رحلة في أرض القبائل
مرحبا بكم في مدينة الزنادقة
بين الأسطورة والجغرافيا الوعرة تنام مدينة تيزي وزو مشغولة بهديرها اليومي الذاهب في مديح الخسارات، بربرية الهوية، أمازيغية اللسان، عربية التمظهر، ولها في الحضارة الأوروبية جذور مشتركة. تحدث عنها إميل مارسيل وجاك مارتان ومستشرقون آخرون.
يسلمني فيها هذا الصباح الرمضاني الثقيل إلى الشوارع الخجولة، سمرة الوجوه المكوية تحت شمس جويلية الحارقة، عيون زرق وخضر وعسلية، شعور سوداء وشقراء، نساء ملتحفات بالسواد وأخريات في كامل الأناقة الأمازيغية الهادئة والبسيطة خليط يعكس ثراء وتناقضات عاصمة جرجرة، عربات النقل الصغيرة مشغولة بالصعود والهبوط من وإلى القرى البعيدة والناس مشغولون بيومياتهم.. إيقاع ثقيل يعبر أسواقها ومحلاتها وحتى الساحة التي تحولت مؤخرا إلى واجهة للعراك العقائدي تبدو غير مبالية بخطواتي.. ولولا محلات الفضة الفاخرة والجبة المزركشة مثل وشم بربري على ساعد فلاحة لما عرفت أنني في تيزي وزو.
قد لا تختلف تيزي وزو عن أي مدينة جزائرية أخرى من ناحية الهندسة والعمران، ففوضى التشييد صارت سمة لصيقة بها، حيث ترتفع العمارات وتتكاثر المحلات التجارية بشكل فوضوي غير مدروس، خاصة في المدينة الجديدة التي صارت قطبا تجاريا واقتصاديا يرسم بوضوح الطريقة المتوحشة التي تزحف بها الثقافة الاستهلاكية على هذا البلد، بينما تتناثر فيلات المغتربين في قمم الجبال المحيطة بالمدينة من كل الجوانب ومعها تندثر تدريجيا البيوت الأمازيغية ذات الهندسة البديعة.
ولكن تيزي وزو لم تطو تمردها فقد ظلت على مر تاريخها تلك المدينة المشاغبة التي تشكل صداعا مزمنا في رأس السلطات المتعاقبة، وبقيت تلك المدينة التي تقول «لا» بصوت مرتفع عندما تقتنع هي بذلك.
قصة مدينة جرجرة مع الرفض ليست وليدة اليوم لكنها تعود إلى عصور غابرة، ولعل أقربها زمن الاستعمار الفرنسي، حيث بقيت منطقة القبائل الكبرى الحصن الحصين الذي لم تتمكن فرنسا من «تركيعها» إلى غاية منتصف القرن 19، حيث كانت منطقة القبائل آخر مكان وطأته أقدام المستعمر في شمال الجزائر1871 ويكفيها فخرا أن من قادة المقاومة كانت شابة لم تكمل سنواتها الثلاثين “فاطمة نسومر” التي أجبرت جنرالات فرنسا على جر أذيال الخيبة، حتى أشرف المارشال روندون بنفسه على قيادة الحملة التي أحرقت قرى ومداشر القبائل. وحتى قبل هذا التاريخ ظلت هي المنطقة التي لم يتمكن الأتراك من فرض السيطرة عليها، حيث كانت الحامية الانكشارية التي أقامها الأتراك عام 1542 مجرد مركز مراقبة ولم يتمكنوا من ممارسة السلطة بشكلها الفعلي على “مملكة كوكو”.
التمرد حالة تفردت بها مدينة تيزي وزو إلى ما بعد الاستقلال، حيث دخل بعض رموزها عهد السرية عندما طالبوا صبيحة استقلال الجزائر 1963 بالانفتاح والديمقراطية وعارضوا الاتجاه الذي اختاره بن بلة وبومدين للجزائر. وكان لهذا الموقف ثمن في سياسة بومدين الذي حكم بالنفي على كل ما له علاقة باللغة والثقافة الأمازيغية التي بقيت رغم ذلك تناضل “ثقافيا” في الجامعات والتظاهرات الثقافية. وتكررت مطالب تيزي وزو في أحداث الربيع الأمازيغي في 1980 التي مهدت لأكتوبر 1988، والذي دشن عهدا جديدا للانفتاح السياسي والإعلامي في البلاد على الأقل نظريا ظلت تيزي وزو على الدوام تدفع فاتورة الحسابات السياسية للجزائر قاطبة، حيث انفجرت في 1995 في ما سمي بإضراب المحافظ، وتعطلت المدارس بها سنة كاملة مقابل ترسيم الأمازيغية وتدريسها في المدارس وميلاد “المحافظة السامية للأمازيغية“، التي رفعت لواء النضال علميا لتحقيق مكاسب جديدة للغة والثقافة الأمازيغية.
ومرة أخرى استيقظت المدينة المشاغبة في ربيع 2001 ومرة أخرى سقط أزيد من 130 قتيلا في ما عرف لاحقا بأحداث الربيع الأسود، وآخر انتفاضة للمنطقة كانت في أبريل 2014 حيث انتفضت تيزي وزو ضد العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة وقوبلت تلك الانتفاضة بالرصاص، ما خلف عدة جرحى وموقوفين.
مازالت تيزي وزو إلى اليوم عقدة المسؤولين المتعاقبين، حيث يحسب أيّ مسؤول ألف حساب لزيارته للولاية، حيث تسجل الزيارة في خانة الإنجازات إذا مرت دون رشق بالحجارة والطماطم.. وهذا ما يراه البعض سببا في تباطؤ معدلات التنمية بالولاية وارتفاع نسب البطالة بها، التي يضاف إليها سوء الأوضاع الأمنية، إذ ما تزال جبال وأحراش تيزي وزو إلى اليوم مكانا تعشش فيه بقايا الجماعات المسلحة، التي تخرج هي الأخرى لتغير على المنطقة غداة كل موعد سياسي مهم لا يمكن حسمه دون حسابات تمر من تيزي وزو، ما رسخ في أذهان الناس هنا أن التهميش الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة هو ضريبة سياسية تدفعها المنطقة التي تتذيل دائما قائمة المشاركات في الانتخابات وتتصدر معدلات النجاح في شهادة البكالوريا.
تيزي وزو هي الولاية الوحيدة تقريبا في الجزائر التي لا توجد بها مشاريع سكنية تتباهى بها نشرات الأخبار وتصنفها في خانة الإنجازات الوطنية، وقلما يزورها وزير لتدشين مشروع بل تدين لها السلطة في هذا الجانب، حيث تعد المنطقة الوحيدة التي يعتمد أبناؤها على إمكانياتهم وسواعدهم في بناء سكناتهم، كما يعتمدون على أنفسهم في تشييد مساجدهم المتناثرة في ربوع ومناطق الولاية التي تتصدر للمفارقة أيضا أكبر عدد من المساجد في الجزائر، لكنها تقدم دائما على أساس أنها مدينة “زنديقة”، وعكس ما يعتقده البعض أن سكان تيزي وزو مواطنون فوق العادة يقدم أبناؤها شهادات تعكس المستوى المعيشي المتدني، خاصة لحاملي الشهادات الجامعية الذين يصير كل حلمهم الحصول على منصب عمل حتى لوكان مؤقتا، ولا يتحقق هذا إلا بـ”معارف” ووساطات، فيما الأغلبية الساحقة تعيش على معاشات الآباء والأجداد المهاجرين، حيث ارتبطت الهجرة في المنطقة بأسباب تاريخية وسوسيولوجية معقدة قد يطول شرحها.
الإحباط واليأس والحسرة.. هو الذي رشح معدلات الانتحار لتكون الأعلى في الولاية، وحتى هذه عادة ما يتم استغلالها دينيا بتقديم أبناء المنطقة كمرتدين وكفرة وخارجين عن الملة.
تحالف التهميش والإقصاء والبيروقراطية مع الوضع الأمني المتردي الذي بقي في تيزي وز وقائما إلى اليوم جعل أهلها يفرون إلى المناطق الأخرى بحثا عن الأمن. ورغم أن السواد الأعظم منهم لا يهتمون إلا بتوفير فرصة للحياة الكريمة والعيش المريح، لكن تبقى تهمة التسييس تطارد جبين مدينة توصف اليوم بمدينة “قانون ونص”، حيث أخطبوط الفساد والبيروقراطية يدفع القائمين على تطبيق القانون هناك إلى الإبداع في إضافة اجتهادات لم يأت بها القانون نفسه، وحسب شهادات بعض المقاولين وصغار ملاك المؤسسات فإن التسهيلات البسيطة والمعاملات العادية في الولايات الأخرى تصير من المستحيلات في تيزي وزو، وكعينة على ما يعاني السكان هنا من تغوّل الإدارة أن مصالحها لا تعترف بوصل فواتي الماء والكهرباء كدليل لإصدار شهادات الإقامة في بعض بلديات الولاية، وفي بعض البلديات الأخرى أيضا لا يحق للآباء اختيار أسماء أبنائهم، حيث كانت الإدارة ترفض بعض الأسماء الأمازيغية، ما اضطر المحافظة السامية للأمازيغية إلى تقديم لائحة أسماء إلى وزارة الداخلية تطالبها باعتمادها.
تعتبر تيزي وزو الولاية الوحيدة التي لا تعتمد على برامج الدولة في السكن بل يعتمد أبناؤها على إمكانياتهم الذاتية وسواعدهم لبناء مساكنهم، كما يشيدون مساجدهم في القرى والبلدات المتناثرة في ربوع جرجرة دون اعتماد على السلطة أيضا.
تعرف تيزي وز بعقدة الرؤساء والمسؤولين، فسكان المنطقة لديهم حساسية تجاه كل ما له علاقة بالسلطة ويقفون دائما على مسافة شك معها، وكانت تيزي وزو الولاية الوحيدة التي لم تصفق لبوتفليقة منذ عهدته الأولى، حيث زار الرئيس الجزائر شرقا وغربا وجال في مختلف الولايات ربما عشرات المرات، ولم يدخل تيزي وزو إلا 5 مرات خلال عشر سنوات من الحكم، كانت 4 منها خلال حملاته الانتخابية المختلفة التي لم تخل من منغصات، وكانت في كل مرة ترافقها ترسانة من الحراسة والاحتياطات.. فقد تعرض موكب الرئيس في عام 1999 إلى رشق بالحجارة، كما تخلل تجمع بوتفليقة خلال ترويجه لقانون الوئام المدني تراشق لفظي مع شبان المنطقة بخصوص ترسيم الأمازيغية استدعت تدخل حرس الرئيس لإسكات الشبان المتمردين، وقد حالت أحداث 2001 دون زيارة الرئيس مرة أخرى إلى الولاية، وكان على بوتفليقة انتظار عام 2005 ليقوم بزيارة عمل للولاية، وقد جندت لتلك الزيارة ترسانة من التحضيرات والمسؤولين المحليين الذين اختارهم رجال الرئيس بعناية، ورغم ذلك لم تكن الزيارة كما يريدها بوتفليقة، حيث اضطر الرئيس إلى القفز على عدة محطات ونقاط من زيارته مثل الجامعة واختصر كلمته في ملعب أول نوفمبر بوسط المدينة بعدما واجهته عاصفة التصفير ومزقت صوره على مرأى منه وبات اليوم أغلب سكان المنطقة مقتنعين أن التهميش الذي تعانيه ولايتهم هو عقاب من قبل السلطة المركزية على “التغنانت” التي تبديها المنطقة سياسيا، رغم أن السلطة تدين لهذه المنطقة في تسيير أمورها ذاتيا في الكثير من المجالات، مثل السكن الذي يبقى الملف الذي يشعل الاحتجاجات في الجزائر، لكن تعتبر تيزي وزو الولاية الوحيدة التي لا تعتمد على برامج الدولة في السكن بل يعتمد أبناؤها على إمكانياتهم الذاتية وسواعدهم لبناء مساكنهم، كما يشيدون مساجدهم في القرى والبلدات المتناثرة في ربوع جرجرة دون اعتماد على السلطة أيضا.
أعادت حادثة الإفطار الجماعي في وسط المدينة جدل الدين والثقافة والهوية الذي طالما رافق المدينة والمنطقة، ويعتبر سكان المدينة هذا الجدل جزءا من محاولة استغلال المنطقة سياسيا، فبينما كانت مشاورات تعديل الدستور قائمة بمباركة قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ مدني مزراڤ كشخصية وطنية، كان الناس مشغولين بعلي بلحاج وزيراوي الذي ذهب للرد على “منتهكي حرمة رمضان في شوارع المدينة”، فيما اعتبر من طرف البعض استفزازا لكرامة وكبرياء أهل تيزي وزو وكأنهم لا يعرفون الإسلام، بينما تؤكد الحقائق التاريخية أن للمنطقة تاريخا عريقا في الذود عن حياض الدين واللغة العربية. ولعل ارتباط الزاوية الرحمانية بالمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي خير دليل، فأغلب القيادات الثورية والسياسية البارزة التي لعبت أدوارا في التاريخ الحديث للجزائر خرجت من الزاوية الرحمانية، ليس أولهم فاطمة نسومر وليس آخرهم حسين آيت أحمد. وقد شكل الصوم في المنطقة على مر التاريخ حدثا اجتماعيا بارزا يرتبط ارتباطا وثيقا بالزاوية هو الآخر، و”ظاهرة اجتماعية” كان السكان يقاومون من خلالها الاستعمار ويعلنون عن تميزهم عنه، وما زالت نساء المنطقة يحتفين بالأطفال الذين يصومون لأول مرة بلباسهم اللباس التقليدي، ومنحهم خاتما من فضة يوضع في قعر كوب ماء يفطر عليه الطفل فوق سطح البيت كرمز للرفعة والسمو، ومازالت العروس تزف وفق تقاليد عائلية يحافظ عليها الأبناء أبا عن جد مهما كان المستوى المعيشي والثقافي، وفي بعض المناطق يفرض مهر موحد على الجميع إمعانا في التكافل وترسيخ مفهوم العائلة.. وهي مظاهر لا تخلو من استحضار الخلفية الدينية، كما في بعض المناسبات مثل المولد وعاشوراء وإمعانا في تقديس كل ما له علاقة بالدين فإن سكان المنطقة لا يسمون أبناءهم محمد بل محند، وهذا حتى إذا سب الأطفال بعضهم البعض – حسبهم – لا يدنس اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبقى أيضا اسم فاطمة أكثر الأسماء النسوية حضورا لدى القبائل. ولعل الشعر الأمازيغي القديم، خاصة الصوفي منه، يعطي صورة واضحة عن مكانة الدين كرمز في تسيير حياة الناس، حيث يعتبر المسجد أكثر من مكان للصلاة بل مؤسسة اجتماعية قائمة بذاتها لها أدوار كثيرة.
توصف تيزي وزو بمدينة المساجد، فلا تكاد تخلو بلدة أو دشرة من مسجد أو مصلى أو مدرسة قرآنية يشيدها عادة السكان بأنفسهم اعتمادا على مبدأ “التويزة”، وغالبا أيضا ما يكون أجر الإمام من تبرعات السكان، وبعض القرى تضمن أيضا حتى السكن للإمام، حيث تضم تيزي وزو لوحدها ما يفوق 500 مسجد وأكثر من 50 زاوية عاملة متصدرة المرتبة الأولى وطنيا من حيث عدد المساجد 15 ألف مسجد في الجزائر(حيث يتبرع السكان بأراضيهم لبناء المساجد)، مع العلم أن الأرض مقدسة عند سكان المنطقة ومن الصعب جدا إقناع القبائلي بالتنازل أو بيع أرضه لكنهم يتبرعون عن طيب خاطر لبناء المسجد. وقد كان للمنطقة تاريخ عريق في الدفاع عن العربية والإسلام في شكله المتسامح، حيث أنجبت العديد من الأسماء المعروفة في هذا المجال، أمثال مولود قاسم، الذي يعد أحد غلاة المدافعين عن التعريب في الجزائر وأحد القلائل الذين كانت لهم شجاعة مواجهة بومدين وجها لوجه، والبشير الإبراهيمي، والفضيل الورتيلاني، والشيح عبدالرحمن شيبان، وهم جميعا من أبرز وكبار إطارات جمعية العلماء المسلمين. ورغم الجهود الجبارة التي بذلها الآباء البيض في المنطقة، وعلى رأسهم الكاردينال لافجيري، لكن ظل التنصير حادثا عابرا، لكن الحسابات السياسية جعلته أصلا وليس فرعا. يقول السكان هنا تهكما أن الاهتمام بالسياسة “زائدة” يولد بها كل قبائلي، حيث يصير كل شيء ذات شأن سياسي حتى خلاف الرجل مع زوجته وحتى نقاش الشيوخ المتقاعدين يصير “بوليتيك”.. هذا التهكم يحمل شيئا من الحقيقة، فتيزي وزو لديها” أوفر دوز” من السياسة، هي مدينة التناقضات متسامحة حد الانفتاح ومتعصبة حد الانغلاق، ظلت بؤرة لتصفية الحسابات السياسية منذ فجر الاستقلال منها خرج معطوب الوناس وفرحات مهني وفارس القرآن ياسين أوعمران، ومنها خرج سعيد سعدي وآيت أحمد وأحمد أويحيى والكولونيل أعمر أوعمران. لهذا بقيت تيزي وزو على مر تاريخها صداعا مزمنا في رأس السلطات المتعاقبة وظلت المدينة التي لا تتعب من ممارسة السياسة.
////////////
رحلة إلى منزل حنيفة
إديت بياف القبائل
“ليس غناء هذا الذي اغني لكنني أروي ما مر علي“
مثل نوتة موسيقية أظلت سلمها، تقودني خطواتي بين الغفوة والنوم أبحث عن مصدر الصوت، أشم رائحته القادمة من مكان غير بعيد، إنه صوت أمي يدندن أغنية «أزَهْرِيو» تلك الأغنية الأثيرة لديها دائما. من صوتها كنت أحدس حالتها النفسية متى تكون حزينة ومتى تكون منتشية ومتى تكون يائسة، كنت أعتقد في تلك السن أن الأغنية خاصة بأمي فقط وهي إحدى وسائلها في مغالبة الملل الذي يخلفه والدي الغائب خلف الحدود في المصانع الباريسية، لكن سرعان ما كان صوت أمي ينتشر مثل العدوى فتلتقط نبرتها جدتي أو خالتي أو إحدى القريبات أو الرفيقات المنهمكات في تلك الأثناء في شيء ما النسيج العجين أو إعداد عولة العام من الكسكسي. فأعمال القبائليات ترافقها حتما جوقة الأصوات بحناجرهن ويصبح الغناء لازمة لا تستغني عنها نساء الامازيغ أبدا وهن يزاولن أعمالهن في البيت أو في الحقول وحدائق الزيتون أو جلب الماء من المنابع. لاحقا اكتشفت أن أمي كانت تستعير صوت وكلمات حنيفة أو إديت بياف القبائل كما لقبت حنيفة كانت صوت أمي وصوت نساء القبائل كلهن، تلك المرأة التي أعلنت التمرد ورفضت أن تلبس قدرا كان يفصل لمثيلاتها دون أخذ القياسات.
ربما لم تكن لأمي نفس شجاعة حنيفة لرفض قدرها لذا كانت تستعير صوت تلك القادمة من المذياع البسيط الذي يلازمها في أغلب الأوقات خاصة حين تركن إلى مذياعها فموعد بث “النوفا الخلاث” أو “موعد النساء” على القناة الإذاعية الثانية ظلت هذه الحصة على مر عقود خاصة بأصوات النساء ومنها تخرجت عشرات الأصوات التي حملت همّ النساء ومشاكلهن إلى العالم حنيفة أصيلة أزفون، مدينة الفن والفنانين. المدينة الساحرة التي تجمع بين سحر الغابات وامتداد البحر بمساحاته من الأوشام الزرقاء على ساعد فلاحة بربرية. حنيفة إحدى القامات التي أنجبتها أزفون التي أنجبت أيضا طاهر جاووت، بشير حاج علي ومحمد أرزقي فراد، عمر أزراج، محمد أسياخم، الإخوة حلمي، ورويشد، مصطفى بديع والشيخ محمد العنقا، الحاج مريزق، عبدالقادر شرشام، عبدالرحمان عزيز وغيرهم. المدينة الصغيرة التي لم ينصفها الاستقلال كثيرا وظلت فقط تستند على عراقتها من عهد الرومان تعود في كل مرة في عبقرية أبنائها الذين يولدون فنانين بالفطرة. كان يجب أن أعود يوما لأزفون بحثا عن السر في صوت حنيفة. ذلك الصوت الذي كان يجعل أمي غارقة في صلاة حزينة وصامتة.
الغربة التي سرقت مني أبي في سن مبكر كنت أخاف من أن تسرق مني أمي لهذا كنت أكره رائحة الغربة في أغاني حنيفة.. أمي كانت تكتفي بابتسامة خفيفة وأنا أخبرها بهذا، كانت بحدس الأمازيغية تدرك أنني سأتعايش لاحقا مع أصوات الغربة بداخلي حتى وإن لم أغادر حدود قريتي.
حنيفة واسمها الحقيقي “إغيل لاربعا زبيدة “، من مواليد قرية إغيل مهنى بأزفون جاءت إلى الدنيا في 04 أبريل 1924، فمدننا تشبهنا إلى حد كبير لهذا ربما استعارت حنيفة اسما مستعارا لعبور دربها مثلما استعارت أزفون من التاريخ أسماءها، من هذه المدينة استمدت حنيفة صوتها.. كان يجب أن يكون لهذه المرأة جنون ما لتستعير الاسم الآخر لأزفون “رأس الريح” وكان صوت حنيفة رياحا اقتلعت معها التقاليد البالية التي كانت تحرّم على النساء مدّ أصواتهن خارج أسوار بيوتهن. إذ لم تكتف حنيفة بمد صوتها خارج حدود بيتها وقريتها لكن هدّمت الأسوار واقتلعت الأوتاد.
غنت حنيفة الحرمان والغربة وحتى الجنس، منذ البداية تفرد حنيفة أوراقها أمامك وتعلن بصوتها “أنها لا تغني لكنها تروي ما عاشته وما مر عليها”.. بهذه العبارة تؤكد أن الغناء التزام وليس مجرد لهو أو ترفيه. ربما لهذا لم تهتم كثيرا حنيفة بإضفاء الرونق والتصنع على أغانيها، ذلك الرونق الذي ينشده عادة الفنانون في أغانيهم عوضته حنيفة بقوة العبارة وصدق المشاعر بحيث يمكن لأيّ امرأة في جبل بعيد أن تجد نفسها وقصتها ومعاناتها في أغاني حنيفة. عندما تستمع لأغانيها تلامس الزوايا الخلفية والمساحات غير المضاءة وتستشعر طعم المرارة.
من أين تأتي حنيفة بتلك النبرة؟ بل من أين تخرج تلك الحمم التي تدفق من أغانيها؟ سؤال قادني لاحقا للوقوف على حياة هذه الفنانة التي بقيت محصورة بين حدي التمرد والنفي لم يكن أمام الأم شيء تفعله وهي تدفع الباب خلف الشيخ الذي تنبأ بطريق أسود أمام الطفلة الواقفة أمامه، ربما لحظتها الأم جربت فقط أن تثق في الأقدار وتكمل سيرها لكن مسار الطفلة تعثر منذ البدء وإن كان لم يتوقف يوما أو بالأحرى أجبرته على عدم التوقف. سوء الحظ كان رفيق حنيفة منذ نعومة أظافرها حيث وجدت نفسها زوجة وربة بيت وهي لم تغادر طفولتها. في سن الخامسة عشرة تداعب المراهقات أحلامهن ولكن حنيفة كانت قد غادرت مبكرا الشباب إلى الأزقة الخلفية للشيخوخة، شيخوخة القلب والأحلام عندها أدركت المراهقة وهي تواجه قسوة زوج لم يرحم براءتها ولم يبق أمامها إلا الهرب فعادت حنيفة إلى بيت أهلها بعد ستة أشهر فقط من الزواج. أهل بيتها اعتبروا تصرف حنيفة تعديا على حرمة التقاليد وهدرا لكرامة العائلة فحملت لقب مطلقة مبكرا.
لقب مطلقة كان أشبه بتهمة وعار بل شبهة تحملها المرأة وصمة إلى أن يحل بها زواج ثان ليمحو أثر معركة سابقة خاسرة. وهكذا أعادت حنيفة الزواج مرة أخرى. ومرة أخرى تمردت على حكاية زوجية قاسية لم تستمر إلا سنة وكانت ثمرتها طفلة تدعى ليلى.
كان على حنيفة هذه المرة الانفصال عن عائلتها نهائيا وشق طريقها بنفسها رفقة ابنتها لتجنيب العائلة أقدار وتبعات مسار كانت قد سطرته واختارته لنفسها فقصدت الجزائر العاصمة أين عملت كمنظفة بالإذاعة الوطنية. هناك التقت بالفنانة شريفة فتقاسمت مع المرأة سوء الحظ وتنكر المجتمع للصوت المؤنث فانفجرت موهبتها الغنائية وعوضت قلة الحيلة بالصوت.
اتخذت حنيفة من الغناء طريقة لتنتقم من المجتمع وتفضحه، حيث غنت الألم وقسوة الظروف خاصة على النساء. حنيفة كان لها من الجرأة ما يكفي لتنتقل بأغاني النساء من الأماكن المغلقة إلى مقاهي المهاجرين بباريس حيث هاجرت إلى فرنسا عام 1957 بعد تجربة زواج فاشلة وكانت قبل تجربة الهجرة قد سجلت سنة 1953 أغانيها في أستوديو« باتي – ماركوني” بعد النجاح الذي لقيته في الإذاعة وانتهي بها الأمر إلى التحاق بالفرقة النسوية للإذاعة عام 1956 أو «النوفا الخلاث» التي كان ينتظرها جمهور كبير عبر القناة الثانية لسنوات. عبر هذه الحصة التي كانت تعشقها أمي وتنتظرها دوريا اكتشفت وأنا طفلة الأصوات القبائلية المؤنثة.
كنت مبهورة بصوت أمي وهو يقلد تلك الأصوات خلف “كانونها” أو منسجها أو في أعراس العائلة عندما كانت أمي تتمايل على إيقاع تلك الأصوات حيث كانت والدتي راقصة تجيد تطويع الحركات على مختلف النغمات القادمة من مذياع “الخلاث” أومن أصوات مثيلاتها.
شقت حنيفة طريقا صعبا في الحياة ومثله في الفن وقد وضعت أولى خطواتها على درب النجاح بأغنية أرَبِّي فّرَّجْ “يا رب فرّج”، حيث تعاملت مع الموسيقار الشهير محمد أقربوشن. في فرنسا تعمقت علاقة حنيفة بالوسط الفني هناك التقت طالب رابح، وبهية فراح وكمال حمادي الذي سجلت رفقته أشهر أغانيها الثنائية «يذم، يذم» دائما معك.
عادت حنيفة إلى الجزائر بعد الاستقلال مباشرة لكنها ما لبثت أن عادت مرة أخرى إلى فرنسا عام 1975. عند هذه الرحلة كانت حنيفة قد قطعت كل صلة بينها وبين العائلة والبلد والأهل.
هناك في الضفة الأخرى غنت الغربة والتمزق وقلة الحيلة والحنين والحزن وكل مفردات اللعنات الاجتماعية التي تلاحق النساء.
هل كانت جرأة زائدة من حنيفة أو شجاعة أو انتحارا؟ القدر لم يكن رحيما بحنيفة ليمنحها حق الاختيار فنزلت عليها جميع هذه المفردات مجتمعة. في المهجر واصلت حنيفة الغناء كما جربت دخول ميدان التمثيل مع الشّيخ نورالدين في فيلم «خيول الشّمس» غير أنها لم تحقق في الشاشة الفضية نفس النجاح الذي حققته كمطربة، سوء الحظ طاردها حتى بعد رحيلها في فندق متواضع في عزلة بباريس في ديسمبر سنة 1981 ودفنت في مقبرة العالية بعد جهود وتكافل عدد من الفنانين وأصدقائها الذين اضطروا للمساهمة مع بعضهم البعض لتوفير مبلغ يعيدها إلى أرضها لترقد للمرة الأخيرة بمقبرة العالية وكان آخر ظهور علني للمطربة في حفل أقامته في باريس عام 1978. خلفت حنيفة رصيدا فنيا يصل إلى 200 أغنية أغلبها مسجلة في الإذاعة الوطنية.. ومن أشهر أغانيها “يا رب فرّج”، “أين تمّ بيعك يا حظّي”، “إنّني لا أغني”، “جنيت على نفسي”، “أمرك لله أين الحلّ”، “ملكته الفرنسيات”، “دائما معك”، “يا حبيب العين”، “إنّي غفرت لك”، “جنايتي على نفسي”، “اصبر يا قلبي”، “طفح القلب”.
تميز ربيرتوار حنيفة بالجرأة التي كانت في زمانها رديف الفسوق وكسر جدار الحياء بحكم أن الغناء كان محرّما حتى على الرجال في منطقة القبائل حتى أن العديد من كبار الفنانين اضطروا لتغير أسمائهم وألقابهم لتجنب لعنة العائلة و”الدشرة” فما بالك إذا كانت المغنية امرأة وقد تجرأت على الجهر بمشاعر المرأة والتعبير عن الحب بطريقة مباشرة وصريحة مثلما فعلت حنيفة مثلا في أغنية “أيَا فْرُوخِيو– يا عصفوري” التي تقول فيها “يا عصفوري/يا مالك عيني/وساكن بالي أذاب صهد حبّك لحمي/بعدك نار/أحرقتْ قلبي”.
جرأة حنيفة وصلت حد اللارجوع عندما تطرقت إلى الطابو الجنسي في المجتمع القبائلي وغنته بصوت مرتفع عبر أغنيتها «أفق أيّها الشّيخ/ إنّها زوجة ابنك/عودته قريبة» حيث كانت ظاهرة التحرش بالنساء منتشرة لكنها لا تقال خاصة في ظروف غياب الأزواج في فرنسا وبقاء النساء لوحدهن في مواجهة الحياة بكل إشكالاتها. حيث كان التحرش يحدث حتى داخل المحيط العائلي وبين المحارم وليس في الخارج لكن لا أحد كان يملك جرأة الحديث وإثارة هذا الموضوع.
غنت حنيفة الحب والفراق والغربة ومشاكل الهجرة والمهاجرين الذين كانوا يعشون ظروفا صعبة في فرنسا لكنهم يتركون نسائهم وعائلاتهم وينغمسون في اللهو مع الفرنسيات تاركين أسرهم تكابد ألم الفراق والحاجة والفقر والفاقة. تقول حنيفة في أغنية «إن أردتِ اليمين » التي تقول فيها “إِن أردتِ اليمين /أقسمت بسيدي هلال/أنّ زوجك في باريس/ملكته ذات السروال/أمّا القبائلية الصبورة/فسخّرها لرعي الأنعام/أجد الحل أو اذهب؟”.
يمكن اعتبار حنيفة مناضلة نسوية في زمانها حتى قبل أن تظهر جمعيات الدفاع عن حقوق النساء حيث استطاعت حنيفة انطلاقا من تجربتها القاسية أن تدرك أن العلم هو السلاح الوحيد في يد المرأة لتتحرر من قيد وقهر المجتمع وتركت وصية لابنتها في شكل أغنية “عليك يا ابنتي رهنت شبابي” تؤكد لها من خلالها أنه ليس عليها أن تتساهل مع الحياة لتثبت نفسها وكأنها تطبق الحكمة التي تقول “وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”.
وأنا أعود من رحلة البحث عن صوت حنيفة قلت لأمي إنني صرت أعرف السبب الذي جعلها تتساهل معي في كل شيء إلا دراستي، وبقدر ما أحببت أمي واحترمتها في السابق صرت الآن أقدسها لأنها رفضت تكرار درس حنيفة رغم أن شجاعتها خانتها في استغلال جمال صوتها خارج القعدات النسائية أمام المنسج أو في حلقات جني الزيتون.