رسائل محمد الميموني حول \'انتحار\' محمد شكري وتأسيس أول رابطة للشعر
يمثل الشاعر المغربي محمد الميموني ذاكرة الشعر المغربي الحديث والمعاصر، وهو أحد رواد الشعر المغربي، منذ خمسينات القرن الماضي. وبينما ضاع أرشيف باقي الرواد الراحلين من أمثال أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني وعبدالله راجع، كما لا يعرف مصير خزانة محمد الصباغ ومكتبات أخرى، فقد خلد الشاعر محمد الميموني وخلف من ورائه تراثا وثائقيا زاخرا من شأنه أن يسعف مؤرخي الأدب في كتابة تاريخنا الأدبي والشعري المعاصر.
رابطة الشعراء
من بين الوثائق النادرة والطارفة التي كشف عنها معرض “ذاكرة الميموني” رسالة من الشاعر الراحل عبدالله راجع إلى صديقه محمد الميموني، تعود إلى أزيد من ثلاثين سنة مؤرخة في السابع من يناير من سنة 1987. وفيها يكشف راجع أنه فكر مع محمد الميموني وغيرهما في تأسيس “رابطة الشعراء المغاربة”.
ويبدو أن الشعراء المغاربة، وفي مقدمتهم الميموني وراجع، كانوا قد اقترحوا تأسيس هذه الرابطة وعقدوا العزم على ذلك. وهو ما يتبيّن من رسالة راجع، إذ يخاطب الميموني “لا أدري إلى أي حد وصلت فكرة تأسيس رابطة للشعراء المغاربة، تلك التي أثرناها في بغداد.. أعتقد أن المشروع في حاجة إلى مناقشة طويلة، وهو ما اتفقنا على إنجازه مباشرة بعد العودة من المربد”. ويبدو أن راجع كان متحمّسا للفكرة حين يصرح في الرسالة نفسها “من جهتي، أحاول أن أثير الموضوع كلما سنحت الفرصة.. وأذكرك بأنني متحمس لفكرة الإعلان عن ميلاد الرابطة أثناء مهرجان الشعر بشفشاون”. والحال أن الشاعر محمد الميموني هو أحد مؤسسي مهرجان شفشاون للشعر المغربي الحديث منذ سنة 1965، حيث استهل جلسته الافتتاحية في تلك السنة، مثلما تقول صورة نادرة من صور الشاعر وهو يتوسط حفل افتتاح الدورة الأولى من المهرجان الشعري العريق الذي لا يزال ينعقد إلى اليوم.
ونحن نتابع قراءة هذه الرسالة/ الوثيقة، يبدو راجع أكثر حماسا لفكرة الرابطة، سوى أنه إنما يعول على الميموني، الشخصية البارزة في جمعية أصدقاء المعتمد، يومها، إلى جانب الشاعر عبدالكريم الطبال. ويواصل راجع “كما أنني لازالت ألح على ضرورة إصدار مجلة خاصة بالرابطة..”.
لكن راجع لم يكن يريد لرابطة الشعراء أن تكون مستقلة عن اتحاد كتاب المغرب، الذي كان يرأسه محمد برادة يومها. بعد عشر سنوات من ذلك، سوف تتأسس رابطة أدباء المغرب. ويبدو أن للاسم صلة! أما راجع، فلم يكن يريدها رابطة مستقلة عن اتحاد الكتاب يومها. وهو ما عبّر عنه في الرسالة “أريد – شخصيا- أن يكون لهذا التنظيم – داخل اتحاد الكتاب- طابع مستقبلي (ولنا أن نتفق على المصطلح إن شئت). فليس من المعقول أن تظل الرابطة مجرد حشد لمجموعة من الأسماء والتوجهات”. وفي العبارة الأخيرة موقف صريح من بنية اتحاد الكتاب، التي أدت بها إلى أكثر من انفجار.
انتحار شكري
من الشعر إلى الرواية.. فبعد سلسلة من الرسائل التي دارت بين الميموني وغيره من الشعراء العرب والإسبان والمغاربة، وفي مقدمتهم صديقه عبدالكريم الطبال، نصل إلى رسائل محمد برادة الموجهة إلى الميموني. وإذا كانت أغلب هذه الرسائل على صلة باتحاد كتاب المغرب، منذ الرسالة الأولى التي يطلب فيها من الميموني تأسيس فرع للاتحاد في تطوان، فإن ثمة رسالة خاصة، هذه المرة، يطلب فيها برادة من الميموني أن يزور محمد شكري في مستشفى الأمراض العقلية بتطوان. وهي رسالة تكشف مدى تعاطف برادة مع شكري، مثلما تتضمن قراءة لنفسية محمد شكري ووضعيته ككاتب استثنائي. تقول الرسالة المعبّرة، والموجهة إلى الميموني “أكتب لك على عجالة لأطلب منك أن تنوب عني في زيارة صديقنا محمد شكري (الكاتب) الموجود حاليا بمستشفى الأمراض العقلية (الجناح الجديد) بتطوان… فقد أصيب بانهيار عصبي نتيجة لأزمته المزمنة: الشعور بأنه يعيش على هامش المجتمع، وبأن التصنيفات الاجتماعية لا تسمح لمن لا ‘أصل’ له أن يحقق شيئا.. إلى جانب الحيف الأدبي الذي يحسّه.. والسن.. عوامل كثيرة لعلك تخمنها”.
في هذه الفترة لم يكن شكري قد أصدر النسخة العربية من الخبز الحافي، فلم تصدر سوى الطبعة الفرنسية، قبل أن يقترح عليه الطاهر بنجلون نشر الرواية بالعربية، باسم “الخبز الحافي”، كما كشفنا عن ذلك في مقال سابق في “العرب” نشرنا خلاله رسالة نادرة وجهها الطاهر بنجلون إلى شكري سنة 1981.
نعود إلى رسالة برادة، التي ننفرد بنشرها هذه المرة، حيث يضيف مخاطبا الميموني، ومتحدثا عن شكري “إنني أعزه كثيرا.. لذلك، أرجوك أن توليه شيئا من العناية.. إن نوعية الحياة في المغرب، وخاصة لواحد مثل شكري، لا يمكن إلا أن تبعث على الانتحار..”. وعن هذا الوضع يختم برادة الرسالة بهذه الفقرة القاسية “لا نراك، الدوامة تبتلعنا.. وهذا المناخ السياسي ‘البرلماني’ يزيل ما تبقى من أمل.. لكن، ما العمل؟”.
فهل حاول شكري الانتحار، كما تومئ إلى ذلك رسالة الروائي المغربي محمد برادة؟ والحال أن خادمة شكري قد أكدت أن صاحب “الخبز الحافي” حاول الانتحار مرتين في ما بعد. والحال أن الميموني لم يشر إلى قضية الانتحار حين كتب عن وجود شكري في مستشفى “ماريوكا” بتطوان، في سيرته “كأنها مصادفات”.
اتصلنا بالدكتور محمد الجعيدي، الذي أشرف على الحالة الصحية لشكري آنذاك، وكان مديرا لمستشفى الأمراض العقلية بتطوان. الجعيدي أكد أن شكري لم يكن يفكر في الانتحار، ولم تكن حالته النفسية تبعث على ذلك. كل ما في الأمر، يقول الدكتور الجعيدي، هو أن شكري كان يعاني من حالة قلق نفسية متقدمة، قد يتعرض لها أي شخص. ويضيف محدثنا أن هذه الحالة لم تعمّر طويلا، “بل إن شكري كان يتحسر على عدم استمرار هذه الحالة حتى يستثمرها في الكتابة”.
طرفة أخرى يحكيها لنا الميموني، وهي أن شكري لما غادر المستشفى حصل على شهادة تثبت أن عقله سليم. ولذلك حين كان أصدقاؤه الكتاب عبر العالم يمازحونه ويتهمونه بالجنون، بعدما قضى تلك الأيام في ما يسمّى “مستشفى المجانين”، كان يشهر الشهادة، ويؤكد لهم أنه الوحيد الذي يتوفر على شهادة تثبت أنه عاقل، وأنهم كلهم مجانين.
رسائل أخرى
باقي رسائل الميموني لا تقل إثارة وجدلا، وهي وثائق مستطرفة تكشف عن قيمة وقامة الشاعر الراحل في المشهد الثقافي المغربي والعربي. فها هي رسالة أخرى من برادة، وكان رئيسا لاتحاد كتاب المغرب، يخبره فيها أن الاتحاد ينتدبه للمشاركة في الجلسة الطارئة التي سيعقدها مؤتمر الشعب العربي في دمشق من 25 إلى 30 نوفمبر 1978، لتدارس الأوضاع الراهنة في الوطن العربي. وها هو الرئيس الموالي للاتحاد، الناقد أحمد اليبوري يراسل الميموني، وينتدبه للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي في اليونان سنة 1985. وها هو المستعرب الإسباني فيرناندو دي أغريدا يطلب منه إرسال نصوصه من أجل إعداد أنطولوجية بالإسبانية رائدة حول الشعر العربي، وها هو صنوه في الشعر عبدالكريم الطبال يراسله كلما مرة، يناقش معه ما ينشرانه من قصائد واصلت بناء الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة، أو وهما يعدان لدورة جديدة من دورات المهرجان الوطني للشعر الحديث بشفشاون، منذ منتصف الستينيات.. ثم ها هو الزعيم الشيوعي علي يعتة يوجه رسالة إلى الميموني، الذي عاتبه على نشر نصوص أدبية وشعرية في جريدة “الكفاح الوطني”، لا تتوافر على الحد الأدنى من الجمالية المطلوبة. ثم تأتي رسالة جابر عصفور لتلتمس من الميموني المشاركة في ندوة حول فيديريكو غارسيا لوركا، بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده. وها هي رسائل الكاتب والشاعر محمد الأشعري، ينسق معه في أمور اتحاد كتاب المغرب، في ذلك الزمن.. وها هي رسائل محمد بنيس، منذ تأسيس الشعر المعاصر إلى تأسيس بيت الشعر في المغرب. وها هي الرسائل العديدة المتبادلة مع المناضل التقدمي محمد الجعيدي من داخل السجن، وهي تحكي عناد جيل من أجل الكرامة والحرية.
وفي رسالة لإدوارد الخراط في بداية الثمانينات يتمنى الروائي المصري أن تكون سنة 1982 “آخر أعوام العقم”، وهو عنوان الديوان الأول للميموني الذي تأخر صدوره إلى غاية 1974.
أما محمد الميموني، الذي نشر بعد ذلك ديوان “الحلم في زمن الوهم”، والعشرات من الدواوين والأعمال أخرى، قبل وبعد أعماله الكاملة، فلا يزال شعره ولا تزال ذاكرته الحية تواصل الحلم، وهي تنتظر انصرام الوصول إلى آخر أعوام العقم، تلك المتعاقبة على مشهدنا الثقافي “العقيم”، وعلى مشهدنا اليومي الأليم.