وجدت تمثالاً في متحف اللوفر على الهاتف النقّال لزوجة خالي، الذي زار المكان وأرسل كل الصور الممكنة للأسرة، قالت لي: هذه عشتار. تقربت بنظري من تفاصيل جسدها، ملامح هذا الجسد تشبه الجسد الذي أقضي رحلتي به على الأرض، ومن يدري لطالما شعرت بأني فعلاً عشتار، ضحكت عندما عرفت شبيهتي. ولاسيما بأني خضت رحلتها.
هل انتهت الأسطورة؟
تدخّل العلم في سبر حياتنا اليومية، وفي تبرير كل الخيبات التي نعيشها، ابتداء من الإدرينالين الذي يحفز الخوف، انتهاء بالسيروتونين الذي يحفز السعادة، العلم يدخل ويقول لنا، النشوة هي ارتفاع معدل الهرمونات بالجسم، ليس ثمة أسطورة، لكن لماذا؟ ما الفائدة إن كانت رحلتي القصيرة على هذه الأرض يحكمها العلم، أين تقبع الجنيات الصغيرات اللواتي كنّ يرافقن طفولتي، أنا متأكدة أني رأيت الطائر الأسطوري، تحوّل إلى فراشة صغيرة كانت تنظر إليّ من خلال شبك النافذة التي حجزتها عني، واستمرت بالصعود إلى أعلى، عندما ركضت صاعدة الدرج باتجاه السطح، كانت قد اختفت، أنا على يقين من أنها حقيقة.
وعندما تحول جسدي إلى طائر ونصفي بقي بشراً، لم يكن العلم من حوّلني، ولا علم النفس ولا محاولتي الهروب من الواقع، ولا الطيران فوق الجدران التي صنعتها الهندسة البشرية، بل وكأنما الأسطورة من منحتني هذه المساحة من الفضاء.
كان خيالي يقظاً يلتقط أقرب غيمة حرة، ويصعد ليتنفس منها، لم أكن أعرف عن عشتار شيئاً قبل أن أدخل في جوف زمان يضيع في قلب الوقت، ذاك المكان الذي ابتلع الأحياء مراراً، تقول الأسطورة التي عاشت في هذه المنطقة، والتي لا يتناقلها الناس، فللأسطورة قدمان، وأصوات كل ما عليك أن تصغي لمساحة الحجر البركاني والخفّاف الصاعد من جوف الأرض في غضب حقبة ما في هذه المنطقة، كل ما عليك هو أن تصغي للريح، هي تحمل قصص المكان خاصة قصص التقمص، المكان محمل بالدم، والمناطق المحملة بالدم لا تهدأ دائما تثير غبار ذكراها، لمن يستطيع أن يصغي. فاصغ.
عودة عشتار
الريح تحمل جرأة اللغة، تتكلم ما إن تجد روحاً مصغية، عند عودتي لأول مرة ارتعش قلبي أمام الآثار، سمعت ترنيمة، كانت صوتاً ينحت الحجر فيصقل روحي، لتحفر بيدي على الورق ما سمعته.
(كاناثا) اغسلي قدميك بالنورِ وتعالي، أَريحي جديلتَك على وسادة النَّول، ضمّي شفتيك على العنب ليتخمر ريثما أنتهي من الحصادْ، لا تقبّلي القمرَ، إن مرّ على خدكِ ناعساً، ولا تنسي العشب الطريَّ للماعز، كيلا ينسى الحليبْ. يا عاريةَ الأغصان ثمَّةَ من يجيدُ التلصُّص على الحلمات النافرة رغبتك الأولى تسيل ماءك قرباناً يشتهيه إله الحبّ. لطالما كنت منّي طريةً فوق الرخام.
فنامي هنيئاً وما إن ينام إله الحرب أوقظك لا تنسي نفسك أمام المرآة عاريةْ فتتعثر خطاك من جمالك، أخشى عليك من يدك أن تكتشف تضاريسكَ اللاهبة.
لن أدع بابك يدقّ لغريب الحلم فنامي كاناثا، قد تستيقظينَ يوماً خمراً فأبوح لك بما فعلته القرابين ثمّة غدٌ يتسلّل من مرآتكِ لا تضيعيهِ وجهك المقدس.
كاناثا اسم روماني وتعني القنوات وهي الاسم الحالي الذي يطلق على القرية، أشهر ما كان يمتاز به الرومانيون الأنظمة المائية المتطورة فلم تكن تعتمد على مياه المطر المتجمعة على السطوح بل كانوا يجرون الماء من السواقي والأنهار. كاناثا قرية من جوف مدينة، تنبض بقلب عدة حضارات في جسد واحد، امتازت بكثرة قنواتها المائية تاركة آثارها شاهد عيان، مدينة عظيمة سكنها الإنسان منذ العصر ما قبل الحديدي، لم نعرف عنها لولا لسان حال المكان، فثمة سكاكين وأدوات مصقولة من الحجر البازلتي تشير إلى أن المكان إرث إنساني، ومخزون وعي بشري على مسيرة زمن كرر زمنه ومكانه، وغيّر الوجوه واللغات واللكنات.
تحتوي كاناثا على معبد هليوس – إلهة الشمس، معبد زيوس، معبد إلهة الحكمة – آثينا، معبد اللمثيميوم – إلهة المياه، المسرح الروماني، الأوديون، الكنائس البازليك، الحمامات الرومانية، المباني الرسمية، خزانات المياه، أقنية المياه، البوابات، السور، المدافن، الأبراج، ما زالت علامات صامدة لوجود انقضى.
كاناثا هي إحدى مدن ديكا بوليس العشر، وهي اتحاد المدن الهلنستية الواقعة شرق نهر الأردن، وذلك في القرن الأول قبل الميلاد، أطلق عليها اسم توبولس تقع شمال شرق مدينة السويداء على بعد حوالي 7 كيلومترات عنها وهي تمتد على سفوح حرشية من البلوط والبطم والسنديان. ثم انتقلت إلى السيطرة البيزنطية في القرن الرابع الميلادي وحتى القرن السابع وبعد ذلك أضحت مركزا أسقفيا هاماً ومركزاً من مراكز الحج المسيحي.
المدينة مقسومة إلى قسمين القسم العلوي من المدينة والذي يسمى المدينة العليا مجمع للمعابد لممارسة الطقوس المقدسة، والتي ما زالت رهبة المكان تحتفظ بهيبة هذه الطقوس. معابد مكونة من ثلاث مساطب محفورة في الأرض الصخرية عند أحد السفوح مع أبنية دينية تمتاز عن بعضها البعض في المسقط الأفقي والشاقولي.
أما في الجنوب فينتصب معبد زيوس الذي أقيم في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد إذ أنه بعد تهديم الهيكل المركزي أقيم بناء جديد على منصة المعبد القديم في القرن الثالث الميلادي مازالت آثاره سليمة حتى اليوم.
القسم الثاني للمدينة ويضم الوادي والمسرح ومعبد إلهة المياه وشبكة من أقنية المياه تحت الأرض بنظام متطور ومباني أديرة بنيت في القرن الأول قبل الميلاد، ثمّة حمامات مكونة من أبنية متعددة مشيدة على الطراز الروماني، شبيهة بحمامات شهبا إلّا أنها أصغر.
يقال إن السيد المسيح قام بزيارة مدن الديكابوليس ومرّ بكاناثا ومرّ بقرية أشفى بها كسيحا، تدعي سكوفيا تسمية آرامية – نبطية تعني الكسحاء (جمع كسيح(.
كاناثا تحمل آثاراً رومانية وبيزنطية، هذه الآثار شاهدة على حقب عدة مرت في السويداء، هناك بقايا عناقيد العنب تمتد كأفاعي حول بوابة المدخل للمعبد مسيجة بجدار حجري أزرق مصقول بمهارة، يقال إن الحجارة الآن بدّلت، ليس الآن فحسب، ستجد فوق عناقيد العنب، في أعلى المدخل، صليب، نحت على نحت، فالصليب منحوت على جزء من عنقود العنب، من الحضارة الوثنية والعبادات المقدسة، إلى الحضارة الرومانية والتيجان العريقة التي نجد شبيهاً لها في إيطاليا، إلى الحضارة البيزنطية، إلى اللاشيء، سيبدو هذا جلياً عندما تعرف أن حضارة أفنت حضارة، والحاضر أفنى كل الحضارات، كي تسود فكرة الفرد الواحد، المهيمن.
ولا يبقى من هذا سوى أحجار منتصبة، بوابات تيجان، نحوت، رأس أسد، أرنب، أحجار ما زالت حاضرة لم تسرق، علماً بأن المنطقة كاملة تم نهبها من لصوص الآثار كما تقول الأقاويل.
داخل البوابة يوجد مذبح لطالما ظننت أنه لعشتار، على اليمين من البوابة إلى الأمام، قنطرة حجرية منتصبة تحمل نصف قبة يستند على جدار، بحرفة فنية عالية كل هذا البناء بالحجر الأزرق البركاني.
كانت تلهو مع العنب حين أغواها النحات، دخل حلمها، كسر الإزميل ولم يعد، ومن يومها ما زالت روح أسطورة تسكن المكان ولم تنته بعد، فالأضاحي كانت تقدّم للمعبد كقرابين، والصبيان كانوا يخصون لتقدم الخصى للربة عشتار كما تقول الأقاويل المتضاربة. حالياً تجد آثار الدخان وقد حرق الجدار من منتصفه، هي آثار الشموع تشعلها الناس التي تحضر للمكان لاعتقادهم أن نبياً قابعاً في المكان، وفعلاً خلف هذه القبة يقبع بيت حجري قديم يقال إنه للنبي أيوب أمامه شجرة توت، وطبق كبير من الحجر مصقول، له يدان على جانبيه لحمله، يبلغ قطر الطبق الحجري ما يقارب المتر والستين سنتيمترا، يقال إنه كان يستخدم في التطهّر بعد ملئه بالماء.
حدث مرة أن زرت المكان مع صديقة مغنية، أتت لتتعرف على ملامح الحياة، عندما أخبرتها أن الربة عشتار كانت في حياض هذا المكان، بدأت ترقص بحركات طقوسية ممتلئة بهجة وفرح، الطقوس تتلبّس زائر المكان، فيخرج من زمنه ليسقط في زمن جميل، لا يستحضر العذابات والآلام، بل يستنطق لغة الفكر الإنساني الغارق في التأمل والبحث، رغم زخر المكان بالحروب وبالأضاحي، وبالموت، إلّا أن العقل يرفض أمام الجمال إلّا رؤيته كطقس ابداعي، والرقص لغة تمسك بخيوط الآلهة لتحرر الجسد من كونه عبد للجاذبية التي سقط في فيزيائها، والحجارة هنا ترقص بصوت الريح عليها رسوم ونقوش رومانية عدة، وثمة قبور على يسار البيت إلى الأمام تم استكشافها، قبور حجرية تركت مفتوحة، يقال إنها قبور لملك روماني وأسرته. كما أن المكان يحوي قبوراً بيزنطية.
ما زال المكان حاضراً بأزمنته، إلّا أنه مهمل وعلى وشك الانهيار، وفي غالب الوقت مغلق لأعمال الصيانة التي لم تنجز بعد، وباعتبار أن المنطقة شهدت مرحلة بركانية في القديم، يبدو أن ثمة حمما شكلت بمسيرها فوق مخزون مائي اندفاعاً في القشرة الأرضية، وبعد آلاف السنين شهدت القشرة انخفاضاً فيها أدت إلى انهيار وتشكيل فجوة عميقة. وهذا قد يهدد المنطقة التي تعتبر حاضرة ثرية بحقبة زمنية زاهرة مرت على هذه المنطقة.
المكان يحوي الكثير من الروح الحاملة لأشجار العنب والخمر، والتفاح، والتي لا زالت القرية تشتهر بزراعتها إلى الآن، مكان ثري، وخصب، إن بالحكايات التراثية أو بالأساطير، أو بالبيوت الحجرية التي معظمها نقلت من الآثار الرومانية وتم بناء بيوت قديمة بها، ونجد الثراء هنا في النبات، فالنبات عزيز اللون، يحمل رطوبة الجو، ويحمل نكهة ثرية ونادرة، وإن تشابهت المنطقة بإنتاج ثمار مشتركة، لكن تمتاز كل قرية بنكهة خاصة للثمرة، وبصلابة معينة، وبحجم متفرد، فنجد العنب البلدي والحلواني، والعنب الأسود في هذه المنطقة ذو حبة كبيرة ريّا بالماء، تبقى على عرائشها حتى أواخر الخريف وأوائل الشتاء، وذلك لأن المنطقة مرتفعة وتمتاز بانخفاض درجة حرارتها. والناس هنا، فيهم طيبة وكرم، لهم عادات القرية وتطبع المدينة. لكأن الناس في القرى تحمل دماثة التربة الداكنة، ورقّة العريش، وصلابة الصخور، وقد تجد نساء هذه المنطقة يمتزن بالضخامة وبالطول كربّات.