رهان الرواية رهان الحرية

الجمعة 2016/04/01
لوحة: نورا درويش

أقدّر أنّ الرهان اليوم سواء تعلّق الأمر بالرّواية أو بأيّ فنّ آخر، إنّما هو على الحرّية مقصدًا له. وهذا أمر يكاد يرتقي إلى مستوى البداهة باعتبار الأدب يحمل هذا الرّهان شعارًا ملازمًا له. لكن يتعيّن قبل اختبار هذا الادّعاء أن ننبّه إلى الفضاء المرجعيّ الذي تتنزّل ضمنه هذه المسألة. وهو فضاء متعدّد المستويات وغير ثابت بالضّرورة نظرًا إلى كوننا نستطيع ضمنه أن نستند إلى بعض تمفصلات تاريخ العرب اليوم في سوريا والعراق واليمن مثلًا أو في تونس والشمال الأفريقي عامّة؛ وهذه العودة المخيفة إلى “الدين” لا باعتباره رجاءً أو خلاصًا فرديًّا ـ فهذا من مشمولات الحريّة الفرديّة ـ ولكن من حيث هو خلاص جماعيّ. ولكن مهما يكن من أمر مرجعيّات هذه المسألة فلا غنى في تقديرنا، عن الانطلاق من هذا السّؤال: بأيّ معنى تراهن الرّواية على الحرّية؟ وهو سؤال يفضي بدوره إلى مساءلة بعض النّظريّات الفلسفيّة عمّ إذا كانت غاية الحرّية فيها معقودة على ما هو نظريّ أم على ما هو عمليّ. وبهذا المعنى يمكن أن نتساءل أيضًا: ما هي منزلة الحرّية من التّفكير الفلسفيّ إجمالًا؟ وقبل ذلك: ما هو الوضع الذي يُفترض أنّ الرّواية تتحرّر منه أو هي تحرّرنا منه؟

بيد أنّ التّصدّي لمثل هذا السّؤال قد يضطرّنا إلى استنطاق بعض المواقف الفلسفيّة استنطاقًا تأويليًّا نظرًا إلى كونها لا تستعمل دائمًا مقولة الحرّية استعمالًا صريحًا، بل ترد لديها أحيانًا بشكل ضمنيّ فلا ننتبه إلى قصد الحرّية لديها إلاّ إذا أجريناها مجرى التّأويل. فإذا كانت الفلسفة في لحظتها الميتافيزيقيّة تدّعي أنّها تنشد الحقيقة في حدّ ذاتها فإنّ البرهان بالخُلف يبيّن لنا أنّ “الحقيقة” ليست متوفّرة في المعارف السّائدة خارج إطار الفلسفة. ومعنى ذلك أنّ الأدب مدعوّ إلى أن ينخرط في صراع ضدّ هذه المعارف التي لا تتوفّر على الحقيقة في حدّ ذاتها وإنّما تتوفّر على أحكام أخرى تزعم أنّها الحقائق بعينها.

هذه الآليّة ليست متعلّقة بدلالة كلّية للحرّية، وإنّما أساسًا بإزاحة ما يُعتبر نقيضًا للحرّية، ألا وهو “الوهم”. فهو إذن تحرير إبستيمي (معرفيّ)، ومن ثمّة فإنّ هذه الآليّة لا تعدو أن تكون غير “النّقد”. فأن يراهن الأدب الرّوائيّ على أن يكون حرًّا، هو أن يراهن على تخليص نفسه من الوضعيّة “الأداتيـّة”، أي ألاّ يكون وسيلة لغيره. ومؤدّى ذلك أنّ بقيّة المعارف لا تتضمّن معنى الحرّية لكونها وسائط من أجل غايات توجد خارجها. ويكفي للتّدليل على ذلك أن ننتبه إلى كون المعرفة الأسطوريّة مثلًا منذورة لخدمة غيرها، أي القوى الغيبيّة ـ وقس على ذلك المعرفة الشّعريّة عند العرب القدامى أو عند طوائف منهم ـ فهي إذن غير حرّة لأنّ قيمتها لا تتأتّى من ذاتها. وعليه فإنّ تحرير الأدب مشروط بجعله وحده دون سواه مصدر قيمته. وبتعبير آخر فإنّ عقلًا لا يحرّر نفسه من أوهامه عن ذاته لا يكون حرًّا. وما أكثر أوهامنا عن ذواتنا! وقد لا نحتاج إلى برهنة معقّدة لنظفر بهذا المعنى لدى كانط إذ يكفي أن نستحضر عبارته “لقد أيقظني هيوم من سباتي العميق”. وهل لذلك من معنى سوى أنّ انفتاح العقل على التّجربة هو الذي يحرّره من أوهام كبريائه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.