سردية المهاجرين
اكتشفتُ روايات عمارة لخوص منذ أن قرأتُ روايتَه الرائعة “كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك” ( منشورات الاختلاف)؛ كان العنوان لافتاً ومغرياً بما يضمره من إيحاءات رمزية ودلالية، وأحسستُ بحدسي، كقارئ، أنّ الروايةَ التي أنا بصدد اقتنائها من بائع الكتب لن تكون عادية. أحيانا، على القارئ الوثوق في حدسه، لأنّه سيوجهه إلى النصوص الأدبية العظيمة، وهي تلك النصوص التي تمثّل انعطافاً في مسار السرد الروائي (أتحدث هنا عن السرد الجزائري المُعاصر).
في رواية “كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك” تقع جريمة قتل في عمارة بحي إيطالي يعجّ بالمهاجرين. الضحية شاب إيطالي يُلقب بين سكّان العمارة بـ”الغلادياتور” أو “المصارع”، وكان الشابُ معروفا بعنصريته إزاء المهاجرين، وكرهه لكل ما هو أجنبي، فهو من الذين يرفعون شعار “إيطاليا للإيطاليين”.
وقعت الجريمة داخل مصعد العمارة التي يقطنها إيطاليون ومهاجرون من دول مختلفة من العالم (باكستان، البيرو، ايران)، ومع بداية التحريات، تفتح الرواية سردها على شخصيات العمارة، كل يقدّم وجهة نظره المُختلفة حول الجريمة وحول شخصية المصارع.
الشرطي المكلّف بالبحث في حيثيات قتل الشاب الإيطالي كان أمام تحدي اكتشاف القاتل، وما أثار اهتمامي هو طبيعة السؤال الذي طرحه مفتش الشرطة، فبدل أن يطرح السؤال التالي: من هو قاتل الغلادياتور؟ فقد صاغ السؤال على النحو التالي: ما هوية قاتل الغلادياتور؟ صيغة السؤال شكّلت لديّ مفتاحا لتفكيك طبيعة الجريمة التي وقعت في هذه العمارة، وسنكتشف أنّ الجريمة كانت مجرّد خلفية للكشف عن واقع المهاجرين في إيطاليا، الذين يُنظر إليهم بوصفهم مصدر الخطر والتهديد. إنها جريمة “هووية”.
تتهم الشرطة شابا إيطاليا يُدعى “أميديو”، لكن الرواية ستُخفي علينا مسألة في غاية الخطورة، وقد أخفت حقيقة هذا الشاب إلى غاية نهايتها. وقبل الوصول إلى حقيقة القاتل، ستمنح الرواية الصوت لشخصيات العمارة، كلّ يدلي بدلوه حول الحياة في العمارة، ونظرتها المرتابة من إيطاليا، ومن الإيطاليين، من الآخر، من الهوية، من اللغة، من الحياة المشتركة… إلخ.
لقد أعجبني كثيرا البناء المُحكم للرواية، فاعتمدت على أسلوب الحوارية الذي كسّر سلطة الصوت الأحادي الذي كثيرا ما يحتكره السارد؛ في هذه الرواية نقف أمام نسيج متنافر من الآراء حول الجريمة، وحول شخصية الشاب أميديو تحديدا. ستظهر الحقيقة مجرد زاوية نظر. كان أميديو يقول في يومياته “اليوم زاد كرهي للحقيقة ونما عشقي للعواء” (الرواية ص30 ).
تتحول إيطاليا، في هذه الرواية، إلى الذئبة التي وردت في أسطورة تأسيس روما، والمهاجر إلى ابنها غير الشرعي، فكيف له أن يرضع منها دون أن تلتهمه؟ سؤال ذكي هذا الذي طرحته الرواية ابتداء من عنوانها، إذ يبدو أن مدارها هو الكشف عن معضلة التعايش في بلد أوروبي، يتحول فيه المهاجر إلى متهم بجريمة ما.
الهجرة نفسها تتحول إلى جريمة اختراق للنسيج الثقافي الإيطالي، وبذلك تلويث نقائه. إنّ فكرة إيطاليا للإيطاليين، هي فكرة يرفعها اليمين المتطرف الذي يؤمن بنقاء العرق ونقاء الهوية ونقاء اللغة، والتي تعني أنّ الإيطالي المقتول قد ذهب ضحية تصفية من قبل المهاجرين بسبب مواقفه العنصرية منهم.
سنتعرّف على شخصيات عديدة (بارويز منصور، بندتا، إقبال أمير الله، إلزبتا، يوهان…) كلها تتحدث عن الفتى أميديو المتهم بقتل الشاب العنصري، لكن ثمة اتفاق شبه كلي بينها في أنّ هذا الشاب لا يمكنه أن يرتكب الجريمة، فهو إيطالي على قدر كبير من الأخلاق، وفضلا عن ذلك فهو شخص متسامح ومتعايش، إنه الصورة النقيضة للغلادياتور. قال عنه إقبال أمير الله “السينيور أميديو إيطالي متميّز؛ إنه ليس فاشيا أي عنصريا يكره الأجانب مثل الغلادياتور الذي كان يتعدى على المهاجرين ويهينهم بشتى الوسائل” (الرواية ص 49).
المفاجأة الكبيرة التي أخفتها لنا الرواية أن هذا الشاب الذي يدعى أميديو ليس إلا الشاب أحمد وهو من أصول جزائرية، هاجر إلى إيطاليا هربا من الإرهاب الذي كان يعيث إجراما في الجزائر في سنوات التسعينات. يتحول أحمد إلى أميديو، ويتمكن من الاندماج في المجتمع الإيطالي حتى أنّ الايطاليين أنفسهم لم يميزوه عن أبناء جلدتهم.
هنا نجد أن رواية لخوص طرحت مشكلة المهاجر من زاويتين: من زاوية صعوبة الاندماج في المجتمع الإيطالي (بالنسبة إلى شخصيات أخرى ظلّت تعيش في الهامش كفئات معزولة تعاني من الرؤية الدونية للإيطاليين)، ومن زاوية القدرة على التكيف والاندماج (في حالة شخصية أحمد) هذا الأخير الذي كان يُنظر إليه على أنه إيطالي أبا عن جد.
المهاجر أو الصورة المصطنعة للعدو
في روايته “القاهرة الصغيرة” (منشورات الاختلاف)، يستمر لخوص في نفس النهج، أي الكتابة عن المهاجرين العرب في إيطاليا، وهذه المرة في حي يقطنه المهاجرون يسمّى بالقاهرة الصغيرة. يستدعى بطل الرواية “عيسى” (وهو اسم مستعار) من قبل المخابرات الإيطالية لأجل مهمة حساسة وهي التجسس على المهاجرين عبر الاندماج معهم، وهذا بعد أن تأكدت المخابرات الإيطالية من احتمال قيام أشخاص مشبوهين من العرب بعملية إرهابية كبرى في إيطاليا.
يتحول الاندماج، في رواية “القاهرة الصغيرة” إلى مهمة أمنية، تقتضي تحول البطل من هوية إيطالية إلى شاب تونسي ومسلم (كان عيسى يقول “في المحصلة صرت شخصا آخر”، (الرواية ص 9)، سيقع في حب زوجة أحد المهاجرين تدعى “صوفيا”، هذه الأخيرة التي كانت مولعة بأبطال السينما الرومانسية وجدت نفسها تقع في حب عيسى التونسي. وقع اللقاء بينهما على إثر تعرضها لتحرش عنصري من قبل رجل إيطالي عنصري وصفها بالمومياء المحجبة وبالإرهابية وطالبها بالعودة إلى وطنها أفغانستان (الحقيقة هي من أصول مصرية)، لتستعيد رواية “القاهرة الصغيرة” نظرية “إيطاليا للإيطاليين”.
يتمكن عيسى من الانخراط في مجتمع المهاجرين، وعلى عكس أحمد في رواية “كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك”، فعيسى هو إيطالي تحول إلى تونسي، وأحمد جزائري تحول إلى إيطالي.
تنتهي الرواية، بحقيقة أنّ المعلومات المتعلقة بخلية إرهابية تنشط في حي القاهرة الصغيرة مجرد تمرين أمني ذهب ضحيته عيسى الذي اكتشف بأنه لم يكن إلا فأر تجربة لاختبار مدى نجاعة الإجراءات الأمنية للمخابرات الإيطالية. تتحول القاهرة الصغيرة إلى مجرد ركح مسرحي لاختبار سيناريوهات الإرهاب. هل يريد لخوص أن ينبهنا إلى مسألة أساسية وهي أنّ الحرب الدولية على الإرهاب قد تكون مجرد مسرحية، يُكتب نصها داخل مكاتب القرار السياسي في الدول الغربية؟
صراع الهويات.. الكوميديا السوداء
في روايته “صراع حول خنزير طلياني في حي سان سالفاريو” (منشورات البرزخ)، والرواية حسب علمي لم تترجم إلى العربية بعد، يؤكد لخوص مرة أخرى بأنه صاحب مشروع روائي، وأنه صاحب خط سردي، لم يحد عنه، وهو الاشتغال بقضايا الهجرة والمهاجرين وواقع العلاقات بين الأوروبي والآخر المهاجر.
في هذه الرواية نلمح أسلوبا ساخرا ميّز أجواءها، ففي حي من أحياء روما، تقع واقعة غريبة وهي دخول خنزير إلى قاعة صلاة شيدها المهاجرون المسلمون في الحي، وقد تم تداول فيديو عن مشهد الخنزير وهو يجري داخل قاعة الصلاة، الأمر الذي أثار غضب المسلمين في حي سان سالفاريو.
وعلى اثر انتشار الفيديو على اليوتوب بدأت بوادر صراع بين المسلمين المهاجرين والإيطاليين الذين رفضوا أصلا فكرة بناء مسجد في الحي؛ فبالنسبة إلى المهاجرين فإن الفيديو هو استفزاز حقيقي لمشاعرهم واعتداء على مكان مقدس باستعمال حيوان مدنس في الديانة الإسلامية، فالفاعل لا يمكن أن يكون إلا أحد العنصريين الإيطاليين الذين يريدون إشعال حرب دينية في الحي، وما غذى هذه الحرب الوشيكة هو كراهية الإيطاليين العنصريين للأجانب المسلمين، فهم ليسوا أكثر من إرهابيين جاؤوا إلى إيطاليا لأجل غزوها واحتلالها.
“إنزو” هو بطل الرواية، يعمل إنزو صحافيا في جريدة إيطالية محلية ومغمورة، وتحت إدارة رئيس تحرير وصفته الرواية بالرومانسي والحالم، فهو مازال يؤمن بقوة الصحافة في تغيير العالم، وقلب الأنظمة السياسية، ونموذجه الكبير هو جريدة “الواشنطن بوست” التي فجرت قضية الووترغيت التي أطاحت بحكم نيكسون 1974. مشكلة إنزو أنّ رئيس تحريره يطالبه باستمرار بالبحث عن سبق صحفي مثير من شأنه أن يرفع من شعبية جريدته المغمورة، وأمام الإلحاح اليومي والمستمر اهتدى إنزو إلى فكرة غريبة وهي: الصحفي الحقيقي هو أيضا ذلك الذي بإمكانه صناعة الأحداث واختلاقها. ما يحتاج إليه هو بالذات ممثل مُحترف، وقد اهتدى إلى صديقه “لونسيانو تيرني” الذي كان أيضا مقلدا للأصوات، ليخوض في مغامرة صناعة الأحداث وإقناع رئيس تحريره ثم القرّاء بأنّها أحداث ووقائع وشهادات حقيقية.
من خلال هذا العرض البسيط، ينبهنا لخوص إلى مسألة خطيرة، لنتخيل أنّ ما ينقل إلينا من أخبار في القنوات المحلية والعالمية مجرد تمثيليات لا أساس لها من الواقع؟
نفس الفكرة وجدتُ أمبرتو إيكو قد طرحها في روايته الأخيرة “العدد صفر”.
لم تتوقف مهمة إنزو عند كتابة تقارير صحفية عن جريمة قتل وقعت بين عصابتين من المهاجرين، بل سيلعب دور الوسيط بين المهاجرين والإيطاليين تفاديا لنشوب أيّ صدام دموي بينهم على خلفية صور الفيديو عن الخنزير في قاعة الصلاة.
سنكتشف في الأخير أنّ ذلك الفيديو كان فقط من عمل مجموعة من المراهقين المشاغبين، والذين لم يقصدوا إهانة مكان مقدس، بل حدث كل شيء بالصدفة، دون خلفية الإساءة إلى مكان مقدس عند المسلمين.
نفهم من خلال هذه النهاية المفاجئة، إلى أيّ مدى يمكن أن تقوم الحروب بسبب إساءة فهم متبادل بين الأطراف المتصارعين؛ فالإعلام اليوم، خاصة الجديد، أصبح يشكل مصدرا من مصادر تعميق الهوة بين المهاجرين والأوروبيين، فالمهاجرون هم ضحايا للصور الإعلامية التي نمذجتهم في قوالب مكتملة فصوّرتهم في شكل الخطر الذي يتهدد أوروبا ثقافيا واجتماعيا وأمنيا.
في الأخير، مازلتُ على قناعة بأنّ ما يكتبه عمارة لخوص هو مشروع سردي جد متميّز، فهو لا يحرص فقط على إمتاع القارئ، بل يحرص أيضا على إثرائه معرفيا، فرواياته لا تخلو من مرجعيات أنثروبولوجية وثقافية وأدبية وفكرية أعطت عمقا كبيرا لها. ربما يرجع ذلك إلى تكوينه الجامعي، فهو باحث في الأنثروبوولجيا الثقافية وقد ألف أطروحة دكتوراه في إيطاليا عن المهاجرين.