ركامنا الممنوع من الكلام
أن نكتب عن بيروت الآن يعني أن نحاول استنطاق ركامنا الذي وجدنا أنفسنا مدفونين تحته بعد انفجار المرفأ. سبق للمدينة أن تعرضت للتدمير مرات عديدة ولكنّ أيا منها لا يقترب في فداحته إلى ما نحيا في داخله الآن. لا يتعلق السبب بحجم الدمار وهوله، ولكن بطبيعته وعنوانه الذي أخبرنا أننا كنا على امتداد فترة طويلة من أعمارنا نحاذي موتا مؤجلا، يمكن لعصابة احتلت مشهد البلاد منذ الثمانينات أن تفعّله لحظة تشاء.
حياتنا إذن لم تكن سوى موت كامن، ولكن واقعه كان يرسم في كل لحظة ملامحنا ويكتب سيرتنا رغما عنا، وتاليا لم يكن كل ما نحاول ارتكابه من عيش وكلام وأفكار سوى احتضار طويل وممتد.
لحظة انفجار المرفأ أرسلتْ أحشاء هذا الاحتضار على مساحة المدينة، وجعلت بواطننا مرئية فعلا وليس عبر أيّ مجاز بلاغي. شاهدنا بأم العين أحشاءنا معلقة في الفضاء ومتفشية في جسد المكان الذي صار ركاما، ومنذ تلك اللحظة لم تعد المدينة قادرة على السكن في زمنها وفي توقيتها، بل دخلت في توقيت الانفجار ولحظته فصار تقويمها الرسمي الذي لا يتحرك ولا يتوقف عن العودة الدائمة.
لا تحتمل المدن مثل تلك الإقامة الجبرية وتحتال عليها بالاختفاء. لقد بات المشهد البيروتي يعكس صورة مدينة قررت الاختفاء هرباً من سجنها في لحظة الانفجار، ومن كل هذا التواطؤ المعلن معه ضدها.
لا تختفي المدينة بالكف عن الوجود، فهي، حتى لو صارت ركاما، لا تموت ولا تختفي، إلا حين تمتنع عن صناعة كلامها.
هنا يكمن الحد الفاصل بين هذا الانفجار وبين كل ما عاشته المدينة قبله من دمار وخراب. لم يسبق أن عجزت بيروت عن الكلام ودخلت في صمت قاتل، إلا مع هذه اللحظة. كانت دائما تجد في نفسها القدرة على إعادة ترميم ما تبدد من ذاتها بالكلام الذي كانت ترسله وتتلقاه، وتصنع من حوله روح المكان وشكل الزمان.
من اغتالوا بيروت اليوم نجحوا في إدخالها في الصمت، فهي لم تستطع القول إنها تعرف القتلة وتطالب بإدانتهم، ولكنها وجدت نفسها مجبرة على الصمت، لأن الجلادين هم من ينطقون باسمها الآن.
صورة الفراغ
يضع الاصطدام بالدمار البيروتي الناظر أمام إشكالية التوصيف، فهو لا يشبه دمارا ناتجا عن قصف عنيف، ولا عن استخدام ذخائر حربية حارقة، كما لا يشبه الخراب الناتج عن الزلازل أو البراكين أو غيرها من الكوارث الطبيعية.
قد يكون التوصيف الأقرب أنه أشبه بعملية اقتلاع وتفريغ، تسحب من الأماكن كل ما تخزنه في باطنها وتبقي على الهياكل الخارجية، بحيث يبدو المكان وكأنه قد تعرّى تماما، وكأن ما يظهر منه الآن أمام الملأ هو ما وجد في الأساس لستره وإخفائه.
هكذا يصبح المكان البيروتي حاملا لدلالة التعذيب في كل ما يبثه من معان. الدلالة التي ينطوي عليها هذا الدمار الجديد في نوعه أنه يجعل من حالة الصدمة فعلا تراكمياً يزداد حجمه مع كل لقاء بالمشهد، لأننا لا نملك أيّ حيل أو أدوات تمكّننا من فهمه أو إحالته إلى مشاهد سابقة أو تفكيكه، ولا يمكننا أن نتذكر المرات التي نجونا فيها من دمار مماثل أو أكبر.
هذا الدمار التفريغي يرسلنا مباشرة إلى جحيم الذهول، ويتركنا هناك، فنحن لا نجيد وضعه في سياق واضح، بل على العكس من ذلك يعيدنا أيّ تواصل معه إلى اللحظة التي تلقيناه فيها للمرة الأولى، ولكنه لا يتركنا فيها بل يجرّنا إلى الإقامة في الحفرة التي تسبب بها في جهازنا النفسي والعصبي وفي الطريقة التي نستقبل فيها الأحداث.
في هذه الحفرة التي تتعمق على الدوام تدفن معرفتنا السابقة وخبرتنا ولغتنا فكأننا نبدأ الآن في معاينة الوجود بلا أيّ أدوات.
مصادرة الموت
حين ظهرت إلى العلن صور تعذيب الآلاف من المعتقلين السوريين حتى الموت في سجون الأسد إثر تهريبها من قبل مصوّر كان يعمل مع الأجهزة الرسمية أطلق عليه اسم قيصر، راودني سؤال شاق حول حرص الأنظمة القاتلة على توثيق جرائمها وأرشفتها. كان آلة القتل الأسدية تستطيع مثلا أن تقتل كل هذا العدد من الناس وتدفنهم في مقابر جماعية، أو أن تعمل على إخفاء جثثهم بأيّ طريقة كانت من دون أيّ توثيق، يمكن في حال اكتشافه أن يشكل مدخلا لإدانتها وتجريمها.
أظهر هذا الولع بالترقيم والإحصاء رغبة عميقة في منع الموتى من الموت، وحرصا على تثبيت وجودهم في اللحظة التي تسبقه، أي لحظة التعذيب الذي يمثل السلطة القصوى للجلاد، واللحظة التي لا يريد مغادرتها، لأنها تمثل بالنسبة إليه حدا أقصى من امتلاك وجود الضحية، بينما لا يفعل موتها تحت يديه سوى أن يبدد هذه الملكية ويحرمها من التلذذ بعذاباتها أكثر.
الموت في هذه الحالة يشكل انتصارا ساخرا للضحية. مهمة الجلاد تكمن في منعه من الحصول عليه، لأنه لا يفقده سلطته وحسب بل يمنعه من أن يلصق بالضحية المعنى الذي يريده.
الزمن الذي ينشره والذي يكون مكثفا في لحظة التعذيب يتعرض للتبدد، وتتبدد معه السلطة المطلقة التي يحملها والتي يجتهد في تحويلها إلى زمن ممتد ومتواصل ولا يكف عن إعادة إنتاج نفسه.
ما يريده الجلاد إذن ليس امتلاك حياة الضحية بل امتلاك موتها، لأنه السلاح الأخير الباقي لها، والذي لا يستطيع أن يفرض عليه سيطرته، بل يجد نفسه مجبرا على التوقف عند حدوده. بالنسبة إلى منطق الجلادين فإن كل توقف هو تراجع وانكفاء لذا يتراءى له موت الضحية بوصفه شيئاً من الهزيمة.
لا يمكن على الإطلاق ضبط إيقاع التعذيب مهما بلغت براعة الجلاد، وكذلك لا يمكنه السيطرة على وتيرته، ولا اكتشاف المدى الذي يمكن تكراره فيه من دون أن يكون مسببا للموت.
حين تنفجر الحدود بالموت يكون الأمر بالنسبة إلى الجلاد أشبه بخطأ لم يتمكن من تداركه، لأنه لا يمكن اختباره وإخضاعه للتجريب، بل لا يحدث إلا رغما عنه وضد إرادته، وكأنه يتخذ صيغة الانصياع لرغبة الضحية في الوصول إلى نهاية مّا، تكمن دلالتها الرمزية في أنها تعطل سيرورة المطلق التي يبني عليها الجلاد معنى زمنه.
التعذيب الذي هو غاية ذاته لا ينتج سوى تلك الشبكة من الإحالات والمعاني، وصور الجثث تقوم بهذه الوظيفة تعني، قبل كل شيء، أن موت الضحايا صار أسير الصور، وبذلك فإنه يتكاثر من دون أن ينجز تماما، فالموتى المحبوسون في الصور، سواء بقيت مكتومة أو خرجت إلى العلن، يقيمون دوما في العراء.
لا يمكن للقانون الذي صدر باسمهم أن يسمح لهم بإنجاز موتهم ما لم ينهزم القاتل، وبما أن الأمور ليست ذاهبة في هذا الاتجاه، فإن تهريب صورهم وعرضها على الملأ واكتشاف أهلهم وأقاربهم أنها تعود لأحبابهم وأبنائهم، من دون حصولهم على الجثث، لا ينجز الموت، بل يفتحه على التعذيب من جديد، ويوسّع مساحته لتشمل من تلقوا الصور، ويضعهم تاليا في قبضة الجلاد. الصور ليست جثثا ولا مقابر بل مجرد تعذيب مفتوح.
الانفجار بوصفه مستقبل المدينة المحتوم
يحيا زمن بيروت الآن في اللحظة نفسها التي وصفناها آنفاً، فبعد انفجار المرفأ، لم يسمح لقتلى بيروت أن يدفنوا بسلام، لأن السلطات القاتلة التي تتناسل من رحم الحزب الإلهي المجرم وتنتسب إليه، وتحيا تحت ظلاله، بقيت هي المرجع الذي يتحكم بمسارات البحث والتحقيق والتأويل.
هكذا امتنع موتى بيروت على غرار الموتى من السوريين من الموت، وبقيت جثثهم حية تنتظر عدالة، لا مكان لها في بلاد الطاعون الإلهي، لتسكن في سكينة الموت، محملة بمعناها الذي لا يمكن فصله عن إدانة القتلة الواضحين.
تبدد المعاني أبقى قتلى بيروت في إقامة جبرية في حالة التعذيب، وترك المدينة نفسها مقيمة في مثل هذه الحالة، لأن شفاءها لا يمكن أن يرتبط بالإعمار، وبعودة المرفأ إلى العمل، وترميم الشوارع والأبنية المدمرة، ولكن في إعادة تركيبها كمعنى يناقض وجوده بشكل نهائي شكل الوجود الذي تسبب بهذه المقتلة.
ما وضعنا الانفجار أمام هوله الذي لا يحتمل هو أنه عرض علينا كل حياتنا على أنها لم تكن سوى إقامة في حيز التعذيب، وأفهمنا بشكل لا يقبل الجدل أننا كنا نسكن في جثثنا المعتقلة من قبل جماعة من القتلة، يطمحون لأن يكون زمنهم متفوقا على كل ما أنتجته الفاشيات السابقة من تنكيل يطال الموتى ويمنعهم من الموت.
اكتشفنا أن الزمن البيروتي لم يكن سوى وهم مدينة تم سلبها كل معالم الزمن المديني. فأن نعلم أننا نحيا فوق الألغام والمواد المتفجرة يعني أن كل ما كنا نعتقده زمنا جاريا وحيوات قائمة وسيرا تكتب لم يكن سوى وهم.
لحظة الانفجار كانت، إذن، حاضرة في كل لحظة سابقة على حدوثه، المستقبل الحتمي الذي لا يمكن الفرار منه ولا تعديله، والقادر حين يأتي على أن يسلب كل ما سبق معناه وتأويله، وأن يسجنه في لحظته، ويجبره على إعادة تعريف نفسه من خلاله.
بناء عليه، فقدت المدينة مع لحظة الانفجار ليس مرفأها وجل أحيائها المهمة وحسب، بل فقدت ماضيها كذلك، لأن ما تلا الحدث من ردود أفعال لم يعمل على تشكيل نوع من القطيعة مع لحظته، بل بدا وكأنه استئناف لها وتكرار حرفي لمفاعيلها.
حين ننظر إلى البلد بعد الانفجار ونرى ملامح حزب الله مسيطرة على صورته، فإنه لا يمكننا أن نتوقع سوى أن يكون هذا الانفجار مستقبلها ومستقبلنا المحتوم الذي لا يسمح للذاكرة بأن تستعيد أيّ شيء سواه.
تحتاج الذاكرة لكي تحيا إلى أن تستكمل وتستأنف في واقع مّا، ولكن إذا كانت اللحظة الحالية من عمر البلاد تعاديها وتنفيها، فإن الذاكرة نفسها تتحول إلى ألم يديم لحظة التعذيب ويشارك فيها.
لعل هذه المهمة تمثل أقصى ما نجح زمن حزب الله في إنجازه، فهو جعل خطاب التذكر مدموجا بالانفجار وجزءا من سياقاته، ولم يعد من مجال للتأريخ خارجه، فأن نتذكر بيروت قبل الانفجار ليس فعلا خارجا على سلطة الانفجار وزمنه، بل بات جزءا منه.
يعود السبب في ذلك إلى أنه لا تظهر في أفق البلاد أيّ محاولة جدية لمقاومة زمن الانفجار، فالضحايا لا يملكون الحق في التعبير، ولا في المشاركة في صناعة مجال سياسي أو اجتماعي أو حتى أخلاقي يجعل من الزمن الصانع للانفجار لحظة عابرة. كل ما يجري يمنع الضحايا من الكلام، لا بل يمكننا القول إن ما شهدناه من شماتات بالضحايا وتمثيل بجثثهم ومنعها من الرقاد الأبدي في سلام، يتكرس ويتشرعن بعنف من خلال ردود الأفعال الباهتة على الحدث، والقبول بتأويل القاتل له بوصفه فرصة لإعادة إنتاج المنظومة نفسها كسلطة تمثل الشرعية والعدالة وحكم القانون، وهو ما من شأنه أن يثبت وجودنا كحالة تعذيب محرومة حتى من الموت الذي يشكل انتصارها الوحيد الممكن.