سلام ميلياغروس
لجأ الشاعر ميلياغروس في العديد من المناسبات إلى أسلوب كتابة الشواهد الأبيات على شواهد القبور لكي يصف سيرته المهنية، وكأنها محفورة على قبره بعد وفاته. وفي إحدى الإيبيغرامات هذه لجأ إلى أسلوب تحية المار بقرب قبره طلباً لرد التحية والوداع من الدنيا، ولكن بطريقة مبتكرة غير مسبوقة، حيث يودع ميلياغروس المارين بقبره باليونانية ولكن ليست وحدها، بل أيضاً بلغتين ساميتين:
” إن كنت سورياً: "سلام"
إن كنت فينيقياً "نيديوس"
إن كنت إغريقياً "خايري".
وعلى الرغم من أن هذا السلام قد يبدو من الوهلة الأولى كخروج مسرحي استعراضي في عزاء تأبيني للذات، فإننا إذا تعمقنا في نماذج ميلياغروس الأدبية والتأبينية، سنخرج برؤية أهمّ وأوضح، تجعلنا نقدر هذه الصياغة أكثر، ونعجب بأصالتها وتفرد أسلوبها.
من المعتاد في تقاليد المدافن ونقش الشواهد التوجه بالصيغة الخطابية للمارين بالقبور، ولكن القصيدة ها هنا تمثل امتداداً أدبياً لتوجّه معيّن، ونتيجة لتطور كاتبي شعر الإيبيغراما السابقين لميلياغروس. فقد سبق وحدث أن استعملت الأعراف التأبينية لتطرح السيرة الذاتية للمتوفى، ويفترض أن ميلياغروس قد جاء تالياً هنا من هذه الناحية. فكأنما هؤلاء الأدباء يتحدثون معنا عبر القبور التي نقش على شاهدتها إيبيغراما من هذا النوع، كما لو أنهم يلخّصون بشكل خيالي قصة حياتهم تتلوها روحهم الهائمة في عالم الموتى. ولكن الفرق الهام يكمن في أن الإيبيغراما هذه؛ كانت تصف حياتهم من خلال الحوارية التقليدية مع الغريب المار من أمام القبر، في حين أن ميلياغروس قد وصف بالإضافة إلى الحوارية التقليدية، كلاّ من المدن التي عاش فيها، وعمره الذي مضى، واسمه واسم وعائلته، ومكان ولادته بأسلوب غير متكلف، وبالتالي غير مألوف في التقاليد الجنائزية. ففي خروجه هذا عن كلاسيكيي نمط الإيبيغراما التأبينية، يصف الشاعر أصوله على أنها عابرة للحدود ومتعددة الثقافات، بدلاً من التركيز على الهوية الهلنستية لديه:
“وجوه صور الفاتنة
وأرض جدارا الطاهرة
جعلت منه رجلاً
شواطئ كوس
وكرام الميروبيين
أكرموا شيخوخته“.
وعليه، فإن ميلياغروس يؤكد هنا على انتمائه لمجموعة العظماء المشرقيين المغتربين عن مساقط رؤوسهم، والمستقرين في جزيرة كوس، وقد ذكر تلك المدن الثلاث: جدارا وصور وكوس، في إيبيغرامين آخرين يركز في كل منهما على مرحلة محددة من عمره: فإحداهما عن مولده وطفولته في جدارا، والأخرى عن شبابه في صور وكهولته في كوس. كما أن خلفيته الثقافية المستقاة من هذه المدن تنعكس بوضوح على خاتمة الإيبيغراما الأخير هذا، حيث يحيي بتحية الوداع التقليدية بالسورية واليونانية والفينيقية، كما ولو أنه يحرص على تبادل المباركة والمحبة مع المار من قبره مهما كانت ثقافته أو انتماؤه.
إن الجو متعدد الثقافات هذا يمكن تفسيره من خلال فهمنا لمدى فخر ميلياغروس بهويته السورية من جهة، وتعاطفه مع تيار الفلاسفة الكلبيين من جدارا من جهة أخرى. وسواء آمنا بأن ميلياغروس كان متحدثاً بالسورية (الآرامية) أو بالفينيقية بالإضافة إلى اليونانية أو لم نؤمن بذلك، يبقى متوجباً علينا في كل الأحوال أن نفهم هذه الأبيات من المنظور الحرفي والشخصي أيضاً.
إن توجه ميلياغروس بالسلام بالسورية والفينيقية واليونانية؛ هو تذكرة منه لنا بأسلوب شعري بأنه إنسان ذو أواصر ارتباط شخصية مع كل من جدارا وصور وكوس. فقد وصف ميلياغروس بحد ذاته مدينة مولده وطفولته جدارا بأنها “تتموضع بين السوريين”، ولكن على اعتبارها “موطناً متهليناً” فإن هذا يعني أنه لم يكن بالضرورة يتحدث السورية في مرحلة من مراحل حياته، بل هي أقرب لكونها إشارة لمرحلة جدارا في حياته، تلك المرحلة التي عاش فيها في مدينة تتحدث باليونانية من المدن العشر (ديكابوليس) والتي تتموضع في قلب المنطقة الناطقة بالسورية، وبالمنطق نفسه فإن الإشارة للسلام على الغريب الفينيقي تعكس فترة حياة ميلياغروس في صور، ولا تعني بالضرورة أن ميلياغروس كان متحدثاً بالفينيقية.
إذن، إن العرض متعدد اللغات في هذه السطور يقف شاهداً على حضور مميز لميلياغروس في هذا المجال من الشعر التأبيني خلافاً للنمطي من غيره. وإنه لمن الطبيعي جداً وغير المستبعد، أن يمر سوري أو فينيقي بمقبرة في كوس كما قد يتبادر لذهن القارئ، فللقصيدة هنا خلفية واقعية ومنطقية خاصة إذا علمنا مدى عولمة ثقافة هذه الجزيرة كوس، وازدهار الجاليات السورية والنبطية والفينيقية فيها. وقد كانت حاضرة فيه كوس أيضاً جالية من صيدا ومن صور المحببة إلى قلب ميلياغروس، هذه الجالية شملت شخصيات حملت أسماء إغريقية كحال ميلياغروس، ولكنهم أيضاً مثله لم يخفوا أصولهم المشرقية في كتاباتهم على شواهد القبور، بل على العكس، كانوا غاية في الفخر بتراثهم التوأمي – الهلنستي والمشرقي معاً. وعلى اعتبارهم كانوا مصنفين كمقيمين أجانب على الجزيرة، فقد توجه لهم ميلياغروس بالتحية التقليدية بلغتهم، ولكنها هنا حملت معنيين اثنين.
والأكثر من ذلك، أن تعدد لغات شاهدة قبر ميلياغروس ليس فقط عائداً للجو العولمي في جزيرة كوس، بل هو أيضاً مرتبط بتعدد لغات النقوش هناك بشكل عام. وإن معاينة النقوش على شواهد القبور السورية والفينيقية المنتشرة هنالك تسلط الضوء على خلفية الدافع الذي حذا بميلياغروس لأن يبتدع هذا الأسلوب.
لكي نفهم ذلك، علينا أولاً أن نحدد بأيّ لغة تحديداً نتوقع أن يرد الغريب السوري هذا الـ”سلام” على روح ميلياغروس. على اعتبار أن الشاعر يصف كلاً من نفسه ومدينته على أنهما “سوريان”، فإن نقطة ارتكازه هنا هي مسقط رأسه في جدارا. ومن منظور جيوسياسي في حقبة القرن الأول قبل الميلاد فإن الإنسان الجَداري السوري غير الإغريقي هو إما متحدث بالآرامية الفلسطينية من المدن العشر (ديكابوليس)، وإما متحدث بالعربية النبطية من المنطقة المحيطة بها. ولكن وعلى اعتبار أن الإيبيغراما النبطية كانت تكتب بالآرامية بكل الأحوال فإن “سلام” هنا هي من جذر آرامي ولا شك. وقد اعتاد الأنباط أن ينقشوا كلمة “سلام” للترحيب بالمسافرين الأنباط القادمين أو توديع الراحلين في عصر ميلياغروس. كما أنها أيضاً قد لحظت في الإنجيل السرياني كتحية حوار حقيقية.
ولكن، وعلى اعتبار أن الأنباط كانوا حاضرين في جزيرة كوس خلال الفترة التي قطنها فيها ميلياغروس، فإن استعماله لكلمة “سلام” ضمن المعنى التوديعي، يذكر جمهوره بالطقس النبطي للتأبين، وكأنهم يودعون المتوفى ويفارقونه. المدهش هو استخدام هذه الصيغة النقشية النمطية في مخاطبة أيّ مارّ في المقبرة النبطية والتي عادة ما يكتب فيها نقش من مثل:
“سلام عبدملكو
ابن عبيدو، ومن قبله
على ذو الشرى وكل الآلهة، ذكرى باقية للأبد
سلام على القارئ“.
فهنا يتلى السلام بداية على روح الراقد في القبر، ومن ثم على المارّ بالقبر القارئ للشاهدة، أما من يمر بقبر ميلياغروس فإنه سيجد تحيته سابقة، ومن بعدها يطلب ميلياغروس للقارئ أن يرد عليه السلام. وفي هذا الأمر عكس للترتيب النبطي النمطي ولكن المفاجأة هي في أن المحتوى ذاته، سلام متبادل بين الراقد في القبر والمارّ. فقد عمل ميلياغروس ببراعة على تحوير نص الشاهدة الإغريقية بما يتناسب مع التقاليد التأبينية النبطية التي شهدها سواء في المدن العشر في سوريا، أو في مقابر المغتربين في كوس. وهذا ليس مجرد ترجمة حرفية للتحية الإغريقية من “خايري” إلى “سلام” فحسب، بل عمل على إيجاد أسلوب تأبيني سوري ينسجم مع الغرض الإغريقي.
أما إذا التفتنا إلى المقابل الفينيقي لتحية “خايري” الإغريقية، فإننا سنقابل عدداً من التحديات النصية واللغوية فيها. فعلى الرغم من كون الصيغة النمطية للنقوش التأبينية الفينيقية تبدي بعض التنوع والاختلاف، فإن كلمة “نايديوس” لا تتفق مع أيّ من تلك التنوعات النمطية. الطرح الأقرب للعقلانية هو تحويرها إلى مقطعين آخرين معناهما “يعيش سيدي”، وهو موضع جدل بشكل عام فيما إذا كانت توديعاً بصيغة الأمر أم بصيغة إسناد إلى مفعول به.
يمكننا رغم ذلك تفحص صيغ الشواهد الفينيقية – القرطاجية بالمقارنة مع إيبيغراما ميلياغروس هذا. هنا نجد أن تحية ميلياغروس هذه تشبه نصاً ثنائي اللغة من بلدة قالمة الجزائرية، وهو نص جنائزي منقوش في الذكرى الخمسينية للفاضل النوميدي (أمازيغي):
“قف أيها المرتحل واقرأ، النقش المحفور على الحجر.. على قبر صدت بن مطت ابن غوطل، النغري الذي حظي بالتاج وعرف بالقوة، والذي عاش خمسين عاماً، وستذكره عائلته للأبد“.
رغم أن هذا النص يستعمل الصيغة النمطية القرطاجية التي تنتهي بها الشواهد التأبينية (… والذي عاش كذا عاماً…) ولاحقة (…. سيذكر للأبد)، فإن استهلال الشاهدة باستيقاف المارّ بالقبر ودعوته لقراءة الشاهدة ينسجم بشكل مباشر مع النمط اليوناني اللاتيني للشواهد. وحيث أن النصوص القبرية الفينيقية تبتعد عن التأبين لتركز على مخاطبة المار بالقبر، فإنهم يضيفون إلى ذلك لعنة عليه في حال تعرض للقبر بالتخريب، ولكن في نص قالمة هذا نجد المار بالقبر مدعوا للتوقف والقراءة.
حتى لو كان هذا المثال غير ممثل نموذجي للشواهد القرطاجية، فإنه يظهر مدى انتشار هذا النمط من الشواهد خلال الفترة الهلنستية. وبالتالي فإن ميلياغروس إذ يشير للحوار بين الفينيقي المارّ بالقبر والراقد فيه، فإنه يمدد نمط التوديع في شاهدة القبر الإغريقية ليعانق التقاليد المتبعة سلفاً في التراث الجنائزي الفينيقي.
مما سبق من تحليل، نجد أن أسلوب ميلياغروس معقد وراق في آن واحد، ولكنه ليس خيالياً أو منفصلاً عن الواقع بأيّ شكل من الأشكال، بل ترتبط عبارات توديعه بالمجتمع السوري – الفينيقي على جزيرة كوس، ويبرز الجو متعدد الجنسيات لغرض إيصال سيرة حياة تحكي عن أصله وجذوره، وهذا يتم بأكثر من مجرد ترجمة حرفية لعبارات التحية من اليونانية للسورية والفينيقية، بل بالإشارة المستحقة لطقوس وأصول كتابة الشواهد لدى هؤلاء.
ختاماً، إن شعر إيبيغراما الخاص بميلياغروس هذا والذي كتبه لكي ينقش على قبره ليس مجرد خفة ظل وممازحة من ميلياغروس لمن يمر بقبره، ولا هو صلاة يدعي البعض أنه ذكرها في كتابه السابق (الصلوات)، بل هو آية في الأصالة والإبداع.