رهان على الزمن
1
أكتب الشعر لأنه (الوسيط) الأقوى الذي أعبّر فيه، في سياق مشروع روحي وثقافي أشمل، يتضمن التأمّل الفكريّ والبحث الجماليّ والتشكيليّ. عندما تتسكع في هذا المشروع تجد أن التقاطعات الشمسية بين الأنواع أعرض وأهم مما نتوقع. وأن التخصّص في الثقافة العربية خاصةً، مريب، ذلك أن حتى من يزعم تخصّصه وانحناءه على ضرب إبداعي واحد، لا تجده متخصصا به بالفعل، حتى لا نقول شيئا آخر.
وإذا ما اعتبرتُ الشعر، في حالتي، وسيطا أساسيا ضمن مشروع ثقافيّ عام، فأعتقد أني أحاول شعريا النبش في الجوهري والوجودي المبحوث عنه في وسائط إبداعية أخرى. إذ لا يوجد مشروع شعري مفصول عن بحث ثقافي عريض، أو في تضاد معه كما يُلمح الرومانسيون العرب.
2
هذا ما يتوجب على النقاد الإجابة عليه، لكن من هم النقاد وأين هم؟ أصدقاؤنا، خلّاننا، إخوان الصفا ليسوا نقاداً. ربما من المسكنة وبعض المذلّة تنبيه الغافل عما لا يتوجب التنبيه إليه، إذا كان حاضرا بالفعل. ما أعرفه بالتجربة الطويلة الملموسة أن الشعراء الذين تناولهم النقد القليل الجدير باسمه هم من أصدقاء وخلّان النقاد. هذه حالة ميؤوس منها إلى حين.
إن الرهان على الزمن، سيقول القائل، هو رهان الفاشلين شعريا اليوم، رغم ذلك أراهن بالنسبة لي ولثلة من الشعراء مثلي.
3
هذه الجملة يتوجب جعلها أعرض من ذلك، لأن قائليها يُعمّمون الأمر على ثقافتنا الراهنة كلها التي هي حسب رأيهم كتابة خرقاء لا مهمّ فيها. هل صحيح غياب أية كتابة مشرقة ومتميزة فيها، شعراً وسواه؟ لا أظن.ّ السؤال بالأحرى يتوجب أن يكون: القرّاء الرديئون أغرقوا السوق بقراءة خرقاء، من النادر للغاية اللقاء بقارئ بارع صبور فيها.، فهل التقيت في سوق الكتاب المطبوع أو الكتابة الإلكترونية بقارئ حصيف؟
من الصحيح أن هناك اليوم الكثير من الغث الشعريّ، والتسرع، والتوهُّم بالذات الخ لكن ألم يكن الأمر نفسه في كل عصور الشعر العربي؟ صحيح.
4
الصمت هو كتابة ممحوة، وهو موقف. لا علاقة للواقع (الغرائبيّ) كما قيل في صيغة السؤال بكتابة الشعر. إن واقعا أكثر تعقيدا وغرائبية وتقنية كالأميركي لم يخلق ظاهرة كهذه، فهو الأكثر إنتاجا للشعر، قراءً ومجلاتٍ وندواتٍ وأمسياتٍ وعددَ شعراء.
الصامتون اليوم، يكتبون لكن، لعل تباطؤ نشر شعرهم يخلق انطباعا خاطئاً. وهو تباطؤ ناجم عن ثقل تجربة وتأمل، وعدم رغبة بالانغمار في سوق يتساوى فيه للوهلة الأولى الغث بالسمين.