رواية التّاريخ
ليس من قبيل الصدف أن يميل الفيلسوف إلى السرد فيكتب الرواية، كما أن ليس من الغريب أن يزاول المؤرخ السرد وهو يوثق لواقعة من وقائع الماضي أو يؤرشف حادثة من حوادث الحياة، وهذا هو بالضبط عمل الروائي الذي يمارس الكتابة السردية برغبة الفيلسوف ونزعة المؤرخ. وما ذلك إلا لأن الثلاثة الفيلسوف والروائي والمؤرخ ما برحوا يكترثون بالزمان، فهو القاسم المشترك بينهم، متعاملين معه تعاملا سرديا يتعدى حدود الوقت الفيزيقي إلى فضاءات مديدة زمانية لا زمنية تعارض التقييد ولا تقر بالتحييد أساسها الانسياح في التخييل. فتغدو الصلة بين السرد والتاريخ رؤيوية فلسفية وهي تغوص في الفعل الإنساني.
والعلاقة بين الكتابة التاريخية والكتابة الروائية قديمة قدم الفلسفة، ولعل مبتدأها عند هيرودتس الذي ألف أول كتاب في التاريخ فكان الأب الشرعي له. وبالرغم من التطورات التي شهدتها البشرية على طول تاريخها؛ فإن تلك العلاقة ظلت قائمة بدعائم مهمة وأكيدة تجعل أيّ عملية لتوصيفها أو التعريف بها متجهة صوب التناظر الذي به يصبح تسريد التاريخ أو ترخنة السرد واحداً، فيمسي الروائي مؤرخا والمؤرخ روائيا وبوعي فلسفي بالاثنين الإنسان والزمان.
ولعل السر في قوة هذا التعالق بين التاريخ والسرد والفلسفة يكمن في الإنسان نفسه الذي أدرك أن لا غنى لحياته عن السرد وهو يؤرخ لحوادثها، كما أن لا استبعاد للتاريخ والإنسان يبصر واقعه بعين راصدة توثق ما فيه من عجائب وغرائب، فيزداد تمسكه بالتاريخ ويتوثق وعيه بالسرد حتى لا مجال للتنازل عن أيّ منهما.
ولكل من السرد والتاريخ فلسفته الخاصة. ومن طروحات الفلسفة التاريخية المعاصرة أن التاريخ ليس واحدا، فهناك التاريخ الرسمي الذي هو أكثر أنواع التاريخ سيادة، وما ذلك إلا لأنه اهتم بالآحاد كعظماء ومنتصرين ليكون لسان حالهم الذي يصب في خدمة مصالحهم، غير مكترث بالتوثيق للعموم الكادح ولا آبه بتسجيل تضحياته وآلامه. ولذا وصف فالتر بنيامين كل وثيقة من وثائق هذا التاريخ أنها وثيقة من وثائق البربرية.
وقد عبر تودوروف عن هذه المغالطة، فالتاريخ الذي اكتسب وجوده من وجود الإنسان بوصفه كائنا ناطقاً وفاعلاً هو التاريخ نفسه الذي لم يعر أهمية إلى أن يكون المكتوب فيه ناطقا بالحقيقة كون الشيء المهم عنده هو أن يكون المدون التاريخي مقبولا، ولذلك لم تعد لفكرة الزيف أهمية في تدوين التاريخ (ينظر: فتح أمريكا ومسألة الآخر، تزفتان تودوروف، ترجمة بشير السباعي، تقديم فريال جبوري، سينا للنشر، القاهرة، ط1، 1992، ص 62).
هكذا غدا التاريخ الرسمي هاضما لحقوق المجموع الذي جعله متداريا في الآحاد ومسحوبا في ذيله. ليس ذلك حسب؛ بل إنه جعل هذا المجموع مسؤولا وملوما حين ينتكس هؤلاء الآحاد أو يخسرون، وهذه هي الغرابة في فلسفة التاريخ.
ومن التاريخ أيضا التاريخ التبريري والتاريخ الطبيعي والتاريخ النسوي والتاريخ العالمي وتاريخ العائلة وتاريخ الأمومة لباخوفن والتاريخ الجديد لجاك لوغوف والتاريخ الآني لجان لاكوتور وتاريخ الذهنيات لفيليب أرياس وغيرها من التواريخ التي بها تتوكد العلاقة المنطقية التي تجمع الفلسفة بالتاريخ حياتيا وتدعم صلة الإنسان بالزمان سرديا. ولأهمية هذه العلاقة اختلف المنظرون والنقاد الحداثيون وما بعد الحداثيين في الاصطلاح على الإنتاج الكتابي الذي يُمثل به جماليا على تعالق فلسفة التاريخ بالتخييل السردي.
ولأن في التاريخ سعادة تكمن في لا إساءة استعمال فينومينولوجيا الذاكرة التي هي اللحظة الموضوعاتية للذاكرة، اعتمد بول ريكور مفهوم الرواية الكلاسيكية مطبقا منظوره ما بعد الظاهراتي للتاريخ على الروايات: “مسز دالاوي” لفرجينيا وولف و”الجبل السحري” لتوماس مان و”البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست. ولعل الذي جعل ريكور ينحاز إلى الرواية الكلاسيكية هو الزمان الذي هو فيها سيرورة لا منتهى لها، واقفا في وجه الموضات الأدبية مدافعا عن الحدث التاريخي في وجه كل المدارس التي قللت من شأن التاريخ الفردي أو الاقتصادي أو الاجتماعي (ينظر: الذاكرة التاريخ النسيان، بول ريكور، ترجمة وتقديم وتعليق د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1 ، 2009، ص 32 و243).
وفي إطار النسيان والذاكرة ومسألة المحو والغفران طرح ريكور ما سماه “تقاطع الإحالة” بين التاريخ والقصص في الرهان على تصوير الزمان، مبينا أن التاريخ بالمفهوم الكوني للعالم هو الزمان الذي يضعف الأشياء ويوهنها وأن الأشياء جميعا تشيخ عبر الزمان وكل شيء يتلاشى بمروره (ينظر: الزمان والسرد، الزمان المروي الجزء الثالث، بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي، بيروت، ط1، 2006، ص25). وهذا التصور للزمان جعله يرى الأجناس غير منغلقة قائلا “إن عناوينها المؤقتة لا تلزمني مقدما بأيّ تصنيف مطلوب للأجناس الأدبية” (الزمان والسرد، الجزء الثاني، التصوير في السرد القصصي، بول ريكور، ترجمة فلاح رحيم، 2006، ص21).
وعدَّ السرد القصصي مع السرد التاريخي فروعا تنضوي في خانة المحاكاة والكفاح ضد الأعراف السائدة الإليزابيثية والكلاسيكية (الزمان والسرد، الجزء الثاني، ص 33).
واستعمل سيرج دوبروفسكي مصطلح “التخييل الذاتي” ووضعه على غلاف روايته “خيوط” عام 1977 كجنس فرعي ردا على فيليب لوجون الذي استبعد أن يكون في تاريخ الرواية نص روائي قائم على ميثاق تخييلي، لكن فانسا كولونا فرّق بين التخييل الذاتي والسيرذاتي (ينظر: معجم السرديات، محمد القاضي وآخرون، إشراف محمد القاضي، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2010، ص78، 79).
واجترحت ليندا هتشيون مصطلح ‘ميتاخرافة التاريخية” 1989 والذي ترجم أيضا بـ”الميتارواية التاريخية”، وفضَّل الناقد فاضل ثامر تعريبه بـ “الميتاسرد التاريخي”. ويقوم عمل هذا المصطلح على إخضاع “التمثيل القصصي ـالخرافي والتاريخي- لفحص تدميري مشابه في الشكل ما بعد الحداثي التناقضي” (سياسية ما بعد الحداثية، ليندا هتشيون، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، مراجعة ميشال زكريا، بيروت، 2009، ص 87)، والميتاخرافة التاريخية تعني أيضا العودة النقدية للتاريخ أو القراءة التفنيدية للماضي بوعي ذاتي ميتاخرافي في شكل نصوص ساخرة (باروديا) هي شكل من أشكال الاعتراف التي تعيد تقديم الماضي بشكل يجرد التاريخ من كليّته. ومن خلال الشك والنقض والتصوير سننظر للوثائق والسجلات على أنها نصوص ازدواجية فيها إساءة استعمال للتاريخ.
ولا ترى هتشيون أن نظرية الكتابة السردية هي وحدها التي فككت سياسة التمثيل القصصي، بل التفكير النسوي عمل على ذلك أيضا (ينظر: سياسية ما بعد الحداثية، ص141).
وتبنت برندا مارشال مصطلح هتشيون، متأثرة بمنظور هايدن وايت عن “الميتا تاريخ” وعرفت “الميتارواية التاريخية” بأنها “صيغة قوية ممكنة من صيغ الرواية..إنها توحي للقارئ بأنه طالما هو متورط في قراءتها.. يتم تنبيه القارئ أن هذه القصة شأنها شأن كل القصص سوف تحرّف، ثم يطلب منه أن يبقى على وعي بالانحراف وأن يوجه الحكاية المحرّفة نحو نهاية معترف بها” (تعليم ما بعد الحداثة المتخيل والنظرية، برندا مارشال، ترجمة وتقديم السيد إمام، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2010، ص201). وقد اعتمدت هذا المصطلح في تحليل أعمال ثلاثة روائيين هم فرجينيا وولف وفيندلي وسلمان رشدي.
وليس القصد في الميتارواية التاريخية التخلص من التداخل بين التاريخ السياسي والنص الإستيطيقي وإنما القصد، بحسب مارشال، هو رفع درجة هذا التداخل، مؤكدة أن بالذاكرة المضادة تكون سياسة الهوية تجليا من تجليات ما بعد الحداثة فيها ينظر لهوية المرء بوصفها نقطة افتراق سياسية وبما يسمح له أن يختار هويته بوصفه عضوا في مجموعة أو أكثر.
وعربياً نجد تفاوتاً نقدياً في تبني المفاهيم الغربية أو اجتراح مصطلحات غيرها، لكن بعض النقاد، ومنهم الناقد سعيد يقطين، فضَّلوا الإبقاء على مصطلح “الرواية التاريخية” مع الرفض التام لمركزية النظر فيها إلى التاريخ بوصفه سلطة، مضيفين إليها توصيفات من قبيل “الجديدة والحداثية وما بعد الحداثية”.
أمّا مفهوم “التخيل التاريخي” المطروح علينا ضمن استكتابنا من قبل المجلة والوارد في كتاب د. عبدالله إبراهيم “التخيل التاريخي السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية”، فهو واحد من مفاهيم كثيرة ناقشتها في كتابي “السرد القابض على التاريخ”. ولا أجده موفقاً في إحلاله مصطلحا بديلا عن “الرواية التاريخية”، لأنه يُظهر هذه الرواية وكأن ليس لها تاريخها الأدبي الذي به قدمت “شهادتها الشجاعة عن التاريخ العربي الإسلامي” (التاريخي والسردي، فاضل ثامر، دار ابن النديم، الجزائر، 2017، ص 11)، فضلا عن قالبها السردي الذي به صارت الرواية التاريخية نوعا من أنواع الكتابة الروائية العربية.
ولا يخفى أن مفردات المتخيل والتخييل والخيال استعملتها العرب في نقد الشعر كرديف للصورة التشبيهية والاستعارية اللتين بهما تتحقق الوظيفة الشعرية. ولقد قرن الفارابي وابن سينا التخييل بالوهم، واعترف حازم القرطاجني بالتخييل من باب الممتنع العجيب. وظل هذا الاستعمال معمولا به في نقدنا الحداثي للنصوص الأدبية متخذين من التخييل والمتخيل والخيال اصطلاحات تتمتع بالرسوخ والشمول. أما ما عدا ذلك من اشتقاقات الفعل “تخيّل” ومنه الاشتقاق “التخيّل” فليست سوى تسميات وتوصيفات لكنها ليست اصطلاحات، والسبب فقدانها دعامتي الرسوخ والشمول، فقولنا “تخيل الشيء تخيلا أو كتخيل” أي تصور الشيء وهو في حالة تبدل وصيرورة بينما قولنا “تخيل الشيء متخيلا أو كتخييل” يجعل التخيل راسخا مستقرا بوجود صورة لغوية أصلية تقابلها صورة الشيء الخارجية المتخيلة أو الخيالية التي هي في كل الحالات واحدة غير متبدلة.
والناظر في الصيغ الاشتقاقية “تفعيل/ تخييل وفعال/ خيال ومتفعل/ متخيل” وصيغة “تفعّل/ تخيل” سيجد الفارق كبيرا لان الانزياح في دلالات الصيغ الثلاث الأولى تام يُوحي بوجود تصور ثان قار ومفروغ منه إزاء تصور أول هو الأصل. فقولنا مثلا “المتخيل الشعري” يوحي بدلالة واحدة جامعة مانعة لما صار متصورا بالشعر، أما الانزياح في صيغة تفعل فليس كاملا كونه يعبر عن صيرورة حالة آنية ستتغير حتما وسيطرأ عليها ما هو جديد. لذا يوحي قولنا “التخيل الشعري” أن أذهاننا في حالة تصور استمراري لوضع يجري اعتماله في سياق آني نريد منه أن يتصور بالشعر.
ولهذا وظف النقاد العرب “المتخيل والتخييل” كمصطلحين ينطبق اعتمادهما على جميع الحالات الإبداعية، بينما دلالة “التخيل” تظل مستمرة بحاجة إلى ما يكمل وصف صيرورتها بسبب طارئية اعتمالها ودوامية تغيرها. وأغلب المصادر المشتقة على وزن “تفعّل” تنماز بهذه الصفة بعكس المصادر الميمية واشتقاقات الصفة واسم الفاعل واسم المفعول وبعض صيغ المبالغة. فكيف يمكن بعد ذلك للتخيل المتصف بأنه تاريخي أن يكون دالا على علاقة كتابية وطيدة وراسخة كعلاقة التاريخ بالسرد؟
هذا على المستوى اللغوي أما على المستوى النقدي، فإن هناك مطبات علمية وقع فيها الناقد وهو يريد من “التخيل التاريخي” أن يكون مصطلحا وكالآتي:
– أن الأنواع الأدبية ليست مشكلة في ذاتها وإنما الإشكالية تكمن في التنظير لها ولهذا تبدلت النظريات فمن نظرية الأنواع إلى نظرية الأجناس ومن بعدها نظرية التداخل الأجناسي، وظلت الأجناس الثلاثة الرئيسة “الغنائي/الدرامي/الملحمي” والأجناس المتولدة عنها كالرواية والقصة القصيرة والسيرة وغيرها متداولة نقديا ولا يمكن بأيّ حال مصادرة تاريخها الأدبي أو التشكيك في إبداعيتها ثم استبدالها بواحد آخر يصنعه الناقد على وفق مقاسات منظور مستحدث يتبناه في مرحلة ما، ليجد مثلا أن الرواية التاريخية “استنفدت طاقتها الوصفية”، و”تراجعت القيمة النقدية للتصورات التي عاصرت ظهورها”، وأنها “أصبحت غير قادرة على الوفاء بتحليل موضوعها” (مكانها تاريخ الأنواع السردية) لذا قرّر إحالتها على التقاعد تخلصا “من العثرات التي لازمت هذا الضرب من الكتابة مدة طويلة ” (التخيل التاريخي ، ص 13).
– لو أحصينا المواضع التي ورد فيها مفهوم “التخيل التاريخي” داخل فصول الكتاب الذي يتبنى طرح التخيل التاريخي مصطلحا مستثنين المقدمة، لوجدناها مواضع قليلة لا تدلل على مقصدية التبني للمفهوم ولا تبين جدوى الاصطلاح، وهو ما جعل التذبذب واضحا في توصيف التخيل التاريخي، فمرة يصفه الناقد بأنه قاعدة ومرة ثانية هو طريقة ومرة ثالثة يكون “تخيلا تاريخا للتحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى” (التخيل التاريخي، ص 109) ورابعة يكون مستوى من المستويات (ينظر: التخيل التاريخي، ص 315).
– غياب الحد الفاصل بين وظيفة “التخيل التاريخي” ووظيفة “التخيل السردي” الذي لم يرده الناقد مصطلحا. فإذا كانت وظيفة التخيل التاريخي تتجسد في “أنه يفكك ثنائية الرواية والتاريخ ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة فلا يرهن نفسه لأيّ منهما”، فإن وظيفة “التخيلات السردية هي التحييد بمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية”. وهنا نتساءل كيف تتفكك العلاقة ثم يعاد تجميعها والمتخيل أو التخييل لا يرتهنان لا إلى التاريخ ولا إلى الرواية؟ وما الرابط بين التفكيك والتحييد والأصل في الاصطلاح أن يكون جامعا مانعا؟ ثم كيف تُقصر الفاعلية الأدبية التخييلية على التاريخ بينما يُحيَّد السرد؟
ولا خلاف في أن الفاعلية التخييلية حاصلة في النصين السردي والميتاسردي تجاورا وتجاوزا كما هي حاصلة في النصين التاريخي والميتاتاريخي تطابقا وتقاطعا، والسبب أن الفاعلية التخييلية في الكتابة السردية ليست تحييدية تنتظر التخيل التاريخي لكي ينتقل بها “من موقع جرى تقييد حدوده النوعية إلى تخوم رحبة للكتابة المفتوحة على الماضي والحاضر” (التخيل التاريخي، ص 5)، بل هذه الكتابة هي أصلا رحبة بمختلف أشكال التخييل كالتاريخي والسردي والواقعي والرمزي والفنتازي.
– وبسبب عدم تمكن الناقد من إثبات استقرار مفهوم التخيل التاريخي كاصطلاح انصرف وهو ما زال في المقدمة نحو مناقشة مسائل ثقافية لها علاقة بالسرد والتاريخ كسؤال الهوية الذاتية والهوية السردية والهوية الجماعية والأمم والجماعات التاريخية. ناهيك عن عدم الثبات أيضا في تداول المفهوم، فمرة هو إفرادي “التخيل التاريخي” ومرة هو جمعي “التخيلات التاريخية”.
– أن تفسيره للتخيلات التاريخية بأنها نصوص منشطرة بين الموضوعية والذاتية، أعيد حبك موادها التاريخية ثم اندرجت في سياقات مجازية وأن ابتكار حبكة للمادة التاريخية هو الذي يحيلها إلى مادة سردية (ينظر: التخيل التاريخي، ص 6)، يؤكد أن الفهم الفكري للتاريخ هو ذاته في الرواية التاريخية التي هي أيضا تستل نصاً من نصوص التاريخ ثم تضيف إليه الحبك محولة إياه إلى قصة. وهذا ما تفنده الفلسفة التاريخية المعاصرة ولاسيما فلسفة هايدن وايت التي تقر بأن التحبيك كامن في صلب المادة التاريخية حتى لا وجود لأيّ نص تاريخي إلا وهو سردي. ليس هذا حسب بل إن أرسطو نفسه ما قدّم الفلسفة على التاريخ إلا لأنها تُعنى بكلية الواقع التاريخي متجاوزة بالتخييل الفهم الفيزيقي للزمان تماما كالشعر.
– أما المقولات التي استدعاها الناقد وبدت كأنها له نظرا لعدم الإحالة على مجترحها بول ريكور مثل “إعادة تصوير الزمان/ الإحالة المتقاطعة/ تقاطع السرد والتاريخ/ القصدية التاريخية/ المطابقة” فإنها لم تسعف الناقد في تدعيم مفهومه “التخيل التاريخي” كمصطلح؛ بل بدا بعضها بعيدا وأحيانا مقحما على الموضوع.
– أن الاستعراض الطويل لأقوال النقاد مثل كونديرا وجيمس رستن ومحمد القاضي وسعيد يقطين وواسيني الأعرج وطارق علي في مقدمة كتاب “التخيل التاريخي” لم يضف إلى مفهوم التخيل التاريخي وأجناسيته البديلة عن الرواية التاريخية تبريرا أو تدعيما؛ وإنما بالعكس غيّب هذا الاستعراض المفهوم حتى غدا شبه ضائع في الحديث عن علاقة التاريخ بالسرد والمؤرخ والروائي والرواية التاريخية. وسيتأكد ذلك الغياب أكثر في فصول الكتاب التي انبرت مركزة على الإمبراطورية والاستعمارية وما شاكلهما.
– أخيرا اعتادت الدراسات النقدية في الغرب التعامل مع التخيل أو الخيال أو المتخيل التاريخي، الذي ترجمته واحدة وهي The” “Historical Imagination، كمفهوم يدلل على العملية التي بها يعالج النص التاريخي معالجة سردية، وذلك بدءاً من مبتكره روبن جورج كولنجوود وانتهاء بهايدن وايت وبول ريكور. وبهذا الاشتغال لا تبطل دعوى عد “التخيل التاريخي” اصطلاحا فقط؛ وإنما تتوضح مغلوطية فهمه جنسا سرديا مستقلا، فضلا عن أن سابقية سكِّه مفهوما تجعل كل من يدعي ابتكاره عيالا عليه بالتطفل والانتحال.
رواية التاريخ
بالارتهان المنطقي في الفكر، والارتكان الجمالي إلى التخييل يكون التعالق بين الرواية والتاريخ متمثلا فعليا في صيغة كتابية ذات اتساقات ومقتربات تفصح عن رؤية نقد ثقافية هدفها الظفر بالحقيقة، أو على الأقل السير في طريق البحث عنها. وهذه الصيغة الكتابية هي “رواية التاريخ” التي طرحتها في كتابي “السرد القابض على التاريخ”، كمصطلح يتساوق فيه السرد التاريخي متسقا مع التخييل السردي وبفاعلية ذات وظيفة تمثيلية ضمن قالب روائي يتمتع بالمرونة.
واصطلاحية رواية التاريخ تجعلها تتعدى أن تكون مجرد نوع سردي ينضوي في جنس أوسع منه هو الرواية لسببين الأول استجابتها الطوعية ما بعد حداثية نحو التداخل بين التاريخ كفلسفة والتخييل كفاعلية جمالية، وثانيا الانفتاح ثقافيا على منافذ التمثيل كلها بما يجعلها قادرة على تجاوز التداخل متجهة صوب العبور الأجناسي الذي به يضم قالب الرواية حدود جنس أو نوع أو شكل أكثر من الأشكال السردية فينصهر فيها لتكون الرواية بالعموم جنسا عابرا للأجناس. وهو ما طرحته في كتابي الجديد “نحو نظرية عابرة للأجناس في بينية التجنيس والتمثيل”.
وباحتوائية الرواية لرواية التاريخ تنفتح آفاق الأدب تصويريا وتشخيصيا على مستوى البنية النصية، وتمثيليا على مستوى البنية ما بعد النصية. بيد أن التمثيل الذي أراده ميشيل فوكو نظيرا لفاعلية الفكر ما بعد الكولونيالي سيصبح في “رواية التاريخ” هو الأداة الأهم كنوع من إرادة المعرفة التي تحفر أركيولوجيا في المغيب والمخفي والمهمش، مفككة المركزي والأحادي والفوقي والسلطوي وغيرها من المعطيات التوسعية التي تنطوي عليها الأدبيات الاستعمارية. وهو ما يجعل الوظيفة الجمالية أكثر اتساعا فيجتمع المرجع/ما قبل النص بالتخييل/داخل النص ليكون المتحصل هو التمثيل/ما بعد النص.
ولتوصيف هذه الفاعلية التمثيلية في “رواية التاريخ” وبيان مناحيها المعرفية التي بعضها نظري يتعلق بالتطابق في المفاهيم، وبعضها الآخر إجرائي يتعلق بالتنافذ في ترسيم الحدود بين الأجناس، أو ثقافي يتعلق بتحشيد التداخل في المناطق القرائية أو التأرجح فيما بينها؛ فإننا سنستغور ثلاثة مناح من المناحي التي تنطوي عليها اصطلاحية “رواية التاريخ” وهي:
1- منحى التطابق
تتخذ “رواية التاريخ” من الرؤية الفلسفية قاعدة تبني عليها اصطلاحيتها العلمية، وهي تُمخيل التاريخ وتؤرخن المخيال فتتلاشى الحدود، وتزول الحواجز حتى لا مجال إلا للالتصاق والتساند. وبتوغل السرد في التاريخ ينداح الإنسان في الزمان، لأن “بين كتابة التاريخ وعلم السرد طرف ثالث هو ظاهراتية الشعور بالزمان” (الزمان والسرد، الجزء الثالث، ص 8).
وهذا الطرف الثالث هو الذي يجعل كتابة “رواية التاريخ” تنبع من داخلها حيث لا يتغالب المؤلف وقارئه على البنية النصية شدا وجذبا حسب؛ بل اللحظة شبه التاريخية للقصص هي التي تتبادل الأماكن مع اللحظة شبه القصصية للتاريخ أيضا (ينظر: الزمان والسرد، الجزء الثالث، ص 298)، من أجل إعادة تصوير الزمان، وقد استمدت مقومات التجاذب فيها من داخل أنماط حبكها.
وبسبب هذه التبادلية الزمانية تعامل هايدن وايت مع المدونة التاريخية بوصفها جنسا سرديا فهو إما مأساة أو ملهاة أو رومانس أو سخرية، مضفيا الحيوية على هذه المدونة التي فيها يتم التعبير القصصي عن المادة التاريخية.
وما قطيعة التاريخ والقصص التي بها قال بول ريكور سوى توكيد للانقلاب على مستوى البنية العميقة للنص، فيتطابق إضفاء الصفة العينية مع ظاهرة الرؤية، ولا يقرّ ريكور بالتقاطع إلا لأجل التطابق؛ فالقول “أتخيل” لا يعني “أتوهّم تمثيلا” وإنما “أتمثل إيهاما” لأن التفكير لا يترك التخييل يعمل لوحده، بل يشترك معه في صنع التاريخ الجديد بانفصام عبارة “كان يا ما كان” عن القول “كأنما الماضي..”، أو القول “تخيل كأن” لأن الشيء يصبح صورة لما هو متخيل. واستند ريكور في ذلك على طروحات هايدن وايت عن علم المجاز والوظيفة التمثيلية للخيال التاريخي، مقاربا المجاز بالتمثيل والمماثلة بالمطابقة، فحينما “نتصور أن..” يعني أن الماضي هو ما كان يمكنني أن أراه وما كان يمكنني أن أشهده لو كنت هناك تماما كما أن الوجه الآخر للأشياء هو ما يمكنني أن أراه لو كنت أنظر إليها من الجانب الذي تنظر أنت إليها منه. وبهذه الطريقة يصير علم المجاز الوجه المخيالي للتمثيل.
وهذه المقاربة هي ما تريده “رواية التاريخ” مؤدية وظيفتها التمثيلية من خلال جعل التخييل غاية في ذاته، به نردم التقاطع بين القصص والتاريخ معيدين تصوير الزمان، بعكس الوظيفة التصويرية للرواية التاريخية التي فيها التخييل أداة شعرية وواسطة استعارية تساهم في بلوغ الغاية التي هي التاريخ.
ومسألة استعادة تصوير الزمان جعلت ريكور يعيد فحص فلسفة هيغل الذي وجده “يحصر نفسه بالماضي مثل مؤرخ غير متفلسف” من باب ما سماه “الإغراء الهيغلي” الذي فيه التاريخ تاريخ المؤرخ وليس تاريخ الفيلسوف. ولأن روح العالم يوصل إلى ما سماه ريكور “مكر التاريخ” كونه يجعل ما هو غير مقصود مضموما في خطط روح العالم، استبدل “روح العالم” بـ”روح الشعب” حيث التاريخ السياسي مولود من روح شعب، وعندها لن يكون المكر في التاريخ نتاج اختلاف بين ماض ميت هو مقصد المؤرخ وماض حي هو مقصد الفيلسوف (ينظر: الزمان والسرد، الجزء الثالث، ص 272، 302).
وبغية ريكور من الوقوف إلى صف الشعب هي الحقيقة التي فيها السعادة التي يجدها عبارة عن صفحات بيضاء في التاريخ. أما الصفحات التي يخطها التاريخ ويسوّدها فلا تخدم إلا رجال التاريخ العظام الذوات الفاعلة في التاريخ كما يسميهم هيغل.
وفي “رواية التاريخ” تتحول هذه الصفحات البيضاء التي لم يخطها التاريخ الرسمي إلى سرود بأزمنة أو حقب جديدة هي عبارة عن تزمين أيّ “شبكة منظورات متقاطعة بين انتظار المستقبل وتلقي الماضي وتجربة الحاضر من دون الإلغاء في كلية يتطابق فيها العقل التاريخي مع واقعه” (الزمان والسرد، الجزء الثالث، ص313، والتزمين مفهوم استعاره ريكور من كوسيلك). فيتماثل السرد مع ما يسرده ويكون التاريخ والرواية وجهين لعملة واحدة.
2- منحى التمثيل
أ- التمثيل اللغوي:
- مفردة التاريخ في “الرواية التاريخية” ترد بصيغة وصفية، بينما ترد المفردة في “رواية التاريخ” بصيغة المضاف والمضاف إليه. ومعلوم أن الاضافة تحافظ على صيرورة الوحدة والتلاحم، وكل ما يتصل بذلك من توالد مترادفات تصب في الاضافة نفسها لتكون مفردة “الرواية” متقدمة ومحددة بتواز مع مفردة “التاريخ” بينما تقتضي الصيغة الوصفية في الموصوف “الرواية”والصفة “التاريخية” أن تكون الغلبة هنا للصفة لأنها هي البغية في حين تتبعها الرواية التي هي موصوفة بها وتابعة لمواصفاتها، وهذا بالضبط مقصد الرواية التاريخية التي قدمت التاريخ على الرواية وجعلت الأخيرة وسيلة للأول الذي هو البغية والمقصد والجوهر. ولأن الصفة تتبع الموصوف لذلك يكون التوالي والتتابع والاستلحاق مقتضيات بها ينحسر الاشتغال عند منطقة التخييل بينما يتوسع الاشتغال على منطقة الوقائع ويمتد بكثافة. وهو ما ترفضه أدبيات ما بعد الحداثة التي تناصر أيّ اشتغال يستبدل الاستلحاق والاستتباع بالتجريب واللانمطية في الاستغوار من خلال استلهام ممكنات الوعي التاريخي وإلى أبعد الحدود.
- اسنادية الرواية إلى التاريخ بطريقة الإضافة الاسمية تماثل ما أراده هيغل حين وجه النشاط الفلسفي الذي كان معتمدا في زمانه آنذاك على البحث في تاريخ الفلسفةفقلب هذا الفيلسوف ذلك الاعتماد متعاطيا مفهوم فلسفة التاريخ، وهنا يتوضح لنا الفارق الشاسع بين الصيغة الإسنادية مبتدأ وخبرا والصيغة الاتباعية صفة وموصوفا.
- إذا كنا قد عهدنا إلى الإسناد تحقيقا للسردنة التاريخية؛ فإن ما ستفضي إليه اتباعية الصفة للموصوف هو سرد تاريخي. والأول أي “السردنة التاريخية” هو مربط الفرس الذي به انشغل هايدن وايت لأكثر من خمسة عقود. وبحسب وايت تنزع سردنة التاريخ الأدلجة من التفكير التاريخي استنادا إلى سياسات التأويل التاريخي من ناحية “الانضباط ونزع التسامي” متأثرا في ذلك بفلسفة ماكس فيبر، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن السرد عند وايت هو المهيمن في الخطاب الأسطوري والتخييلي على حد سواء، بدءاً من “الناريم” التي هي أصغر وحدة سردية (محتوى الشكل الخطاب السردي والتمثيل التاريخي، هايدن وايت، ترجمة د. نايف الياسين، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، ط1، 2017، ص 53).
- الصيغة المعروفة في اصطلاح الرواية التاريخية تسلِّم بثبوتية الفعل السردي مقابل امتدادية الفعل التاريخي بما يجعل السرد وسيلة تمثيل للحدث التاريخي الذي يظل هو الهدف والمبتغى، بينما تفكك “رواية التاريخ” هذه المواضعة وتعيد صياغتها في إطار تخييلي يرفع من فاعلية السرد محجما أرشيفية المادة التاريخية بالتمثيل. ولقد حسم كروتشه الأمر حين قال “حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ” وهذه الإعادة في بناء التاريخ بعد تفكيكه هي التي تعطي للتاريخ حيويته وتجعله متجددا ومتماسكا غير هش.
ب- التمثيل الاصطلاحي
ليست “رواية التاريخ” مجرد تسمية فيها نضيف الرواية إلى التاريخ؛ بل هي اصطلاح استدلالي فيه تتم عملية مطابقة الواقع التاريخي بالتاريخ الواقعي من خلال تمثيل القول التاريخي تمثيلا يجعل القول الشعري مفسراً له حتى لا حدود للتصديق والتخييل معا. والأحداث كأقاويل تاريخية يتم تمثيلها بواحد من التمثيلات الآتية: التمثيل الشكلي والتمثيل العضوي والتمثيل الآلي والتمثيل السياقي (metahistorical imagination in miteertucentury ,Hayden white, Europe the johns Hopkins press. Baltimore and London 1973,p13))، وبالشكل الذي يجعل الرواية كما يقول ستندال أصدق قولا من التاريخ.
وبسبب هذا التمثيل لن يعود تعامل الروائي مع التاريخ كتعامل المؤرخ مع الوقائع فيكتب عن حقبة ويغفل متعمدا حقباً أخرى، ولا كتعامل الروائي في الرواية التاريخية وهو يراهن على تصوير الحدث وليس تمثيله؛ بل التاريخ في “رواية التاريخ” عام يعنى بالحركة التاريخية بعمومها فلا يهمل حقبة ويعنى بأخرى.
وبالتمثيل يتمكن الروائي من نقد التاريخ مهشما قلاعه سرديا، كاشفا عن نقاط ضعفه، عارفا مواضع التخلخل فيه، مفسرا علة الوجود والزمان. هكذا يصبح تمثيل القول التاريخي في “رواية التاريخ” سياسة ما بعد حداثية، عليها يتوقف الوعي الذاتي بالأشياء متشكلا بالصورة والقصة والأيديولوجيا (ينظر: سياسية ما بعد الحداثية، ص 111) من خلال واحد من أنماط السرد الحديث الثلاتة وهي: نمط الخطاب المحاكاتي ونمط الخطاب الإخباري ونمط فهم التقنية السردية الذي به يتم الاشتغال على الشكل لنستنتج أن الأحداث كانت وهماً (نظريات السرد الحديثة، والاس مارتن، ترجمة حياة جاسم محمد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998، ص 234).
من هنا لا تعنى “رواية التاريخ” بالتاريخ عناية مضمونية هي عبارة عن أحداث ووقائع حسب بل هي تعنى به أيضا شكليا وتقانيا كأن تحفر فنيا في المسميات محققة الإيهام السردي أو ما يسميه بول دي مان سلبية التخييل. وباتساع التمثيل في التعامل مع التاريخ، شمولا للشكل وللمضمون تكون “رواية التاريخ” قد اكتسبت سمتها الاصطلاحية الجامعة المانعة.
3- منحى العبور
تستمد “رواية التاريخ” صيغتها الكتابية ما بعد الحداثية من نظرية التداخل الأجناسي لكنها تتعدى عملية التداخل بين السرد والتاريخ إلى عملية الانصهار في قالب واحد هو الرواية التي هي جنس عابر للأجناس، وقد استوعبت الفلسفة التاريخية المعاصرة معبرة عن ما بعد حداثيتها بالمساءلة والاستجابة والاستمكان والتأقلم والتضاد والاختلاف. وبالعبور تنداح “رواية التاريخ” في نسيج الروي لكن الاستقراء الفكري يظل أطروحة بحثية بها يقولب الكاتب وعيه الفلسفي معبرا عن هوية سردية، فيستجلب وثائق ومستندات بلورها هو في شكل تاريخ جديد يقوض به هيكلية التاريخ التقليدية الجامدة ويصادرها بعد أن يستنطق خفاياها ويبحث عن مسكوتاتها.
ويصف بول ريكور هذا التعامل السردي مع المعطى التاريخي، بأنه عبور من فكرة علاقة سكونية إلى فكرة عملية دينامية تنطوي على إضافة فعلية إلى النموذج التصنيفي لأن يضفي عليه التعاقب الزمني وأنّ العبور في السرد من خلال المستويات السيميائية (السطح والعمق والمجاز) لا ينتهي بقدر ما يتعرض للمقاطعة، وهو ما يجعل أشكالا سردية جديدة تمر في طور الولادة، شاهدة على حقيقة أن الوظيفة السردية لا تزال قابلة للتحول ولا تعرف الموت. ومن هنا رفض ريكور فكرة أفول السرد، وإذا كانت الثقافات أنتجت حتى الآن أعمالا يمكن أن يربط أحدها بالآخر بصنع المتشابهات العائلية وهي تعمل في حالة الأنماط السردية على مستوى الحبك نفسه فإن البحث عن نظام معين أمر ممكن ثم أن هذا النظام يمكن أن يعزى إلى المخيلة المنتجة (ينظر: الزمان والسرد ، الجزء الثاني، ص45، 104).
وإذا كانت الميتارواية التاريخية، التي هي بحسب ليندا هتشيون ليست جنسا سرديا بل هي شكل من أشكال الرواية ما بعد الحداثية، قد داخلت بين التاريخ والميتاسرد؛ فلأنها رفضت مفاهيم الأصالة الجمالية والإغلاق النصي بالأدوات النظرية ما بعد البنيوية وبالاستراتيجيات الحكائية الخيالية التي تدفع نحو مساءلة التاريخ.
وما كان لهايدن وايت أن يستعمل الميتاتاريخ إلا لكون التاريخ تركيبا ذهنيا مجردا يريد من الروائي لا أن يتخيل حسب وإنما قبل ذلك أن يمتلك رؤية فلسفية، فليست المسألة وجود “متخيل تاريخي” وإنما قبله وجود “متفكر فلسفي” يبني عليه أساسات يستند عليها المتخيل التاريخي، فتجتمع الفكرية بالشعرية ويكون اللغوي التأويلي هو همزة الوصل بينهما.
والتأويل في “رواية التاريخ” منهج ينزع إلى مقاومة فكرة الاكتفاء بالتاريخ وحده. لأن ذلك يضاد الفطرة السليمة التي ينبغي أن تعبأ بالماضي من خلال الحاضر فهما للمستقبل.
وبالعبور من التاريخ إلى التخييل تكون رواية التاريخ قد انفتحت على الفن والفلسفة بلا انغلاق ولا تحكّم في المعاني التي تظل دوما مرجأة وليست نهائية. وكذلك اللغة ليست فردية خالصة في التعبير عن وقائع نستند إليها ونحن غير مطمئنين إلى حقيقتها، والعبور في “رواية التاريخ” ليس تحصيلا تأويليا يراد منه التصديق أو عدمه وإنما هو تدليل الغاية منه التأويل الذي به يصبح الروائي مفكراً وتغدو روايته استفزازية لذهن المتلقي بالتمثيل الذي يجعل رواية التاريخ تتسم بالعابرية الفنية كتعبير عن موضوعية التزمين ما بين ماض هو حاضر وحاضر هو ماض، وماض وحاضر يتشكلان في القادم (المستقبل) الذي هو الآخر ليس نهائيا في ارتباطه بالماضي وارتهانه بالحاضر.
وقد تكون الاستفزازية متمثلة بديالكتيك التساؤل الذي به تتزحزح ثوابت التاريخ وتتخلخل مواضعاته، فيبدو كأنه متاهة لكن الذات تقف خارج فعله، متحررة من الخضوع له، ناظرة إليه كفضاء لا زماني بإرادة قوة نيتشوية وبتفكيكة دريدية وبجينالوجية فوكوية.
ولا يقتصر العبور في رواية التاريخ على التجنيس وإنما يشمل تداخل البعدين الكتابي والقرائي. الذي يجعل التأويل مدججا بذاكرة مضادة وبرؤية مناورة وواعية، فلا يعود المقروء تركيبة كتابية واحدة هي مجرد واسطة بل تركيبة متشظية هي الواسطة والمرمى معا.
فتغدو الوظيفة التمثيلية في “رواية التاريخ” وظيفة تأويلية تتعدى الميتاتاريخ والميتاسرد عابرة إلى الميتا فكر مما تسميه هتشيون ومارشال “التورط” الناجم عن اندماج المتخيل التاريخي بالواقعة السردية فيكون المتحصل إيهاما سرديا هو بمثابة تاريخ مستعاد. ولا يمكن لنا إعادة كتابة التاريخ ما لم نتعامل معه تعاملا إبستيميا كوحدة معرفية نتحكم في زمانها منقحين ومسترجعين ومستبقين وكاشفين ومستحضرين وكل ذلك من دون تقليد أو خمود.
وفعالية المتخيل التاريخي لا تعتمد على منتجها ومتلقيها حسب؛ بل على قدرة المتخيل نفسه في المناورة بين الشكل والمضمون أيضا، فيصبح الميتاتاريخ والميتارواية سواء بسواء، بمعنى أن الانحراف المعياري في الارتكان إلى عناصر السرد الروائي هو نفسه الانحراف المعياري في الاعتماد على المعطى التاريخي بحثا عن فجوات أو ثغرات، منها ينفذ السرد إلى التاريخ فيظهر ما خبأه الأخير عن الأنظار.
من هنا تصبح “رواية التاريخ” كتابة منتفضة في بعديها السردي والتاريخي، ليس فيها تعال ولا حتمية؛ بل هو تحشيد لا فرق فيه بين عمل الفكر وحتمية الصدفة واعتمال النسيان.
وبمنحى العبور تتمكن “رواية التاريخ” من أن تتعدى خرق المنطق التاريخي إلى التمادي في التخييل السردي بوحا وتفنيدا ونفضا وتضادا.وعندها يكون الإيهام قد وصل بالتاريخ حدا تم فيه استجوابه بوصفه متهما يراد إثبات إدانته.
وتعد رواية “كائن الظل” لإسماعيل فهد إسماعيل مثالا للرواية العابرة للأجناس، التي فيها تنصهر رواية التاريخ متمظهرة كفاعلية تمثيلية، تبدأ من المفتتح “نادرا ما يجد كاتب رواية ما نفسه ملزما بذكر مراجع استعان بها لكتابة نصه”. وفي هذا القول إشارة مهمة توجز ما كنا قد قدمناه عن العلاقة الصميمية بين السرد والتاريخ اللذين يتغلغل كل واحد منهما في الآخر حتى لا تعود مع هذا التغلغل حاجة لذكر مراجع تاريخية أو تحديد تقانات سردية.
وبطل الرواية وساردها باحث يحضر رسالة في “بواعث العجب في حياة أشهر اللصوص العرب” وما بين الحلم واليقظة يظهر له فجأة حمدون بن حمدي كشبح أو ظل وهو حرامي بغداد المشهور وفي جعبته حقائق محتها كتب التاريخ، فيقوم بوضع تلك الحقائق أمام أنظار الباحث في شكل مخطوطات وكتب كانت قد فقدت من المكتبات بسبب ما فيها من شواهد تبين أن للصوص أساليبهم وحيلهم كما أن لهم مواقفهم النبيلة ونوادرهم وكرمهم (ينظر: الكائن الظل رواية، إسماعيل فهد إسماعيل، دار الهلال، القاهرة، 1999، 24).
ومما مارسه الكاتب من نقض لثوابت التاريخ انه جعل مالك بن الريب شيخ اللصوص، وهنا يتصاعد الحبك وقد صار الباحث مصدوما فكتب التاريخ التي قرأها لم تظهر هذا الشاعر إلا بمظهر ممتاز كأول شاعر رثى نفسه. وهنا يخرج اللص نسخة من كتاب “أشعر شعراء اللصوص وأشهرهم مالك بن الريب حياته وشعره” كوثيقة تاريخية كانت في ما مضى متوفرة في دكاكين وراقي بغداد لكنها في زماننا مغيبة. أما ديوانه فيتم تغييبه أيضا “.. لسنوات طوال من صدر العصر العباسي أدرجته رقابة الكتب على قائمتها السوداء فصودرت نسخ الوراقين ومنع تداولها في أوساط العامة اعتقادا من أولي الأمر أن ابن الريب محسوب على الأمويين” (ص86).
هكذا تصدم رواية التاريخ قارئها، فيشعر أنه واقع في كابوس يستعصي تصديقه “أحسستني أخوض خارج إرادتي سباقا كابوسيا لم يصادفه إنسان من قبلي” (ص 109)، فليس التنقل في غياهب التاريخ المجهولة أمرا مسليا لأن فيه من التزييف ما يجعل المرء حائرا متوجسا، كما حصل مع السارد الذي ظل مترددا بين أن يهرب من الزمان “وضعك بأمان ما دمت خارج الزمان” ص126، أو أن يكون مجرد ظل لا يؤثر، بيد أن الاحتمالات كلها تظل مفتوحة من خلال تساؤل فلسفي يطرحه السارد على نفسه وبه تختتم الرواية “بصرف النظر إن كان ابن حمدي أم أنا، لماذا الإصرار على فصل الخيال عن الحقيقة” (ص 130).
وبهذا يكون الكاتب قد صنع من رواية التاريخ تاريخا جديدا، فيه يجد القارئ الفرصة سانحة لإعادة التفكير في التاريخ الإسلامي عموما والعباسي تحديدا. فالتاريخ ليس أحداثا فقط بل هو قيم مكانها وعينا الجمعي. وإذا كان النسيان يمحو فعل الماضي؛ فإن الذاكرة تخط غيره متضادة مع النسيان وبذلك يظل الفضاء الكتابي لا نهائيا، تتكاثر فيه اللاحقائق كالفئران كما يقول كونديرا (ينظر: الستارة، ميلان كونديرا، ترجمة معن عاقل، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2015، ص152).
بانتهاج هذه المناحي التمثيلية يكون مصطلح “رواية التاريخ” قد ولد ولادة طبيعية، كاستخلاص موضوعي لمجموعة رؤى نظرية وتصورات إجرائية.
ومعروف أنّ لكل اصطلاح حاضنا ثقافيا يهيئ لاستقباله أما كشكلية أجناسية أو كموضوعية فكرية، والحاضن الذي ينطلق منه مصطلح “رواية التاريخ” هو نقض الثقافة المتروبولية مع المراهنة على نجاعة اللاتمركز في استعادة محورية الأطراف، لتكون ذات ثقل مادي ومعنوي يستنبذ الاستقطاب وما فيه من رؤى أحادية وتصورات فوقية منتزعا استعلاءها ومستبدلا ثقاقة الشمول بثقافة التنوع والانفتاح والتعدد حيث لا نخب ولا أصنام.
ضمن هذه الآفاق الرحبة والمستقبلية يستحضر مصطلح “رواية التاريخ” التاريخَ من أجل تحويل صورته كعلم ينطوي على ما حدث فعلا إلى صورته كسرد يحبك ما كان قد حدث كي لا يعود كما حدث فعلا.
ولا غرو أن الاتفاق على اصطلاح بعينه أمر لا يتحقق إلا حين تكون الأطر الفلسفية قد حققت غايتها في توطيد مسارات الحفر الفكري في المتخيل التاريخي على وفق اشتغالات موضوعية وتقانات فنية تواكب متغيرات مرحلتنا الثقافية التي نعيشها وما تزخر به من منعرجات فكرية وانعطافات فلسفية لم تكن طارئة أو آنية، وقد انعكست في جملة كيفيات روائية محورت الفاعلية التقانية بأطر خاصة وجدولت طريقة التعامل مع المادة التاريخية في صياغات تجريبية غير معهودة لتقوم بتشكيلها وقد لبت متغيرات المرحلة ما بعد الكولونيالية وتماشت مع مقتضيات الرؤية النقدية ما بعد الحداثية.
وأهم متحصلات الاتفاق على اصطلاح ما لهذه الرؤية هو تجاوز اشتغالات السرد الحداثية بكل حيثياتها ومتبنياتها، بهدف الارتفاع بالمادة السردية على حساب النزعة الأرشيفية/التاريخية، وما يستتبع ذلك من تعد على مواضعات التعامل البنائي المعتاد وما فيه من محددات النظر الموضوعي للتاريخ.
وبالنظرية التاريخية المعاصرة يكون الفكر الفلسفي قد تحرر من إطاره المواضعاتي الضارب في الرسوخ والقدم إلى إطار صياغي غير ثابت أهم سماته أنّ المؤرخ صانع حبكات وليس ناقل وقائع.
ولكي تتم استدامة هذا الفكر الفلسفي يحتاج ذلك من الروائي بناء رؤية فنية هي بمثابة إستراتيجية كتابية بها يدشن أنساقا جديدة بديلة عن الأنساق التي كان قد تواضعت عليها الرواية الحداثية الواقعية منها والتاريخية وهي تداهن الفهم المتعالي للتاريخ بوصفة مدونة أرشيفية لا يطالها الشك صلدة وصلبة.
والسرد ما بعد الحداثي يتخطى ذلك كله متسماً بالتجريب الذي به ينقض التنميط ويضاد التعقيد وينفر من القاعدية مجرباً أنساقا بديلة، تعلي الهامش وتهرّئ المركز مستحضرة الذاكرة الجمعية التي فيها المغلوبون والمقموعون والمظلومون هم الصانعون للتاريخ الذين لهم دورهم الخطير المتمثل في مصائرهم المسفوحة ومعاناتهم القاهرة ومسراتهم الشحيحة.