رمل بلون العقيق

فصل روائي
الجمعة 2021/01/01
لوحة: زهير دباغ

هاج في داخلي شغف إلى البحر. لم ألتقِه منذ أشهر. أخذني عنه ضغط الدراسة أخذًا. قررت أن أقصده، وأسلّم عليه وأصافحه، وربما أرتمي في حضنه، كما كنت أفعل أحيانًا، وأستنشق رائحته التي تغويني مثل رائحة أنثى.

هاتفت صديقي عمران الراوي، الذي تربطني به علاقة حميمة تفيض بالإخاء والمودة، ويسبقني في قسم الآثار بالكلية، وعرضت عليه أن يرافقني إلى الساحل، لكنه لم يتحمس، أقصد اعتذر في لطف، متعللًا باستغراقه في مراجعة طباعة أطروحته.

كان عمران رفيقي الدائم في الاستئناس بالبحر، وفي قضاء أمور حياتية كثيرة طوال أربع سنوات، هي عمر صداقتنا، ولم يحدث أبدًا أن امتنع عن تلبية رغبة تعنّ لي، حتى إذا كانت تتعارض مع مزاجه، إلاّ إذا كان لديه سبب قاهر يحول دون تلبيتها، ولا أنا تخلفت عن مصاحبته في أمر ما. لكنه كان محقًّا، بلا ريب، في اعتذاره هذه المرة، فلم يتبقّ أمامه سوى مدة قصيرة لمناقشة أطروحته، ونيله درجة الدكتوراه التي تضمن له التعيين في إحدى الجامعات. وعليه، لم يكن من اللائق، بداهةً، أن ألحّ عليه بمرافقتي إلى البحر.

قدت سيارتي عبر حي “الورود” غرب المدينة، ومررت من أمام الدار التي سكنا فيها سنتين، أيام كنت طالبًا في الثانوية. حانت مني نظرة استذكار إليها طافت بي إلى تجربتي الغرامية الأولى مع ابنة جارتنا صاحبة الدار، وحالما بلغت مشارف الأرض الرملية المنبسطة على الساحل ركنتها في موقف السيارات المفتوح على البحر، وانحدرت مهرولا جذلًا كأني على موعد غرامي مثالي. تعثرت ببعض الأنقاض، صناديق وطاولات خشبية مهشمة، ومقاعد بلاستيكية متشظية إلى أشلاء، وبراميل عوجاء، وكدت أسقط على وجهي، لكنني تمالكت واستويت على قدميّ، وصببت اللعنات على الذين رموا تلك المخلفات.

كان الطقس الخريفي رائقًا، نوعًا ما، يسمح بالاستمتاع بمنظر طيور البجع المهيبة على مقربة من حافة البحر، وهي تقفز قفزات متتاليةً، والتطلع إلى قوارب الصيد الخشبية على سطح الماء. لكن الجوّ تعكّر في لحظة خاطفة، على غير المعتاد، ووجدت نفسي بين فكّي ريح شرقية عاتية يقشعر لها البدن، آخذةً بالاشتداد، متداركة الهبوب كأن بها هَوَجًا، تدفعني بضراوة إلى البحر الذي صار مخيفًا، يترجرج مثل مرآة تعلو وتهبط، وراح صفيرها المدوّي يدقّ طبلتَي أُذنيّ حتى ليكاد يوقرها، ويقذف الرعب في قلبي كأنني في شَرَك.

سحبت منديلًا من جيب بنطالي وكمّمت أنفي، وبحثت غريزيًّا عن مكان أحتمي به، فلم أجد إلاً مغارةً ضيقةً في نتوء صخري تقع في مواجهة المرفأ الطبيعي الصغير، اعتاد بعض الشبّان افتراش أرضها المغطاة بالرمل لتعاطي الكحول، خلسةً، بعيدًا عن أنظار الناس. دلفت إليها، وخلعت قميصي ونفضت عنه ذرات الغبار، وأزلت ما التصق منها بجسمي؛ شاعرًا بطعم مرارة في حلقي، وببعض التشنجات في معدتي.

تغيّر لون رمل الساحل على الفور، كأنما السماء أمطرت عليه طلاءً بلون العقيق الضارب إلى الصفرة، بينما فقد ماء البحر بريقه وأصبح بلون التراب، كدرًا يغشاه الزبد، يندفع موجه عاليًا إلى كتل الصخور، بعضه راكبًا فوق بعض، لينقضّ عليها في النهاية صاخبًا هادرًا، لكنه يتكسّر فوقها ويتراجع مخذولًا، ثم يعاود الكرة من دون طائل.

أصبح المرفأ خاليًا في وقت تجاوز الثالثة زوالًا بقليل، وكأن الناس تبخروا. مرت ساعة وأنا على تلك الحال، أتطلع إلى قوارب صيد السمك الخشبية الصغيرة، التي يحثّ أصحابها على التجديف، في مواجهةٍ شرسةٍ مع عصف الريح وتلاطم الأمواج، لبلوغ الساحل قبل أن يلقوا حتفهم ويصبحوا فريسةً لآفات البحر. وعلى مبعدة من تلك القوارب يظهر للعيان مركب شراعيّ يلتمع كالفضة تحت أشعة الشمس، تهتز صاريتاه كسعفتين واهنتين وهو يقترب ببطء من المرفأ؛ مترجرجًا على سطح الماء المضطرب. وثمة سرب نوارس يرفرف على ارتفاع منخفض؛ مقاومًا الريح. قلت في دخيلتي “لا ريب في أن أمرًا ما غير اعتيادي يلوح في الأفق”.

بعد قرابة نصف ساعة هدأ عزيف الريح بغتةً وتوقّفت عربدتها، فنزلت السكينة على قلبي، كأنما انزاح عن صدري حجر ثقيل الوطأة. أما البحر فقد كفّ عن الهياج، وتمكن الصيادون، وأكثرهم شبّان ذوو أجسام قوية، من وصول الساحل بقواربهم، وسحبِها إلى اليابسة، وربطِها إلى أوتاد خشبية، رغم أن التجديف ضد التيار قد أنهكهم. غذّ عدد منهم السيرَ، قانطين، صوب المدينة، حاملين شباكهم على ظهورهم، وفي أيديهم سلالهم، المصنوعة من القصب، تنبئ طريقة حملها عن خلوها من السمك، وعن خيبة سعيهم وراء الصيد ذلك اليوم، بينما انشغل آخرون بالتقاط ما جرفه الموج من أسماك إلى البر قبل أن يتفرقوا، كلّ في وجهته.

كان ريقي ناشفًا، فتمنيت لو أني أعثر على قنينة ماء متروكة في المغارة، وبينما شرعت في البحث وقعت عيناي على عنق قنينة مدفون في الرمل، محكم الإغلاق بغطاء، ما أوحى إليّ أنه ليس مفصولًا عن جسم القنينة. أزحت الرمل بأصابعي على مهل فإذا بي أعثر بالفعل على قنينة لونها أخضر صنوبري، مملوءة بسائل ذي لون ضارب إلى البني المحروق، يبدو أن أحدهم دفنها وهو ثمل ونسيها، وقد خمنت أن السائل نبيذ محلي من النوع المصنّع في المنازل. رفعت الغطاء عن فوهة القنينة بعناية، وشممتها بطرف منخريّ، فلفحتني رائحة مغرية، أقرب إلى رائحة السنديان الضارب إلى الفانيلا. أخذت أول رشفة صغيرة وتركتها تتدفق على لساني، فشعرت بسلاسة طعم النبيذ، ثم أتبعتها برشفة ثانية أقوى منها جعلتني أشتهي سيجارةً، فأخرجت علبة سجائري، وطفقت أرتشف مع كل ضربة دخان في رأسي رشفةً أقوى من السابقة، وكنت حريصًا على مراقبة المركب الشراعي، الذي صار يقترب أكثر فأكثر.

لوحة: زهير دباغ
لوحة: زهير دباغ

عندما أتيت على نصف القنينة كان المركب قد رسا على المرفأ، وبعد بضع دقائق نزل منه جمعٌ من الرجال وأربع نساء، يتقدمهم رجل ذو شعر كثيف ولحية طويلة مسترسلة تصل إلى صدره تضفي عليه هيبةً، وقد بدا جليًّا أنه زعيمهم من دون منازع. اصطفوا، مثل فصيل عسكري، خلف مصاطب خشبية مثبّتة في رصيف المرفأ على بعد نحو أربعين مترًا عني، وصوّبوا أبصارهم ناحية قلعة المدينة بانبهار يبلغ حد الذهول. لكن الزعيم لم يلبث أن جلس على إحدى المصاطب جلسة رجل رزين ذي صلابة حازمة، وتبعه فتى إلى ميمنته، ثم النساء الأربع على مصطبة مجاورة إلى ميسرته، وفجأةً لفت انتباهه الرمل المائل إلى الصفرة على بعد خطوات عنه، وأخذ يحدّق فيه باستغراب شديد، وقد بدت عيناه تحت حاجبيه ثاقبتين تتأججان شراسةً، ثم نهض من مكانه، مكفهر الوجه، واتجه إلى الرمل، وجثا على ركبتيه، ومال بجذعه إلى الأمام وغرف حفنةً منه، وراح يتفحصها ويشمّها وهو ينثرها من بين أصابعه.

كان الرجال مفتولي السواعد، يرتدون ثيابًا من عصور غابرة، ويتقلّد بعضهم السيوف، وفي أيدي بعضهم رماح تبلغ مثل قاماتهم طولًا، ويحمل عدد منهم صرراً وصناديق بأحجام مختلفة، خلت أنها معبّأة بالجواهر، عدا واحد يرتدي لباس صيادي السمك، أرجح الظنّ أنه انضم إليهم، أو قبضوا عليه في البحر، وثمة اثنان يحمل أحدهما بوقًا عاجيًّا ضخمًا، ويمسك الآخر بسلسلة حديدية تنتهي إلى ربقة تحيط بعنق فهد ينحدر من زاوية عينيه خطّان أسودان، وكلاهما يتقلد سيفًا أيضًا. أما النساء فقد كانت ثلاث منهن هيفاوات، تشي رقّتهن الأخّاذة بأنهن أميرات، إحداهن صبية غضة العود، يانعة مثل ثمرة تين في أول نضوجها، تبرز أنوثتها كأجمل ما تكون عليه النساء، واثنتان في نحو العشرين لا يقللن عنها أنوثةً. كنّ يغطين الأجزاء العليا من رؤوسهن بأحجبة معقودة من الخلف، ويتركن شعورهن الضاربة إلى الحمرة مسبلةً على أكتافهن، ويرتدين فساتين طويلةً ذات أكمام غنية بالزخارف، فوقها شالات مطرّزة بنقوش مذهّبة وحبّات خرز وحواشي مشرشبة، وينتعلن أحذيةً من غير كعوب أقرب ما تكون إلى الصنادل، في حين كانت الرابعة دون الخمسين من عمرها، لا تزال تحتفظ بقسط وفير من الجمال، تطوّق رأسها بإكليل نصف دائري، وتلبس فوق فستانها عباءةً موشّاةً بالزخارف أيضًا، وتلفّ رقبتها بوشاح محلّى بالزهور. وقد جعلني مظهرها أكوّن انطباعًا قويًّا بأنها أميرة. أما الفتى فكان وسيمًا، ذا أنف يميل إلى الدقة، ويحزم شعره الذهبي، الذي يغطي أذنيه، بحزام أبيض محاك.

خرجت من المغارة، في حذر بالغ، متحاشيًا النظر إلى الجمع، ومترددًا بين أن أمضي، على هوني، إلى حال سبيلي كأني ما رأيتَ شيئًا، وبين أن أهرب مسرعًا. لم تكن المسافة، التي تفصلني عنهم، تسمح لي بالنجاة إذا ما لذت بالفرار، فانعطفت إلى اليمين، وسرت بقدر ما أستطيع من بطء، ثم أطلقت العنان لساقيّ، وفجأةً تناهى إلى سمعي من الخلف صوت عظيم للبوق يتردد صداه طويلًا بطيئًا في الفضاء، فأدركت من فوري أنهم يأمرونني بالتوقف. لم أستطع مواصلة الجري، أحسست بأن ساقيّ تخوران، وأن قلبي يغوص بين أضلعي، ويكاد يتجمّد. أدرت على عقبي؛ رافعًا ذراعيّ إلى الأعلى مثل أسير، وكأن عشرات البنادق مسددة إليّ. أومأ لي الزعيم بأن أتقدم إليه، فازداد الخفقان في صدري، وتملكني الفزع. “يالها من ساعة شؤم، أيّ شغف أحمق أخرجني اليوم إلى ساحل البحر؟” قلت لنفسي.

كانت عيناه تضطرمان بشرر الغضب، كأنه محارب عائد توًّا من معركة خاسرة. امتثلت له صاغرًا، وخطوت باتجاهه لاهثًا، ومثّلت أمامه أشبه بمتهم أمام قاضٍ، وأنا مشتت النظر بين هيأته المهيبة والفهد والبوق المحزّز والنساء الحسناوات اللائي يخطف جمالهن الأبصار، وقد راودني إحساس بأنني رأيت أصغرهن، ذات الفم الصغير والعينين الزرقاوين الشهباوين والبشرة البيضاء المزيّنة بنمشات صغيرة، في مكان ما ذات يوم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.