سرديات الجائحة
القول إن وجود الأوبئة سابقٌ لتكَوُّن الحضارات الإنسانية يعبر عن الحقيقة، لذلك تعتبر الأوبئة من أهم المؤثرات في تشكيل التاريخ الإنساني وتحديد شكل العالم كما نعرفه اليوم. وعليه، فلا بد أن يكون للوباء حضور مؤثر في السرد. وهنا تبرز العلاقة الثلاثية بين الوباء والإنسان والسرد. فالوباء يشكل مصدراً للإلهام ومادةً موضوعية للسرد؛ الذي يُدوّن قصصياً الوباءَ وتأثيره على الإنسان والمجتمع. وبالمقابل تعيننا قصص الوباء – أو كما أسميها سرديات الوباء – على فهم أنفسنا والعالم من حولنا في أوقات الوباء العصبية. وعلى الرغم من أن البشرية تطورت بشكل مذهل في العلوم والطب والآداب، إلا أننا تناسينا – نحن البشر – أننا ما نزال تحت قبضة تلك الكائنات المجهرية التي لا تُرى بالعين المجردة. ولأننا استصغرنا حجم تأثيرها، صرنا ننغمس في شتى المسالك التي عرفها البشر منذ القدم: بعضنا ينجز ويبدع ويتقدم، وآخرون منشغلون بحربهم على أبناء جلدتهم وبسط سيطرتهم عليهم بدوافع لا نعجز عن اختلاقها إن لم تكن موجودة. هذا اللهاث خلف الهمّ اليومي على مشاغل الحياة ولقمة العيش عند معظم البشر نتجت عنه حالة من “التناسي الجمعي للأوبئة” التي فتكت بأسلافنا منذ بدء الخليقة وما فتئت بين فترة وأخرى تطل علينا بأوبئة تبعث المرض والخوف والموت وتستثير فينا ردود أفعال بدائية من حين إلى آخر.
لنتفق بأن السرد والقصص لا تأتي من العدم، بل هي خليط من التجربة الإنسانية والمعاناة من جهة، وبين العمل التخيليّ والخلق الابداعي من جهة أخرى. لذلك لا بد للسرد القصصي أن يكون متأثراً بشكل مباشر بما تحدثه الأوبئة من آثار على الإنسان وبيئته. والأدلة العلمية تشير بما لا يدع مجالاً للشك بأن وجود الأوبئة سابقٌ لوجود المجتمعات الإنسانية المنظمة. وإن الأوبئة كانت ومازالت تُحدث تغيرات عميقة صحياً واجتماعيا ونفسياً بل حتى سياسياً.
فمثلا وباء الطاعون أو ما يعرف بالموت الأسود (1347 – 1353 م) قتل في قارتي آسيا وأوروبا وشمال أفريقيا ما يقدر بخمسين إلى مئتي مليون نسمة وتسبب بوفاة ما يُقدّر بستين في المئة من سكان أوروبا. هذا التغير الجذري في تركيبة المجتمع أدى إلى نقص في الأيدي العاملة. وبالتالي استطاع العمال القليلون الباقون ولأول مرة استحداث مفاوضات على الأجور وساعات العمل وظروفه بعد أن كان الإقطاعيون يسيطرون على القوى العاملة التي كانت تكتفي بالعمل بقوت يومها أو بنظام السُّخرة. مما أدى عملياً إلى إلغاء النظام الاقطاعي وأدى إلى إعادة توزيع الثروة. وحث نقص العمال على تحسين التكنولوجيا فاختُرِعت مطبعة جوتنبيرغ وطُورَت التقنيات المتصلة بالصناعة والتعدين والحروب بحيث تقلل الاعتماد على البشر. وأيضاً دفع ذلك بخطوات كبيرة في الطب الذي بدأ ينتقل من نظريات جالينوس المعتمدة على أن جسم الإنسان مُكون من أربعة أخلاط. و بدأت محاولات جادة وعلمية لاستكشاف أسباب عضوية للأمراض وطرق علاجها، معتمدين على نظرية المنشأ الجرثومي للأمراض. ومع الوباء أُخترِع نظام الأجنحة المرضية حيث يرقد المرضى المصابون بنوع معين من الوباء أو المرض في أجنحة خاصة بهم. وحصلت تحسينات كبيرة في أنظمة الصرف الصحي ومواراة الجثث والصحة العامة. هذه المفارقة الغريبة ربما تبدو صادمة، لكنّ الموت الأسود فتح أبوابا للحياة والأمل لمن بقي من الناجين.
ولنأخذ مثالاً آخر فالجدري أدى لوفاة خمسمئة مليون نسمة خلال القرن الماضي. ولكن قصة الجدري تمثل أكبر ملحمة انتصار للإنسان على الوباء. فبعد أن جَنَّدت دول العالم رؤوس الأموال والخبرات ونُسقت الجهود الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة في ستينيات القرن الماضي، احتفلت البشرية عام 1979 بأول وباء يتم القضاء عليه من قبل البشر، في سابقةٍ تاريخية لم يتكرر مثلها إلى اليوم.
وعلى مدى التاريخ شكلت الأوبئة وتبعاتها عوامل تغيير فاعلة غيرت جذرياً شكل العالم وارتبطت بشكل وثيق بمعاناة الإنسان، تلك المعاناة التي تعتبر أساساً تُبنى عليه الفنون السردية والشعرية.
واهمٌ من يظن أن الوباء يتحرك ويولد بعيداً عن سيطرة الإنسان. فالتاريخ يخبرنا كيف استغلت بعض الأمم والحضارات الوباء لمضرة الإنسان. فمثلاً تخبرنا المخطوطات بأن السومريين والبابليين عمدوا لتسميم آبار الأعداء. إلا أن أول من استخدم الحرب البيولوجية كما نسميها اليوم على نطاق واسع كان حفيد جنكيزخان القائد المغولي الشرس جاني بيج خان عام 1345. فعندما عجز عن فتح مدينة فيودوسيا في شبه جزيرة القرم ووقف بلا حيلة أمام جدران المدينة الحصينة، لاحظ عندها أن جيشه المنهك بدأ يتناقص بسب وفاة جنوده بالطاعون. قرر أن ينقل الطاعون إلى المدينة الحصينة، فاتخذ من جثث جنوده المطعونين سلاحاً بيولوجيا. فقام بإلقاء جثثهم بالمنجنيق إلى داخل المدينة فوق الأسوار. فما لبث أن انتشر فيها الطاعون معجونا بطعم الموت والهلع. فاستسلمت المدينةُ مرغمةً لسيطرة الغزاة.
وكذلك حين قَدِم المستكشفون الأوروبيون إلى سواحل العالم الجديد في القرن السادس عشر حملوا معهم الوباء. ففي عام 1520 بالمكسيك جلب الإسبان الجدري للسكان الأصليين من قبائل الأزتك وخلال عام قضى الوباء على 90 في المئة من السكان الأصليين.
وإذا كانت الحكمة المأثورة تقول بأن الشعر ديوان العرب، فإنني أعتقد جازماً بأن السرد ديوان الصراع الإنساني على مدى العصور. فالقصة والرواية تمثلان تجسيداً فنياً لتاريخ الوبائيات.
الوباء وسردياته
في حين أن تدوين تاريخ الوبائيات يعطينا حقائق عن الوباء كما لو كانت أشبه بإحصائيات الحروب الجامدة. فمثلاً هناك تفاصيل منشئ الوباء وتدرج انتشاره وإحصائيات المصابين والوفيات وتبعاته الاقتصادية والسياسية. وعلى الرغم من أن هذه الحقائق تساعدنا على معرفة الوباء وآثاره، فإنها تظل قاصرة عن نقل الصورة المتكاملة. وهنا يأتي دور سرديات الوباء التي تركز على ما أسميه “أنسنة تاريخ الوبائيات”. فهي تساعدنا على فهم معاناة الإنسان على المستوى الفردي ابتداًء، ومرورا بمحيطه الضيق مثل العائلة، ووصولاً إلى المجتمع الإنساني الأكبر. والسرديات بطبيعتها تُعنى بالصراع الداخلي والخارجي عند الشخوص. لتنتج عن ذلك أعمالٌ تستدرج شغفنا الفطري للسرد وتعيننا على فهم دواخلنا وبالتالي فهم الدوافع والمبررات لسلوكنا كبشر وقت الوباء.
نماذج عربية
إن الباحث في سرديات الوباء العربية تستوقفه عدة إنجازات سردية. لكن اللافت هو أن الغالبية العظمى من هذه السرديات لا تخرج عن كونها تتناول الوباء كموضوع ثانوي في سياق الحبكة القصصية. ولنستعرض بعض الأمثلة المختارة:
1 - في رواية “براري الحمّى” لإبراهيم نصرالله تخرج الحمّى من مفهومها الجسدي لتتخذ أبعادا فلسفية عميقة، كحمّى المكان وحمّى الزمان وحمّى النفس وحمّى اللون. تلك التي تحيلنا إلى الثيمة الأساسية من الوحدة والاغتراب وقسوة الصحراء بما في ذلك من الصراع النفسي المتأجج. روايةٌ مليئة بالرموز والاستعارات التي كُتبت بلغة شاعرية مرهفة.
2 - ويحضر الوباء حضوراً عابراً يهيئ لما بعده في ملحمة “الحرافيش” للراحل نجيب محفوظ حيث يشكل وباء “الشوطة” الغامض نقطة تحول في حياة عاشور بعد أن اهتدى لاعتزال الناس أثناء الوباء الذي قتل الباقين في القرية. ليعود البطل إلى القرية الخاوية ولكنه يعود سيداً مُهاباً بصفته الجديدة: الناجي عاشور، قبل أن تجرى الأقدار إلى ما لا يحب.
3 - أما رواية “تراب” للكاتب حسين المطوع، فإننا نجد أنفسنا أمام دور مهم للوباء. حيث يعطي الوباءُ الفرصةَ لبطل الرواية لمعايشة الموت عن قرب بفعل الموت الجماعي، إذ يعمل حفاراً للقبور. وبينما يستدعي الموت مزيداً من الموت، فإنه أيضا يوقظ نزعة أقرب إلى النكروفيليا، في جدلية تثير أسئلة أكثر مما تقدم من أجوبة حول هذه الرحلة التي تأخذنا من التراب إلى التراب ونسميها الحياة.
4 - وفي رواية “إيبولا 67” يأخذنا الكاتب أمير تاج السر إلى مرحلة ما قبل الجائحة حيث يعشش الفقر والبؤس على قرية البطل الذي يرتكب خطيئة يظنها عابرة، لكنها ستفتح أبواب طوفان جحيم الإيبولا في القرية لتكون بؤرةً للموت والعذاب. لا تنسى الرواية أن تنقلنا إلى الآمال المخنوقة. فحتى حين تأتي النجدة من الخارج، فإنها لن تفتح أبواب الاستشفاء، بل ستكون مهمتها أن تصبح القرية مقبرةً جماعية خشية أن يهرب أيّ مصاب من موته بعيداً عن المقابر الجماعية.
وبغض النظر عن تفاصيل كل رواية، فإن الجامع الأغلب في هذه الأعمال هو كون الوباء منصةً أو منطلقاً للسرد أو ضمن القصة الخلفية للأبطال. وفي كثير من الأحيان تكون الإشارة إلى الوباء بشكل ضمني، دون الخوض في حيثيات المعاناة الإنسانية سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي للضحايا.
وهذا التجسيد للوباء حيث يكون بطلاً في حبكة الرواية هو ما حاولتُ مقاربته في روايتي “مهاجرٌ في زمن الجُدري”. ولا أدرى إلى أي مدى وُفّقتُ في هذا المسعى، فهذا متروك لحكم المتلقي والناقد. إلا أنني آمل أن يكون هذا النص خطوةً متواضعة في مشوار سرديات الوباء العربية التي ما تزال منطقةً بكراً على السارد العربي إجمالاً. وبرأيي فإن تاريخنا العربي به كنوز من تاريخ الأوبئة التي لم نحسن استثمارها سردياً. فلو نظرنا مثلاً لتاريخنا في منطقة الخليج على مدى القرون الأربعة الماضية لاستوقفتنا محطات ثرية مثل سنوات طاعون بغداد وسنوات الرحمة والإنفلونزا الإسبانية والكوليرا والملاريا والجدري والحصبة وشلل الأطفال. وجُلّ هذه الحوادث عاصرها أجدادنا في فترة ما قبل النفط.
ولعل شُح المصادر التاريخية يرجع إلى صعوبة تحصيلها أو كونها كُتبت بلغة غير العربية مثل الإنجليزية أو الفرنسية بحسب القوى المسيطرة وتدوينات البعثات التبشيرية. كل ذلك يجعل الحفر في هذه المناطق أمراً لا يخلو من التحدي قبالة الكتابة عن ثيمات معاصرة يسهل البحث والكتابة فيها وتلقى رواجاً تجارياً من قِبل المتلقي ودور النشر.
إلا أنني أومن أن تدوينات الوباء سواءً الشفاهي منها أو المخطوط أو المطبوع وُهِبت فرصة أخرى للبقاء والانتشار بفضل التطور التقني ووجود النسخ الإلكترونية مما سهل مهمة الباحث والسارد كثيرا.
فمثلا إذا نظرنا على النطاق الخليجي، فستبرز تدوينات مثل دليل الخليج لزويمر وتقارير “Neglected Arabia and Arabia Callings” كأكثر المصادر موثوقية تاريخياً. ذلك أن تقارير الوباء وإحصائياته تكون أقرب إلى الدقة لانعدام الدافع لدى الكاتب لتزوير الحقائق كونها ليست موقع خلاف عقدي أو سياسي. وهي أحد أهم المصادر التي استعنت بها شخصياً أثناء كتابة “مهاجر في زمن الجذري”.
سرديات أجنبية
بالمقابل يجد الباحث في سرديات الوباء الأجنبية غير العربية عدة نماذج بارزة تمتد من مهد الحضارة الإنسانية ليومنا الحاضر. وسنستعرض بعض النماذج وأهم الرسائل التي نستلهمها منها:
1 - الإلياذة
تُنسب إلى الشاعر الإغريقي هوميروس. ويُرجّح أنها تعود للقرن التاسع قبل الميلاد تقريبا. في هذه الملحمة نتعرف على حرب طروادة. ومسمى الإلياذة مُشتق من الاسم الإغريقي القديم لمدينة طروادة (Eild). تأخذنا هذه الملحمة الخالدة إلى أحداث حرب فتح طروادة بعد سلسلة من الأحداث والتحالفات والمعارك المثيرة. ورد فيها أن أجمنون يأسر ابنة قسيس الإله أبولو وتدعى كريزيس، فتغضب أبولو وتنتقم بأن ترسل الطاعون كعقاب فيضطر أجمنون لرد كريزس فيرتفع الوباء قبل أن يتحالف مع البطل الأسطوري أخيل (Achillis) وفي النهاية تسقط طروادة بحيلة ماكرة. تزخر الملحمة بالكثير من الرسائل والعبر، لكن لعل ما يهمنا هو توظيف الطاعون كعقاب من الآلهة واستغلاله لتبليغ رسالة أخلاقية بأن الجزاء من جنس العمل وأن الطاعون يُرفع عندما يعود الخاطئون لصوابهم. ومازالت الإلياذة مصدراً للإلهام في أوقات الوباء وترسخ أهمية مراجعة وتصويب الأخطاء.
2 - الديكامرون
تسمى أيضا الكوميديا البشرية. وتعود كتابتها إلى سنوات الطاعون في أوروبا في القرن الرابع عشر. نشرها جيوفاني بوكاتشيو عام 1352م. وتروي قصة سبع فتيات وثلاثة شبان يتحصنون في فيلا خارج فلورنسا هربا من الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا آنذاك وتسبّبَ في أكبر وفيات في تاريخ أوروبا. تأخذنا “الديكامرون” على أجنحة السرد في مئة حكاية يتناوب الشبان والفتيات على سردها في الفيلا.
تعلمنا هذه القصص في مجملها عدة أمور منها انتعاش السرد في ظروف الحجر الصحي. وتحدثنا عن تفاصيل النظام الاجتماعي وبواكير عصر النهضة وعن تصورات إعادة الحياة ما بعد الطاعون تماماً كما لو أنها تحاكي ما نمرّ به اليوم.
فضلاً عن التعامل مع المشاعر الإنسانية في أوقات الوباء وأهمية المساواة والعدل، تشير إلى نزعة الزينوفوبيا التي تستعدي وتُشيطِن الآخر في أوقات المحنة والوباء، وكأنها تستشرف ما يحصل اليوم من بعض الخطابات المتطرفة التي تحاول إلصاق وباء كورونا المستجد بالشرق فتظهر مصلحات مثل “الوباء الصيني” أو “الفيروس الشرق أسيوي” في محاولةٍ بائسة لإلقاء اللوم على الآخر المختلف دون سند منطقي واضح.
3 - الرجل الأخير
في رواية الخيال الكارثة هذه تأخذنا ماري شيلبي مؤلفة الرواية الأيقونة “فرانكشتاين” إلى عالم مستقبلي في القرن الحادي والعشرين حيث يلتهم وباءٌ غير معروف العالم. الرواية كتبتها شيلبي إهداءً لروح زوجها الذي غرق قبل أربع سنوات من نشر الرواية سنة 1826م. لكنها تلقت نقداً لاذعاً من السلطات الكنسية التي اعتبرتها “نبوءةً شيطانية” مخيفة عن المستقبل، وظلت تحت تلك اللعنة حتى منتصف الستينات حيث تم اعتبارها من بواكير أدب خيال الرعب.
وتركز الرواية على مفاهيم الصداقة ليس بين بني البشر فحسب، حيث ينتصر البطل “Vernay” مصحوبا بكلبه الوفي مما يجعلها من أوائل الروايات التي تقدم الحيوانات الأليفة كمصدر للدعم في ظروف الوباء الصعبة. كما تلقي الضوء على استجابة المؤسسات الرسمية للوباء، وكيف أن الناس ينظمون أنفسهم في مجموعات من أجل البقاء.
4 - قناع الموت الأحمر
على الرغم من قِصر هذا العمل فإن كاتبها الأميركي إدجار ألان بو يقدم لنا جرعةً من الخيال المنفتح على وعي عميق بالطبيعة البشرية الأنانية. نلتقي في هذه القصة بالأمير “بروسبيرو” الذي يدعو الآلاف من الاغنياء و المتنفذين من سكان القصور ليجمعهم في صومعةٍ حصينة بينما بقية الناس يموتون بوباء قناع الموت الأحمر الذي يقتل ضحاياه بنزيف يغطي أجسادهم كقناع أحمر قانٍ. وإمعانا في التبجح يقيم “بروسبيرو” حفلةً تنكرية في الصومعة في ترف باذخ وسعادة إلى أن يحضر الوباء نفسه الحفلة ليقضى على “بروسبيرو” وضيوفه.
لعل فلسفة الجزاء العادل وتشخيص الوباء في جسد مهيب هو من أهم ما يعطي هذا العمل الخالد ذلك الألق.
5 - “طاعون” ألبير كامو
شخصياً أعتبر هذه الرواية أقرب رواية لواقعنا مع أن أحداثها متخيلة. الرواية الشهيرة كُتبت عام 1942 وتتحدث عن انتشار الطاعون في مدينة وهران الجزائرية إبان الاستعمار الفرنسي. ومع أن كامو برأيي لم يستطع التخلي عن عباءة الفلسفة العبثية/الوجودية، إلا أنه برع في تصوير المعاناة الإنسانية التي تمر بها المدينة التي تغلق أبوابها وتعلن حظر التجول بينما يكشّر الطاعون عن أنيابه ويلتهم المئات من الضحايا الأبرياء. اللافت في الرواية هو شخصية بطل الرواية “الدكتور ريو” الذي يتحرك بإخلاص لأداء واجبه الإنساني رغم خطورة الموقف والإحباطات المتكررة بسبب عدم قدرته على السيطرة على الوباء. وكطبيب، أعتقد أن كامو استطاع أن يجسد معاناة الطاقم الطبي في هذه السردية حيث يقف الطبيب عاجزا عن أداء دوره المنوط به، ورغم كل اجتهاداته يتواصل تساقط الموتى أمام عينيه. الرواية أقل ما يقال عنها أنها أصبحت أيقونة في سرديات الوباء وهي مليئة بإسقاطات فلسفية واجتماعية عميقة.
تصف الرواية بدقة بيروقراطية الأنظمة التي تتلكأ بالاعتراف بالمشكلة وبالتالي يتفاقم الوباء أكثر. كما تصف لنا الرواية ردود أفعال الناس على اختلاف منطقهم وتنافر مصالحهم. فهناك التاجر الذي يحاول استغلال الأزمة تجارياً، الصحافي الذي يريد سبقاً اخبارياً، و”الأب بانلو” المتشبث بتصور غير علمي للوباء، وقاضي التحقيق ومسؤولون حكوميون والمهربون ورجل الشارع الساذج.
كل فرد من هؤلاء له تصوُّره عن الوباء وكيفية التعايش معه، بل وأحيانا استغلاله أبشع استغلال. وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعين عاما على نشرها، فإن رواية “الطاعون” وجدت رواجاً متجدداً حيث تصدرت المبيعات خصوصاً في إيطاليا وبعض دول أوروبا مع جائحة كوفيد – 19 هذا العام.
6 - رواية “Pale Horse Pale Rider“
أعتقد أن هذه الرواية هي من أروع السرديات التي جسدت المعاناة الشخصية الواقعية مع جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918م. وهي مبنية على تجربة حقيقية للكاتبة الأميركية الراحلة كاثرن آن بورتر حينما أصيبت بالأنفلونزا الإسبانية في أواخر الحرب العالمية الأولى. تنقلنا الكاتبة إلى عالم أثيري يتداخل فيه الحلم والمعاناة الجسدية والهلوسات التي كانت تراودها وهي تتأرجح بين الصحو والإغماء، حتى اُعتبِرَت في عداد الموتى قبل أن تتحسن حالتها بشكل غير متوقع.
ترى البطلة في هذيان الحمّى نفسها في الحلم وهي ترشق خطيبها بسهام غير مرئية فتفيق مذعورة لتكشف أن خطيبها قتل في الحرب.
ظلت هذه الرواية القصيرة محتفظة بوجع غضّ رغم مرور حوالي القرن على أحداثها، لتعلمنا التمسك بقيم المحبة والتضحية في أحلك الظروف مما يكشف الجوهر الحقيقي للناس.
سرديات الحرب وسرديات الوباء
أعتقد أن سرديات الوباء هي بشكل ما إعادة نمذَجَة لسرديات الحرب، فكلاهما مُفعم بالصراع والتناحر مع الأعداء. وكلاهما يسفر عن ضحايا.
وكلتا المجموعتين تعتبران محاولةً لاسترجاع الألم الجسدي والشعوري والنفسي المرتبط بتهديد حقيقي للصحة أو البقاء. ولكن لو أردنا المقارنة فإننا يمكننا اختصارها في الجدول الآتي:
وجه المقارنة
سرديات الحرب
سرديات الوباء
الأدوار
جنود يقاتلون ومدنيون يتحملون تبعات الحرب
جميع الفئات مستهدفة بغض النظر عن العمر أو الجنس أو الصحة
المكان
ساحة المعركة (محدودة نسبياً)
كل مكان يتواجد فيه الإنسان (غير محدود نسبياً)
العدو
واحد وواضح
غير واضح وغير مرئي
القتلى
غالبا الجنود وقليل من المدنيين
الجميع مستهدف (المعركة في دارك)
النهاية
طرف منتصر وآخر مهزوم
لا منتصر غالباً، البشر المصابون ضحايا
ولكن وإن اختلفتْ تفاصيل السرد والتحديات وأطراف الصراع، إلا أن سرديات الوباء والحرب ترتكزان على ذلك القلق الوجودي واللاَّيقين بالنجاة. وكلاهما تكون له عواقب طويلة الأمد على صعيد المعاناة الإنسانية والاقتصاد والصحة الجسدية والنفسية، وخصوصاً مرارة الإقدام على المجهول في حرب اختارتك عنوةً ولم تخترها بنفسك.
ونحن نمر بهذه المراحل المفصلية في حياتنا مع جائحة كوفيد – 19، علينا أن نتذكر أن هذه الجائحة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة التي ستتحدى قيمنا وإمكانياتنا كبشر. وأنّ لا سبيل قُدما إلا بتعاون البشرية دولاً ومؤسسات حكومية وأهلية وأفرادا.
وقبل أن نعيش حالة التوجس من عودة وباء في المستقبل، يتوجب علينا – قبل كل شيء – التحضيرُ لسيناريوهات الجائحة القادمة التي لا نعرف متى وأين ستحل ضيفاً ثقيلاً علينا. ولكن حتى ذلك الحين، يبقى لنا أن نستلهم الأمل والقوة والتحدي من تأمل سرديات الوباء كونها خير معين في أوقات الجائحة.