زِينُو بْيَانُو: شعريّة مُطْلَقَةٌ
منذ صدور “البيان الكهربائي” سنة 1970، الّذي وقّع عليه صحبة ماتيو ميساجيي وميشيل بولتو، ما انفكّ زِينُو بْيَانُو عن القيام بأبحاث شخصيّة بعيدا عن الفضوليّين وعن الصّخب. يبدو هادئا من الخارج، لكنّه كالبركان النّائم يحمل لهبا لا يهدأ. كلماته نَفَسُهُ واهتمامه بالأشياء كلها تعبّر عن تناغم غريب بين لغته الفرنسيّة المحضة وفلسفته المشرقيّة أو ربّما الاستشراقيّة. كيف لا وهو يولي للعالم وللواقع وحتّى للتّاريخ اهتماما من نوع آخر، أي أنّه يذهب في عمق الأمور باحثا عن لبّ المعاني.
شاعر ومترجم ومفكّر وجامع مقتطفات شعريّة، زِينُو بْيَانُو المولود بباريس سنة 1950 يعيش منذ بداية السّبعينات حياة عنيفة بقدر ماهي حكيمة في الشّعر. من بين أعماله “قريب بلا حدود” و”اليأس غير موجود” و”عن عالم متأرجح” ومديح صغير للأزرق” عن دار غاليمار للنّشر، ودراسة تحت عنوان “كريشنامورتي أو عصيان الفكر” عن منشورات سوي. كما أنّه مترجم فذّ عن اليابانيّة والهنديّة والصّينيّة والروسيّة. في الحقيقة نعترفُ بإعجابنا الشّديد به ونرغب من خلال هذا الحوار التّعريف به وبأعماله ونظرته الفريدة إلى الشّعر والعالم.
الجديد: من أنت، يا زينو بيانو؟ ربّما يبدو هذا السّؤال غريبا بعض الشّيء، لكنّه شرعيّ فانطلاقا من اسمك ولقبك، تبدو غريبا وكأنّك من عالم آخر مختلف؟
زِينُو بْيَانُو: هو إذن عالم ضارب في الغيريّة. لم يُكْشَفْ إلاّ بالحفر في ما هو حيّ. يمثّلُ الشّعر هنا أبجديّة مُبْهِرَةٌ. مثل سؤال أخير لا نهاية له ولا هوادة فيه. هو بمثابة الأطروحة عن كلّ “ما أنا”، عن كلّ الأزواج الّذين يعبرون القلب والرّوح على حدّ السّواء.
الجديد: من روسيا مارينا تسفيتايفا إلى الهايكيين اليابانيّين القدامى والجدد مرورا بالهند وكتابات الفيدا وصولا إلى القرن الحادي والعشرين، يبدو أنّك تعشق الشّرق. كيف وُلِدَ هذا الشّغف وكيف تعيشه يوميّا؟
زِينُو بْيَانُو: نعم، هو شغف، وهو بدوره يُعلّمني أن أتألّق وذلك منذ رحلاتي الأولى إلى الهند في بداية السّبعينات. إنّها دائما مسألة عدم فقدان “عِلْم التّراجع السّحري” الّذي كان يتحدّثُ عنه هنري ميشو. هكذا يبدو الشّرق بمثابة فضاء مقاومة لكلّ أشكال العبوديّة، إنّه قوّة رَيٍّ.
الجديد: كتابتك النّثريّة ضاربة في العلم والتّعقيد، في حين يمكن اعتبار شعرك مقتضبا حتّى أنّه يطمح للصّمت. كيف تكتب؟
زِينُو بْيَانُو: أبحثُ عن شرائط شعريّة مُطْلَقَةٌ. يبقى الواقع أبدا غير كافٍ. أبحثُ عن نَفَسٍ يمنع اللّغة من الموت. كلّ كتاب من كتبي يحاولُ أن يُشارك في وحدة مُتضاعفة، في نشيد ذي تنغيمات مستمرّة. إن كان الشّعر بالفعل أعلى حالات اللّغة، أفليس كذلك أعلى حالات الحياة، مكان التّساؤلات البشريّة ذاتها؟
الجديد: من هم الشّعراء الّذين أثّروا فيك؟ كيف تتعامل معهم اليوم وما هي مكانة الشّعر في الوقت الحالي، إذ تبدو عبارة هولدرلين عن “الفقر” أو “الحرمان” من الميراث معاصرة لنا؟
زِينُو بْيَانُو: رامبو وأرتو وميشو وشعراء “اللّعبة الكبرى”، كلّ هؤلاء أقرأ لهم وأعيد قراءتهم باستمرار. في أمكنة وأوقات ثمينة ومتوحّشة. حيثُ تتجسّد أمنية هولدرلين وتبدو ضروريّة للغاية جيلا بعد جيل. يوجد شعراء كثيرون آخرون اعتبروا أنفسهم كأبناء “نور معيّن”، وكثيرون آخرون لهم أصوات تتحدّثُ بداخلي وتدلّني على “نقاط التميّز” في العالم.
الجديد: يبدو أنّك توكل إلى اللّون الأزرق حبّا لا مثيل له. صحيح أنّ عيونك زرقاء، لكن ما الّذي يفسّر هذا الاهتمام؟
زِينُو بْيَانُو: يظهر الأزرق بمثابة أخ أبديّ الوجود. يتكلّم في باطن العيون. أزرق بسرعة الحياة الحقيقيّة. يُمكّنُ أن نحلم بصورة صحيحة. كان يقول إيف كلان بطريقة ساخرة “كي أَرْسُمَ الفضاء، يجب عليّ أن أذهب على عين المكان”. يوجد دائما عندي مشروع شعر لا ينفكّ عن بثّ مغناطيسيّته.
الأزرق رمزه المكتمل. نقول بالفرنسيّة إنّ اللذّة زرقاء والحبّ أزرق. وكلّ ذلك يختلج في باطن القلب وفي باطن الكون.
الجديد: توفّي عدد كبير من الشّعراء الكبار الفرنسيّين والنّاطقين بالفرنسيّة خلال الفترة الأخيرة. كيف ترى المشهد الشّعري الرّاهن؟ هل يبدو لك الشّعر مستمرّا أو في خطر؟ هل تساهم التّكنولوجيا الجديدة في موت الشّعر؟
زِينُو بْيَانُو: تصمدُ الكلمة الشّعريّة منذ أورفيوس والفيدا. لديها متنفّس… تمنح منذ آلاف السّنين حدسا نورانيّا، سلطة عليا للتألّق، مئات الأيقونات المفعمة بالحياة، زارعي اليوتوبيا… لا يمكن أن ينقطع هذا التصوّر النّابض للكائنات والأشياء مهما كان الشّكل…
الجديد: إذا كان عليك أن تبدأ من جديد، ما هو الخيار الّذي تُفضّله؟ إن كان بوسعك أن تتجسّد أو تعيد التجسّد في كلمة وفي شجرة وفي حيوان، أيّ منها تختار؟ وفي الختام، إذا كان يجب أن يُترجم لك قصيد واحد إلى اللّغات الأخرى، العربيّة مثلا، أيّ واحد تختار ولماذا؟
زِينُو بْيَانُو: سأذهب بعيدا أكثر، دائما مع رامبو، كي “أُقبّل فجر الصّيف”. سأعيد التجسّد (لكن هل واثق من تجسّدي الآن؟) في كلمة اللاّنهائي وفي شجرة الحور وفي نمر.
سأختار “كريدو” (“اعتقاد”) كقصيدة للاحتفاء والتأمّل والتّنويع. إنّها لبّ عملي.
معتقد
أعتقد
في الحياة في الموت
في الحبّ الكبير الممنوح
أو المقطوع.
أعتقد
في الجاذبيّة الحقيقيّة
في الحنان عديم الرّحمة.
أعتقد
في باطن اللّيل
في باطن المطر.
أعتقد أنّه يجب أن نموت
ثمّ نحيا
أن نموت قبل أن نموت
كي لا نحبّ الموت.
أعتقد في الدّخول إلى الصّدى
في الدّخول
ببداهة
في كامل الشّفافيّة.
أعتقد أنّي غير قادر على كراهيّة
ما فعلتُ.
أعتقد في النّظرة المقلوبة.
أعتقد
أنّ كلّ شخص يمكنه الخروج حيّا من هنا.
أعتقد في ما هو مجمّع
مفتوح
مرتفع
مرتجف
في جزء من مئة من تنهيدة.
أعتقد أنّ كلّ كلمة صحيحة
تأتي من داخل السّماء
وأنّ هذه السّماء
تنفث في أعمق أعماقنا.
أعتقد في الحماسة السّائلة.
أعتقد
أنّه يجب التّدمير
للتّمجيد.
أعتقد في أرتو
عندما كان يزور معرض فان غوغ
بخطوات السّباق
كي ينظر بشكل جيّد
كي يُعيد التّرتيب بشكل جيّد.
أعتقد في ألبيرت أيلر
عندما يعزف في جنازة كولتراين
في توهّج
منكسر
ثائر
في أفق الطّوفان.
أعتقد
مثل كنراد في قلب الظّلمات
أنّه يجب أن نمضي قدما
في عتمتنا الشخصيّة
كي نرى بوضوح
أنّ الارتجاف
لا يظهر أبدا
حيث الخجل
الكراهيّة
الخوف.
أعتقد في العتمة الوحيدة
في اللّحظة النقيّة للّيلة السّوداء
كي تلتقي جُرْحَهَا
كي تُصغي إلى عضّتها الحقيقيّة.
أعتقد في تلك الطّرقات
حيث الجسد يتقدّمُ في الفكر
حيث نُفاجأُ
ضجيج خلفيّة الأكوان
بتلك العيون
الّتي بكاها فينا
اللّيل
بتلك العيون الّتي غسلتها فينا
الحياة .
أعتقد مثل تراكل
أنّنا بإمكاننا أن نشرب صمت الله
أعتقد
أنّنا يجب أن نسكن النّور
بتساؤل طويل
دون جواب.
أعتقد في زوران موزيتش
راسما حزم الجثث
على ورق سيّء
لا يزال يعثر على الحياة
في أعماق المخلوع
في أعماق المتجسّد
في أعماق المُبْتَلَى
المُعَوِّذُ
العموديّ.
أعتقد في كُسور الحمّى
في انتفاضات اللّيل
في جروح الأعصاب.
أعتقد
في وجوب الارتكاز
على الرّيح
في الرّكوع في البحر
وتكريس ذواتنا
إلى ما لا نهاية له.
أعتقد أنّنا يجب أن نفكّر
مثلما يسقط نيزك
مثلما تبكي نجمة – أمّ
يجب أن نتمكّن
من الوعي الحميميّ بمصيبتنا
كي نبدأ
حقّا في الابتسام
كي نُغامر
في أزرق ممّا هو أزرق.
حاوره: هياسنت شابير، والنص العربي خصيصا لـ”الجديد”.
ترجمة: أيمن حسن