رسالة هادئة إلى المتظاهرين

الاثنين 2019/04/01
معركة مدججة بالكثير من الأحلام

القليل من الذاكرة قد ينعش، والكثير من النسيان قد يريح.

1

من يصدق أنّ ما يحدث في الجزائر خلال هذه الفترة الأخيرة هو نتاج قمع وخوف وتسلّط نظام الكل شارك في صناعته والاستفادة منه بطريقة أو بأخرى، وسمحنا له أن يتجذّر في عمق أرواحنا وتفاصيل حياتنا اليومية.. شاركنا معه كنخب وإعلاميين وساسة وعسكر وعلماء ورجال دين وفنانين وأناس بسطاء عاشوا الغبن والدمار والموت والإرهاب طيلة عشريات كاملة لم يكن لأيّ أحد أن ينجو منها هكذا بلمح البصر لولا رجال قدّر لهم أن يكونوا في مستوى المسؤوليات التي أنيطت بهم في مفصل تاريخي قاتل ومدمر وخطير كالذي مرت به البلاد.

من المؤكد أن الواقع الجزائري اليوم متهالك ومريض وبائس ويائس، فمنذ وقت قصير اعتقد البعض أن الحل يكمن في الديمقراطية والحرية وهي الضامن للعيش الكريم والمستقبل الزاهر. بينما قال البعض إن الفرد الجزائري وبعيدا عن الغوغائية والشعبوية وتنميطات الساسة وإعلاميي ما وراء البحار، يريد مسكنا وشغلا محترما يحفظ له الكرامة والعزة وسط عائلته وأهله وأصدقائه.

بالمقابل حكمت باسمه سلطة اختلط فيها السياسي والفقيه والعسكري وأصحاب المال وعصب ثقافية وإعلامية هادنت أساليب حكمه ونظرته إلى الأمور وفق ما تقتضيه المصالح والأحوال، وروجت لخطاباته بالمحاباة والعشائرية والزبائنية لترضي وتبتز وتحتكر وتخوّن كل خارج عنها أو لا يدخل في زمرتها.. وكان المآل أن نشأ النظام وقام وتعاظم على هكذا مفاهيم ورؤى، وباركناه وتبنينا ما يفعله ويقوله، ورضينا به كجزء من منظومات حياتنا.

2

واليوم ونحن نشهد هذا الحراك سواء أكان عفويا أو منظما أو مرتبطا بأجندات داخلية وخارجية والذي يتبلور هنا وهناك في شكل احتجاجات مختلفة ومتباينة ومتناقضة المطالب بين من هم في الشارع ومن هم في الكواليس ومن هم في السلطة ومن هم في الأحزاب والتنظيمات ومن هم في الجامعات ومن هم في المخابر ومن هم في أقصى دوائر القرارات ومن هم في الإعلام أو في شبكات افتراضية.. الكل يناضل ويتحرك وفق شروطه الاجتماعية والثقافية.. هكذا يبدو المشهد يعج بالقلق والاضطراب وما يحدث جاء نتيجة لتراكمات أثقلته وكأن الجزائر لم يتحقق فيها شيء سوى السراب والغبار والوهم.

3

المأزق الذي نعيشه اليوم لم يكن أصلا مرتبطا بالحكم أو النظام، فالكل يعرف أن المجتمع الجزائري بما أنه بلد عربي إسلامي منتم إلى العالم الثالث، مرتبط بنمطين من القيادة: العسكري والديني وأيّ خروج عن هذا السياق فهو خروج عن الإرث القوي للتحالف المقدس بين الاثنين، ولن يسمح لأيّ أحد أن يفرض أو يغير أو يزعزع هذا.

لا يمكن أن يُخفي عن الأعين العسكرة أو التدين الذي يغلف المجتمع الجزائري، الكل منخرط في جعجعة العسكر وفي حمى السماء.. من يستطيع نفي أن ساستنا أو إعلاميينا أو مثقفينا أو نشطاء أو غيرهم كانوا أحرارا يوما.. هناك خيط قويّ دوما يقودهم إلى فضاء العسكري ورجل الدين.. فهو الذي يقرر ويأمر ويطاع، ولا يزال التحالف سواء أكان سريا أو علنيا بين العسكري والديني هو المهمين والمسيطر والقاعدة، وهو تحالف حاضر وراسخ بتجلياته كل يوم حتى في أبسط شؤون حياتنا وفي كافة المجالات.

4

كيف يمكن أن نقرأ الجزائر اليوم وهي تتحرك على تقاطع شارعين معروفين حتى ولو نظر إليه البعض أنه شارع جديد بأنفاس جديدة.. شارع العسكري والديني.. فكلاهما منظّم ومتوازن ومنسجم.. أحداهما يبني شرعيته على القوة والسيطرة، والآخر على خطاب يستلهم مرجعياته من قيم الدين من فروض وواجبات وحقوق تؤدي مباشرة إلى الجنة، من هنا كيف نفهم رمزية اختيار يوم الجمعة للحراك دون غيره من الأيام ونعي وندرك حجم قداسته في مخيال المجتمع.

لقد لاحظنا جانبًا واسعًا من الحراك ينطلق مباشرة بعد صلاة الجمعة حيث الحشد الكبير من الجماهير، ويصاب العقل بالشلل حين يعود بذاكرته إلى الوراء قليلا في مشهد ربما غاب عن الجميع أين كانت الشوارع محتلة بأنصار إحدى الأحزاب الإسلامية والكل يعرف ما ترتّب عنه، وطالما أن لهذا المشهد اليد الطولى فإن رؤية الأمل والفرح والتغير في انتقالنا إلى جمهورية أخرى على رأي المتفائلين أو إلى عالم جديد مدني متطور يبدو بعيدا جدا أو كسراب يطارده الأكثر استقلالا بيننا.

فتجربة السيطرة على الشارع مثلما أثبتته التجارب سواء هنا أو في الخارج، لم تؤدي إلا إلى وأد مشاريع كانت لامعة في الدفع بالمجتمع إلى المستقبل بل بددت روح الإنسان، وأنهكت حركيته، وأضعفت ما تبقى من قوته، وظل خائفا ليس على وطنه بل على نفسه وعلى ممتلكاته وعائلته، وما ينتجه الشارع من شعارات لم تتعدى إلى الآن تلك التي سمعناها في بداية التسعينات من القرن الماضي وكأن لا شيء تحرك من مكانه رغم المخاض والرجات التي مر بها المجتمع الجزائري، ومما يدهش حقا ما يتم الترويج له أن هذا الحراك كسر حاجز الخوف والصمت والخنوع فهل كان الشارع الجزائري حقا بهذه الصفة التي يراد إلصاقه بها.. أم أن الذين يقفون وراء هذه الأمر لا يعرفون حقيقة الشعب الجزائري؟ ولماذا يتكرر هذا الأمر خاصة من أفواه الذين يتكلمون اليوم في مختلف وسائل الإعلام أو في منابر هنا وهناك مفترضة أو عينية؟ك

Thumbnail

يف يمكن أن نحوّل الشارع إلى “خريطة طريق” تبتعد قدر الإمكان عن جميع القوى التي هيمنت على المشهد ككل من الآباء المؤسسين إلى كل أركان النظام وتوابعه وأذياله ومريديه وعرابيه وصولا إلى هؤلاء الذين رافقوا المشهد بداية من تسعينات القرن العشرين إلى غاية اللحظة.. كيف نقولها صراحة لهؤلاء لقد تقلص وتجعد واحدودب الظهر منكم، لقد فشلتم في توكيد حضوركم كنخب فاعلة ومؤثرة في تطوير المجتمع والارتقاء بوعيه وسلوكاته ونظرته للأمور، لم تحسّنوا من رؤيته إلى حاضره ومستقبله بعيون واسعة وصافية، جلّ ما قمتم به هو الزج به في أتون التخلف والرياء والولاء الأعمى، وربيتموه على الإصغاء إلى صوت الإقصاء والريبة من المختلف والمتعدد، وأشرتم للآخر على أنه عدوّ ومنبوذ وخطير على الهوية والثوابت والقيم.

عندما نقول هذا الكلام فلكيْ نقول إن بذور سقوط هذا الشارع في العبث والفوضى والتفاهة يحملها هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم في لحظة وعلى طول سنوات مديدة من عمر الجزائر في المقدمة والمؤخرة وفي الوسط وفي كل الاتجاهات، بوجود هؤلاء سيغدو الشارع مهددا بأن يتحول إلى ديكور يتسلى به البعض في قنواته وفي أجهزته النقالة، وسينظر إليه البعض كواجهة للغضب وللغضب فقط أو كمتنفّس للعب وتضييع للوقت، أو قد يستغل من طرف البعض في التشويش على لحظة مهمة من عمر هؤلاء الشباب الذي يتطلعون إلى فتح صفحة جديدة من تاريخ الجزائر.

5

المفارقة اليوم في هذا الحراك أنه تجاذبه فكرة الاستمرار والتغير ثم البديل استمرار مقنن، وتغيّر منشود وبديل تائه يبحث عن وجوه أخرى لم تتلوث أو تتعفن ولم تكبر عاتية في الذهن.

استمرار باسم المحافظة على المكتسب، وتغيّر باسم الخروج على نظام استهلك وفاسد، وبديل يحمل اسم التجديد والابتكار والخلق.

كيف يطلع بديل آخر من هذا الحراك الشباني غير مأزوم بأسئلة الهوية واللغة والدين والتاريخ والماضي، يعفي نفسه من خطابات تقليدية غدت ترفا فكريا مغشوشا ولوكوميتف قديما صدئا متكلسا، نيران باهتة لا تشحذ الهمم وتذكيها، بديل لا يفكر في الحيرة ولا يتلبس بأوهام التحديث والدولة الوطنية والثورة والشهداء.. بديل يصطدم بالمستقبل المؤسس على روابط جديدة وعلائق وأرضيات وسماوات وقيم جديدة وحقوق أخرى وأنوار تتشكل من رحم العقل والحرية في الفعل وليس الحرية في الكلام والتعبير و”الهدرة” التي لا تسمن ولا تغني من جوع. بديل يعترض بقوة على من يسلب منه أحلامه حتى ولو كانت أحلاما لا تتعدى بيتا وزوجة وعملا. بديل يتطلع للنبل والعدالة وديمقراطية لا تتركه يبيت جائعا أو في العراء. بديل بمشاريع واضحة المعالم في كل مناحي الحياة العامة من السياسة والاقتصاد، إلى التربية والتعليم والثقافة والفنون، بديل ترافقه المرأة لا بوصفها أنثى مطيعة خانعة مستسلمة بل بوصفها إنسانة بحقوق وواجبات تنشد حريتها من حرية الرجل. بديل يفكك كل امتثال ليكون المثال. بديل يقف ويتماهى مع الوطن بلا حدود تعزله ولا جدارات تفصله بين الفوق ولا التحت. بديل معركته الحقيقية هي مع هذا المستقبل القادم المخيف الزاحف الذي يحتاج إلى عقول واسعة وسع الأرض.

6

في ظل ما يحدث اليوم في الجزائر يخوض الشارع معركة أخرى مدججة بالكثير من الأحلام وأيضا بالكثير من الأوهام.. أحلام تحتل كل رقعة من روح الإنسان الجزائري للظفر ببهجة بسيطة في حياته.. وأوهام تبحث عن مخارج للتدفق في نهر ينذر بالطوفان أو بنيران قد تحرق الآتي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.